بمجرد ذكر اسم سينيد أوكونور (باللهجة المحلية شينيد أوكونور)، لا يتبادر إلى الذهن فقط المطربة ومؤلفة الأغاني الأيرلندية صاحبة الموهبة التي لا مثيل لها والصوت النساء القوي واللون الغنائي المميز، وإنما أيضاً صاحبة مفاهيم أخرى من بينها الاختلاف والتميّز والجرأة والشجاعة والتمرد وربما إثارة الجدل.
توفيت سينيد الأربعاء 26 تموز/ يوليو 2023 عن عمرٍ ناهز 56 عاماً ليسدل الستار على حياة حافلة بالتحدي والصمود لكن أيضاً العذابات والألم. في بيان مقتضب، أبلغت عائلتها بخبر وفاتها. كتبت: "ببالغ الأسى، نُعلن وفاة حبيبتنا سينيد. عائلتها وأصدقاؤها محطمون ويطلبون مراعاة الخصوصية في هذا الوقت الصعب للغاية".
نبذ الشهرة التقليدية
بدأت شهرة سينيد، المولودة في جنوب دبلن في عام 1966، مع إطلاقها أول ألبوماتها عام 1987 وقد رُشح لجائزة غرامي المرموقة، تحت عنوان الأسد والكوبرا. لكن أغنيتها "Nothing Compares 2 U" أو "لا شيء يقارن بك" أطلقت شهرتها عالمياً. الفيديو الرسمي للأغنية على YouTube حقق أكثر من 400 مليون مشاهدة.
وبعدما أصبحت برأسها الحليق الشهير، من أهم الأسماء في عالم موسيقى البوب، لم تقنع سينيد بمسار الشهرة المألوف بل كانت تشعر بمسؤولية كبيرة عليها لتوظيف شهرتها ونجاحها ومتابعة الملايين حول العالم لها في خدمة القضايا الإنسانية التي تراها عادلة، وفي الدفاع عن حقوق الفئات المهمشة في وقت مبكر للغاية، ما جعلها في نظر الكثيرين "سابقة لعصرها".
عام 2014، ألغت سينيد حفلها في إسرائيل، مؤكدةً انحيازها للشعب الفلسطيني. قالت آنذاك: "على المستوى الإنساني، لن يكون لدى أي شخص عقل، بما في ذلك أنا، أي شيء سوى التعاطف مع المحنة الفلسطينية"
يمكن القول إن سينيد نبذت النجومية التقليدية طيلة مسيرتها المهنية. لم لا وقد كانت تعتبر أنها مجرد "متمردة تغني غناءً احتجاجياً". في تصريح لصحيفة "نيويورك تايمز" عام 2021، قالت سينيد: "كانت وسائل الإعلام تجعلني أشعر بالجنون لأنني لم أكن أتصرف كما ينبغي أن يتصرف نجم البوب. بدا لي أن كونك نجم موسيقى البوب يكاد يشبه أن تكون في سجن ما… عليكِ أن تكوني فتاة جيدة فقط". ولأن ذلك لم يكن يشبه ذاتها، تمردت عليه غير آبهة بالتبعات.
كان الدين والروحانية محركين رئيسيين في حياة سينيد. وقد ساهما في ظهورها بشكل أكثر اختلافاً عن غيرها. على يدها وشمت: "أسد يهوذا سوف يكسر كل سلسلة" (the lion of Judah shall break every chain) وعلى صدرها ظهر وشم كبير للمسيح. وعلى رقبتها كان هناك اقتباس آخر من الإنجيل: "كل شيء يجب أن يمر" (all things must pass).
وفي أواخر تسعينيات القرن الماضي، رُسمت سينيد كاهنة من قبل أسقف في مجموعة كاثوليكية مستقلة حيث لم تكن الكنيسة الكاثوليكية تعترف بكهانة النساء. قالت سينيد حينها إنها تريد أن تُعرف باسم "الأم برناديت ماري". لاحقاً في عام 2018 اعتنقت الإسلام وغيرت اسمها إلى "شهداء صدقات"، لكنها واصلت الغناء باسمها الأصلي.
حتّى وهي مسلمة ومحجبة كان حجابها أحياناً يكشف عن جزء من رأسها الحليق، وكانت السيجارة لا تفارق يدها في أوقات عديدة. كما كانت تحتفظ في منزلها الريفي برسوم للإلهة الهندوسية دورغا.
يتذكر الجمهور سينيد باعتبارها ثائرة وناشطة مشتبكة بقدر ما يرونها نجمة في عالم البوب منحت النساء نموذجاً لكيف يمكنهن أن يكن أقرب لذواتهن ولا يخضعن لقوالب معلبة ليصبحن نجمات
محطات حاسمة من حياتها
قضايا عديدة ناصرتها ورفعت سينيد الصوت بشأنها: حقوق المرأة وخاصة المرأة الأيرلندية، مسألة الصحة العقلية والنفسية، مسألة التستر على الاعتداءات الجنسية على الأطفال في الكنائس والجمعيات ودور الرعاية الملحقة بها، وإنهاء الوصمة والتمييز ضد المتعايشين والمتعايشات مع فيروس نقص المناعة البشرية.
ساهمت أيضاً في إنهاء الوصمة بشأن المرض العقلي والنفسي بأحاديثها المتكررة عن معاناتها معها سواء في المقابلات الإعلامية أو عبر حساباتها على مواقع التواصل الاجتماعي، وهي تطلق النكات حول ذلك أحياناً وهي منهارة وحزينة في أحيان أخرى.
