شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
الاعتداءات مستمرة على الفنانين والفنانات في فلسطين… حديث الستائر المحترقة

الاعتداءات مستمرة على الفنانين والفنانات في فلسطين… حديث الستائر المحترقة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الخميس 4 أغسطس 202203:17 م

وسط التبدلات الاجتماعية والسياسية التي تعصف بفلسطين والعالم العربي، ثمّة ظواهر يمكن اعتبارها نتاجاً للانقسامات والاستقطابات السياسيّة والدينيّة، بدأت تأخذ مكانها في الحيز العام، وتمثلت خلال الأشهر الماضية بسلسلة من الاعتداءات على الفنّانين الفلسطينيّين، في مشهد يدقّ ناقوس خطر لا يمكن تجاهله.

شهدت فلسطين خلال السنوات القليلة الماضية عشرات حالات الاعتداء والحرق والتخريب لمطاعم وفنادق ومطاعم ومسارح ودور سينما وأعراس مختلطة وأحداث أخرى كثيرة، حتّى بدأت مجموعات من الناس تحاول فرض بلطجتها على المجتمع، في محاولة لأن تصبح هي القانون، في ظلّ غياب أي رادع قانوني وغياب مهين للسلطة والشرطة، وصولاً إلى تحوّلها إلى "ظاهرة بارزة".

نشرت "مؤسسة عبد المحسن القطّان" الفلسطينيّة في بيان: "تعرضت مؤسسة عبد المحسن القطّان لتهديد مجهول المصدر في محاولة لمنعها من تنفيذ أمسية موسيقية في مركزها الثقافي برام الله للفنان الفلسطيني جوان صفدي بحجج غير واضحة، ولا سيّما في ظل ما تشهده الحياة الثقافية الفلسطينية في الفترة الأخيرة من حوادث الاعتداء ومحاولات المنع المؤسفة، التي تخللها عنف جسدي ولفظي وتهديد صريح طال عاملين وناشطين ثقافيين وفنانين ومؤسسات متعددة، وصل حدّ الإلغاء في عدد منها".

وأعلن الفنان الفلسطيني جوان صفدي عبر صفحته الشخصيّة على فيسبوك، إنّه مضطرّ لإلغاء عرض "ستاتوس كوو" المقرّر في مؤسسة عبد المحسن القطّان، بعد وصول عدّة تحذيرات غليظة، وتهديدات بلطجيّة، وادّعاء الشرطة عن "عجزها" عن توفير الحماية له وللجمهور، وإصرارها على الإلغاء، في تنصّل تام من أبسط مبررات وجودها.

وقال صفدي: "مبدئيا فش أي سبب نكمّل نقدّم فن وثقافة في بلد ما حدا بتحاسب فيه على العنف والتحريض وتخريب الساحة الثقافيّة وترهيب الفنانين واستباحة أجساد وأعراض وكرامات الناس. الفن إذا استمرّ عادي في هاي الحالة رح يكون ماشي الحيط الحيط لا بقدّم ولا بأخّر، ترفيه وتطبيل وبزنس رخيص… بلاش نكذب على حالنا، الناس اللي تهاجمت وانضربت تهدّدت وألغت عروض وحفلات تحت التهديد عارفين لأي قاع وصلنا وعارفين مين وليش. والباقي حاسين وساكتين والدور جاي ع الجميع".

وأضاف "من حقنا وواجبنا نتساءل اليوم مين اللي قاعد يفرّق بين الناس ويحرّض فرقة على أختها؟ البلطجية اللي بهدّدوا وبهاجموا فعاليات ثقافية وحفلات ومسيرات بحياتهن مش سامعين عنها من قبل، بحجّة العادات والتقاليد والعقائد، وما حدا منهن بتحاسب، هني متل المستوطنين اللي بهاجمونا بالمظاهرات والشوارع والبيوت. بتحاسبوش ليش؟ بعملوا الشغل الوسخ تبع مين؟ بسكتوا كل صوت حر، مختلف، معارض. بهاجموه وبحرضوا عليه العالم، نيابة عن مين؟".

بلاش نكذب على حالنا، الناس اللي تهاجمت وانضربت تهدّدت وألغت عروض وحفلات تحت التهديد عارفين لأي قاع وصلنا وعارفين مين وليش. والباقي حاسين وساكتين والدور جاي ع الجميع

هذه التهديدات التي يتلقاها العاملون في المجالات الفنّية والثقافيّة ليست نتاج اللحظة، إذ نشر "المستودع الثقافي" في رام الله بياناً قبل أيّام حول الاعتداء الذي تعرّضت له المؤسّسة في 17 حزيران/ يونيو 2022، إذ "دخلت مجموعة من حوالي 40 شاباً إلى المكان، مطالبين بنبرة تهديديّة بإنهاء العرض، ثمّ اعتدوا على المكان بالحجارة والبلاط المكسور، واستمرّ الاعتداء لحوالي 30 دقيقة، ما أدّى لإصابة شخصين من الحاضرين بجروح وتدمير واجهة المستودع بكاملها. وعقب ذلك، استهدفت حملة تحريضية انخرط فيها حوالي 200 ألف من مستخدمي منصات التواصل الاجتماعي، تاركين فيها آلاف التعليقات المحمّلة بالكراهية والتحريض على القتل، بالإضافة إلى حملات التشويه التي طالت الفنّان بشار مراد على صفحات التواصل الاجتماعيّ".

وفي وقت سابق أعلن القائمون على مهرجان "بووم بوكس" لموسيقى الهيب هوب، عن تأجيل المهرجان الذي كان مقرراً إقامته في مدينة بيت ساحور حتّى إشعار آخر، بسبب "تحريض ومخاطر أمنيّة ضدّ المهرجان وزائريه ومنظّميه"، وفق ما جاء في البيان المنشور، وهو ما يلقي الضوء بطبيعة الحال على أحداث أخرى مشابهة على مرّ السنوات الماضية، مثل الاعتداء على حفل للفنّانة سما عبد الهادي في "مقام النبي موسى". ثمّ اعتقالها بعد ذلك، على الرغم من حصول القائمين على الحفل على تصاريح وزارة السياحة.

في عام 2020، استنكرت مجموعة من الفنّانين والفنّانات الاعتداءات اللفظية والمعنوية التي تعرّضت لها الفنّانات الفلسطينيّات، أميرة حبش وقدس مناصرة وعشتار معلّم، وغيرهنّ، من خلال حملات مكثّفة على مواقع التواصل الاجتماعيّ. وقد أصدرت في حينه "شبكة الفنون الأدائيّة" بياناً انتقدت فيه هذا الهجوم واعتبرته مقيّداً لحريّة الرأي، ونوّهت بأنّ هذا يمكنه أن يُعرقل مسيرة التحرر من الاحتلال الإسرائيلي. وقبلها بشهور، هاجمت مجموعة من بلدة زيمر في الداخل الفلسطينيّ، القائمين على تنظيم حفل للفنّان الفلسطينيّ هيثم خلايلة في البلدة، وطالبت في بيان منع هذا الحفل، تحت ادّعاءات حول "الخوف على مستقبل الشباب"، إذ اشتمل البيان العنيف الذي أطلقته المجموعة كلمات بشأن "انهيار الأخلاق، بثّ السوء، الرذائل، الزنا، الشرّ، الغناء بريد الزنا"...

دمى ملوّنة وأخرى غير ملوّنة

عشيّة عيد الأضحى، قام فنّانون وفنّانات من "مسرح عشتار الدولي" في رام الله بالبدء في فعاليات تعلن انتهاء المهرجان واحتفالاً بالعيد، ليفاجأ القائمون على الحدث بهجوم شنّته مجموعة من الزعران والبلطجيّة على المشاركين في المسيرة، من خلال الضرب والجلد والركل والسحل والشتائم، بالإضافة إلى تكسير الدمية - بحجّة أنّها ملوّنة - بعد اتّهامات كثيرة للمشاركين بـ"الدعوة للمثلية الجنسية والانحطاط الأخلاقي".

لطالما كان الفنّ الفلسطينيّ رافعة مهمّة للقضيّة الفلسطينيّة وعدالتها، لكن ما يحدث مؤخراً في فلسطين، يُشير إلى أنّ الفنّ الفلسطينيّ بدأ بالانحسار داخل الغرف المغلقة والمسارح المعتمة، حتّى كاد يصبح غريباً بين الناس، بسبب التحريض المجتمعي الذي طال كلّ ما هو مختلف عن "السائد"، ممّا يمكن أن يوسّع الفجوة بين المجتمع الفلسطيني ونفسه، وبين الفنّ وحاضنته الاجتماعيّة، في ظلّ صعود موجة "الإسلام السياسي".

المهرجان الفنّي لعشتار جاء بمباركة وزير الثقافة الفلسطيني عاطف أبو سيف، الذي سبق أن شارك بعدد من المشاريع الكتابيّة مع مسرح عشتار، وذلك كما أكّد في صفحته الشخصيّة على فيسبوك، إذ حصلت المسيرة على ترخيص الجهات المعنيّة للوجود في الشارع.

 ما يحدث مؤخراً في فلسطين، يُشير إلى أنّ الفنّ بدأ بالانحسار داخل الغرف المغلقة والمسارح المعتمة، حتّى كاد يصبح غريباً بين الناس، بسبب التحريض والعنف الذي طال كلّ ما هو مختلف عن "السائد"

تقول الفنّانة المسرحيّة إيمان عون، المؤسّسة في مسرح عشتار الذي تعرّض للاعتداء لرصيف22: "لم نلق الحماية من رجال الأمن لمدّة ساعتين… كلّ المحاولات كانت غير كافية لضمان سلامة المشاركين".

وتضيف: "هناك جيل جديد لا يعرفنا. لا يعرف عملنا وانخراطنا في المشهد الثقافي الفلسطيني على مدار عقود، هناك جهل بمسرح عشتار والثقافة الوطنية الفلسطينية من هذا الجيل المنغلق على فكرته. لقد سمحوا لأنفسهم بالتعدّي على مسيرة فنّية، بفنّانينها المحلّيين والضيوف الأجانب، هم بإرادتهم الشخصيّة - أو إرادة أكبر منهم - اندفعوا للتعدّي على الثقافة بشكل سيّئ".

وتكمل عون: "كان الضرب يلاحقنا من مكان الانطلاق، حتّى مبنى بلدية رام الله لمدة ساعتين، لقد تعرضنا للاتهام بالعمالة، رشقوا في وجوهنا إشاعات واتهامات باطلة بشكل وحشي".

خطى عرجاء

محاولات السيطرة على الفضاء العام الفلسطيني، تضعها جماعات وأفراد بناء على اجتهادات عشوائية، في تخطّ واضح للقانون الأساسي الموضوع والعقد الاجتماعي الذي يقوم عليه المجتمع، وهو ما يمكنه أن يعرّض حياة الناس للخطر، بالإضافة إلى حظر الحرية الفكرية وحرية الرأي والاختلاف، مما يضعنا أمام تساؤلات كبيرة حول دور القانون في الحفاظ على "تنوّع المجتمع وسلامته".

تتابع عون: "غباء أولئك يجسّد سلطة أخرى فوق القانون بدون أيّ معايير ودون أيّ مراعاة للحالة الثقافية". وتضيف: "إنّهم يريدون المجتمع بلون واحد، وهذا لن يحدث في أيّ مجتمع، أيّاً كانت ظروفه، إنّهم يخافون من التعدّد، يخافون من الألوان… لا بدّ من تدخّل حقيقي في المدارس، لا بدّ من العمل مع الطلّاب لمنع تدهور الحاضنة الاجتماعيّة للثقافة".

يحرص الفنّانون والفنانات على إبقاء شعلة الأمل في رؤية الأفكار والأعمال الفنّية تنمو كعشب طريّ بين الناس، ويلمع أثرها في العقول، لكن أن يجد عكس ذلك تماماً، من عداء وهجوم وتعنيف وسب وقذف ودم على الأرض، يجعل من رحلته هذه خطراً حقيقياً عليه وعلى الحاضنة الاجتماعيّة. تضيف عون :"شعرت بالحزن عندما واجهنا المعتدون المنفلتون: أنتم مثليّون. عملاء للاحتلال".

وعن ردّة فعلها وقت الهجوم وتكسير الدمية الملوّنة، قالت: "الاعتداء على دمية ملوّنة، كما باقي ألعاب الأطفال، ليس أكثر من خوف من الفكرة التحررية، إنّه الخوف من التغيير الذي لم يعتده أولئك. أنا حزينة على هؤلاء الشباب، ووددت لو رأيتهم يرتادون المسرح ويقرأون الكتب ويهتمّون بالشعر والدبكة، وأنا عندما كنت في مثل عمرهم هرٰبت العديد من الكتب في أرغفة الخبز. لقد كانت هذه الكتب ممنوعة في وقتها، إنّني أدعوهم لهذا الحسّ الوطنيّ الذي تربّينا عليه".

إنّهم يريدون المجتمع بلون واحد، وهذا لن يحدث في أيّ مجتمع، أيّاً كانت ظروفه، إنّهم يخافون من التعدّد، يخافون من الألوان… لا بدّ من تدخّل حقيقي في المدارس، لا بدّ من العمل مع الطلّاب لمنع تدهور الحاضنة الاجتماعيّة للثقافة

لا يمكن بالطبع نسيان دور الاحتلال في هذا، إذ لطالما حاول نسف المسيرة الثقافيّة الفلسطينيّة بأدواته المتعددة، لضمان خراب النسيج الثقافي والاجتماعي الفلسطيني، وذلك من خلال - وكما هو معروف للجميع - مداهمة المدارس واعتقال الطلّاب والمعلّمين وإغلاق المسارح وغيرها الكثير، في محاولة لتكريس الجهل والعنف على حساب أي مشروع كان ثقافياً أو اجتماعياً أو اقتصادياً…

تُضيف عون: "لقد فشلنا في أن نصل إليهم، ولديّ إحساس بعدم القدرة على التأثير. ما حدث خيبة كبيرة لا يمكن حصرها، أن نكون في مواجهة خاسرة أمام من نعمل من أجله لسنوات طويلة".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image