كل هذه القضايا تكتسب زخماً ومناصرة واسعة النطاق الآن. لكن سينيد كانت تفعل ذلك قبل نحو أربعة عقود أي أن ذلك كان يتطلب منها أن تكون شجاعة للغاية وسابقة لعصرها، وغير آبهة للشهرة أو المكانة التي استحقتها بجدارة. مع ذلك، أوقعها ذلك مرات ومرات في أزمات هددت حياتها المهنية بقوة.
في الثالث من تشرين الأول/ أكتوبر 1992، مزّقت سينيد صورة البابا يوحنا بولس الثاني وهي تغني "لدينا الثقة في انتصار الخير على الشر" في "ساترداي نايت لايف"، في إدانة علنية منها للاعتداءات الجنسي على الأطفال في الكنيسة الكاثوليكية. قالت آنذاك وهي تُلقي بأجزاء الصورة الممزقة نحو الكاميرا: "حاربوا العدو الحقيقي".
تسبب هذا الموقف في خسائر مؤثرة لسينيد حيث تعرضت لتهديدات بالقتل، كما قاطعت شبكات ومؤسسات إعلامية كبيرة بث أخبارها وأغانيها، وتعرضت لهجوم شديد حتّى من زملاء وزميلات لها، ومُزّقت صورها وشرائط أغانيها. كل هذا لم يخوّفها أو يدفعها للتراجع عمّا اعتبرته "قول الحقيقة".
عام 1992، مزّقت سينيد صورة البابا يوحنا بولس الثاني في إدانة علنية منها للاعتداءات الجنسية على الأطفال في الكنيسة الكاثوليكية. عرّضها ذلك لتهديدات بالقتل وخسائر مؤثرة على الصعيد الفني، ولم تندم على "دعم الحقيقة" يوماً
برغم اعتراف الكنيسة الكاثوليكية لاحقاً بالاعتداءات الجنسية وظهور تقارير متزايدة على تستر البابا يوحنا بولس الثاني على الحوادث، لم يغفر البعض لسينيد تمزيق صورة البابا باعتباره "فعلاً استفزازياً". أما هي فلم تندم عليه. قالت في حديثها لـ"نيويورك تايمز" إن الفعل الذي اعتبر نقاد أنه "قتل مسيرتها الفنية" على العكس من ذلك "أعادني إلى المسار الصحيح".
وفي عام 2014، ألغت سينيد حفلاً مقرراً لها في إسرائيل، مؤكدةً انحيازها للشعب الفلسطيني في محنته مع الاحتلال. قالت آنذاك: "على المستوى الإنساني، لن يكون لدى أي شخص أي عقل، بما في ذلك أنا، أي شيء سوى التعاطف مع المحنة الفلسطينية. لا يوجد شخص عاقل على وجه الأرض يعاقب بأي شكل من الأشكال السلطات الإسرائيلية على جرائمها".
في عام 2021، نشرت سينيد مذكراتها في كتاب بعنوان "ذكريات"، تحدثت فيه بصراحتها المعهودة وبالتفصيل عن تعرضها لإساءة معاملة في الطفولة على أيدي والدتها التي توفيت في حادث سيارة عام 1985 (كان عمر سينيد وقتها 18 عاماً). وكانت منفتحة فيه على بعض مآسي المراهقة والشباب بما في ذلك سنواتها دراستها المضطربة، ومعاناتها مع هوس السرقة، وما مرت به خلال أربع زيجات انتهت جميعها بالانفصال، ومحنة اعتلال الصحة العقلية، وخضوعها لعملية استئصال الرحم.
لكن انتحار ابنها شين عام 2022 (قبل 18 شهراً فقط)، عن عمرٍ ناهز 17 عاماً، كان بمثابة ضربة قاصمة لسينيد التي كان لديها ثلاثة أبناء آخرين. لكنها كانت تصف شين بأنه الأقرب لروحها. يقال إنها ظلت تعاني الاكتئاب الحاد منذ وفاته حتى رحيلها.
مطلع هذا العام، فازت سينيد بجائزة "الألبوم الأيرلندي الكلاسيكي" ضمن "RTÉ Choice Music Prize awards". مرة أخرى أعطت المثل بأن منحتها لمجتمع اللاجئين في أيرلندا، قائلةً: "أنتم مرحب بكم للغاية في أيرلندا. أحبكم كثيراً وأتمنى لكم السعادة".
بعد وفاتها، عقّب كولم أوغورمان، المدير التنفيذي لمكتب منظمة العفو الدولية في أيرلندا، "كم أنا حزين لسماع هذا الخبر. يا لها من خسارة! قلّة من الفنانين فقط كان لهم مثل هذا التأثير الثقافي والاجتماعي كما سينيد". كان أوغورمان في عداد ضحايا الاعتداءات الجنسية في الكنائس والدور الملحقة بها. كما رثت العفو الدولية في أيرلندا "موسيقية قوية وناشطة حقوقية شجاعة ناضلت من أجل حقوق المرأة في أيرلندا وفي جميع أنحاء العالم".
وتحدث كثيرون عن مناقبها وسردوا مواقفها الداعمة وتبرعها للفئات المهمشة ومجتمع الميم عين تحديداً. كانت سينيد قد صرّحت ذات مرة بأنها مثلية الجنس على الرغم من زواجها بأربعة رجال وإنجابها أربعة أبناء.
يتذكر الجمهور سينيد باعتبارها ثائرة وناشطة مشتبكة بقدر ما يرونها نجمة في عالم البوب منحت النساء نموذجاً لكيف يمكنهن أن أقرب لذواتهن ولا يخضعن لقوالب معلبة ليصبحن نجمات. لعل هذا ما دفع مسؤولون في بلدها للقول إن "أيرلندا فقدت واحدة من أعظم رموزها الموسيقية" بوفاتها. يجدر بنا أن نقول أن العالم أجمع، لا أيرلندا وحدها، فقد رمزاً موسيقياً وإنسانياً مهماً…
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون