هذا المقال جزء من ملفّ "على رصيف المستقبل"، بمناسبة عيد ميلاد رصيف22 العاشر.
خلال الاحتجاجات التي انطلقت في العاصمة اللبنانية بيروت، في 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019، كان جسر الرينغ الذي يقع بين الأشرفية ووسط بيروت حيث كانت تقام التجمعات، محطةً يوميةً للمحتجين، كونه يُشكّل جسراً حيوياً بين أجزاء بيروت المختلفة. وعليه، كان قطع الطريق والتظاهر الدائم عليه من الرسائل التي كانت تُعدّ مؤثرةً، والتي فيها ليّ نسبي لذراع النظام الأمني الذي كان يحرص على ألا تُقطع الطرقات، وأن تعود الحياة إلى طبيعتها وكأن شيئاً لم يكن.
كان في المشهد بحد ذاته، أي التجمع وقطع الطريق والشعارات، الكثير من الأمل، أو الكثير مما اعتقدنا أنه خطاب جامع ورؤية موحِّدة لجيل يريد أن يحيا في بلاد لا تريده. كان مشهد اليوغا الصباحية على طريق حيوي -مقطوع بسبب الصيانة والتصليحات- وحده كافياً لكي يعتقد المرء أن الأمور بخير، وأن المحتجين بدأوا بكسر أنماط قديمة للاحتجاج، وخلق ما يُمكن أن يكون كسراً للنمطية، في بلد كان يُنمَّط فيه كلّ شيء، لكيلا يكون هناك شيء.
أذكر أنه بعد نحو 12 يوماً على بدء الاحتجاجات، كنا نقف إلى جانب الطريق عند تقاطع الرينغ، أنا ومجموعة من الأصدقاء المواظبين على الساحة وعلى الاحتجاج وعلى قول لا. في وسط الطريق مجموعات كثيرة تقطعه وتهتف ضد الفساد والأحزاب ومنظومة مالية وسياسية تتكامل في نهب أحلامنا. فجأةً، بدأت تظهر مجموعات تنزل من جهة الخندق الغميق، وهي منطقة توالي الثنائي الشيعي الرافض للاحتجاجات كما غالبية الأحزاب الطائفية، وهي تهتف بشعارات طائفية، وللزعيم الواحد، وللقائد والسيّد وما إلى هنالك من تعابير تبجيلية. ثم هجموا. يريدون فتح الطريق بالقوّة. كانوا يقولون إنهم يريدون أن يذهبوا إلى أشغالهم، وإن حياتهم معطّلة. طبعاً لن نحكي عن الحياة المعطّلة. المهمّ، ضربوا من استطاعوا إليهم سبيلاً، وأبعدوا الحواجز الإسمنتية، وانتصروا في غزوتهم.
الذاكرة الثقيلة تمر على عواصم عربية عدة، وما جرى فيها، من تونس إلى بغداد وصولاً إلى صنعاء وما بينها، ثم تقف عند واقع ما يجري اليوم. بلاد صارت هامشيةً أكثر، تعاني كما لم تعانِ يوماً من الأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. يبحث فيها ناسها عن لقمة العيش لا أكثر
بجانبي، كانت هناك مجموعة من الشابات والشبان. عادوا أدراجهم بعد أن كانوا في وسط الطريق عند غزوة الجيران. قال أحدهم إنه لا يستطيع أن يواجه هؤلاء الناس، وإنه "لا يريد هذه المواجهة"، أي هذا الاقتتال، وإنه ليس مستعداً لهذا النوع من العنف. كانت أحلامه حينها ورديةً أكثر من اللازم. اتّضح لي أنه ورفاقه ليسوا وحيدين في ذلك. أحلامنا جميعاً كانت ورديةً أكثر من اللازم. لكن في حالته، أي جيل الثانوي والجامعة آنذاك، كان واضحاً أن "ضربة الكف" كافية لكُثر كي يتراجعوا.
منذ تلك الغزوة، حرصت على مراقبة وجوه الناس. حرصت على مراقبة أعمارنا في ساحة كنا ننظر إليها كمساحة لمستقبلنا. اللافت أنه يوماً بعد يوم، كانت هذه الفئة تتراجع، وتقلّ وكأن الاحتجاجات قد هرمت سريعاً. في فترة من الفترات، كان طلاب المدارس يحملون خطاباً تغييرياً متقدماً أكثر بكثير من كل الخطابات التي كانت تُقال على منصات عدّة أقيمت في الساحة، لتحتضن كُل من لديه مشروع أو كلام أو حتى من لديه أغنية أو قصيدة، بغض النظر عن محتواها وقيمته.
أذكر ذلك الفتى في صيدا وحديثه عن الطائفية والفساد. أذكر طلاب جونية ومقاربتهم لمشكلات هذا البلد والحلول التي يريدونها. كانت واعدةً، لكن سرعتها في الانكفاء كانت تفوق قدرتي على أن أكون متشائماً إلى هذا الحد.
استمرّ هذا المشهد. تراجع الشباب من هنا، وتقدّم النظام و"شبابه" من هناك. عادت إليّ صور كثيرة من بلدان عربية عدة، خرج شبابها من أجل مستقبلهم. تعود بي الذاكرة إلى مصر، إلى طلاب جامعات القاهرة والإسكندرية وغيرهما، وكيف تعامل الأمن معهم حينها، ومن ثم كيف تعامل معهم بعد الانقلاب العسكري. ثم تظهر صورة الطالب محمد أمين الذي قُتل على يد قوات الأمن، خلال تظاهرهِ في جامعته عين شمس في القاهرة ضد الانقلاب. الذاكرة ثقيلة.
حرصت على مراقبة أعمارنا في ساحة كنا ننظر إليها كمساحة لمستقبلنا. اللافت أنه يوماً بعد يوم، كانت هذه الفئة تتراجع، وتقلّ وكأن الاحتجاجات قد هرمت سريعاً.
لشدة ثقلها، تأبى إلا أن تمرّ على حلب وجامعتها. مشاهد التظاهرات فيها كانت بدلالات كثيرة. السوريون لا يخرجون من الجوامع فقط. السوريون يعترضون في كل مكان تسمح لهم الفرصة أن يتجمعوا فيه وينادوا بإسقاط الطاغية. أذكر أيضاً كيف اقتحمت قوات النظام الجامعة في أيار/ مايو 2012، وفرّقت المحتجين العُزّل، وقتلت منهم 4 طلّاب كانوا يحلمون كغيرهم من الطلاب أو المحتجين أو الصامتين.
الذاكرة الثقيلة تمر على عواصم عربية عدة، وما جرى فيها، من تونس إلى بغداد وصولاً إلى صنعاء وما بينها، ثم تقف عند واقع ما يجري اليوم. بلاد صارت هامشيةً أكثر، تعاني كما لم تعانِ يوماً من الأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. يبحث فيها ناسها عن لقمة العيش لا أكثر. شبابها يشاهدون ما يحصل ويكتئبون أكثر ويشتدّ اكتئابهم. صار هروبهم إلى أدوية الاكتئاب أهون من هروبهم إلى الشارع، وهذا ليس انتقاداً لهم أو انتقاصاً منهم. هذا واقعنا جميعاً. صرنا نهرب إلى نسيان ما نحن عليه، لا إلى مواجهة صرنا نراها استنزافاً لما تبقّى لدينا من قدرة على الحياة. نريد أن نستغلّ هذا الكمّ الباقي من النفس، كيف نبقى عند الحد الأدنى، أو كي نبحث عن حياة خارج هذا الشرق المقفل على كل ما له علاقة بالحياة الكريمة، قبل الحرّة.
مطلع هذا العام، تظاهر العراقيون احتجاجاً على سعر الصرف. كانت احتجاجاتهم يتيمةً قبل أن تخرج إلى الضوء. قبلها بـ3 أشهر، حاولوا أن يعودوا إلى الشارع في ذكرى احتجاجات تشرين الأول/ أكتوبر 2019، ولكن...
كان في مشهد الاعتراض على حرق القرآن في السويد، من الثورة والغضب، أكثر بكثير من الاعتراض على واقع الحال ومأساتهم وحجم الفساد الذي تغرق فيه بلادهم. كذلك الأمر في لبنان، وفي مصر، وفي كل بلد عربي، تقريباً.
تلك المساحة الجديدة، "ناس رصيف"، تجعلني أبتسم ولو قليلاً. تجعلني أفكر في أن هذا النقاش، وهذا المكان، وغيره من أماكن تُشبهه، لا بد أن تعبّد الطريق نحو شيء ما، تغيير ما، لا أعرف شكله، ولكن يقيني أن يكون أفضل من محاولاتنا وأقوى من عجزنا الحالي
هل المشهد ميؤوس منه إلى هذه الدرجة؟
في الفترة الأخيرة، استحدثنا في رصيف22 مساحة اسمها "ناس رصيف"، هي مساحة للمشاركة، للقراءة، للبوح. في 26 حزيران/ يونيو الماضي، عُقدت جلسة تديرها الصديقة والزميلة رشا حلوة. استمعت إلى نقاش دار بين شباب وشابات كُثر من الذين يقرأون رصيف22 ويتابعونه، ويهتمّون بكل شيء يتصل بهذه المساحة. في حديثهم/ نّ ومداخلاتهم/ نّ، الكثير من الاختلاف عمّا كان عندي وأنا في عمرهم. غالبيتهم في بداية العشرينات. تحدثوا بأفكار متقدمة، وخلعوا كفوفهم، للدقة لم يكونوا مضطرين أساساً إلى ارتدائها. حتى الاختلاف في ما بينهم كان هادئاً. كان المشهد غريباً نوعاً ما عليّ، أنا الذي أعيش في بلاد لا مساحات فيها للاختلاف ولا حتى للاتفاق.
كان المشهد غريباً، لأنني لم أعتد أن أستمع إلى من يطرح أفكاراً تتناقض مع أفكار غالبية من المتواجدين في الجلسة، من دون أن يحصل هذا الصدام الذي نراه على شاشاتنا. فقبل فترة وجيزة، سياسي لبناني يعدّ نفسه "مرجعيةً"، اعتدى على صحافي بالضرب، وأكمل عليه مرافقوه. لا أعرف كيف انتهت المشكلة؟ فعلياً، انتهت كما لو أنها لم تقع. في اليوم التالي، كان الرجلان يضحكان كُلٌّ من موقعه. هذا ليس الواقع مع جيل اليوم، أو هذا ما أريد أن أرى.
تلك المساحة الجديدة، تجعلني أبتسم ولو قليلاً. تجعلني أفكر في أن هذا النقاش، وهذا المكان، وغيره من أماكن تُشبهه، لا بد أن تعبّد الطريق نحو شيء ما، تغيير ما، لا أعرف شكله، ولكن يقيني أن يكون أفضل من محاولاتنا وأقوى من عجزنا الحالي. أتخيّل أن مساحةً كهذه، قد تكبر يوماً، وتُصبح أوسع من مكان يتّسع للكثير من الاختلاف، وللكثير من المحاولات.
انضم/ي إلى المناقشة
jessika valentine -
منذ 5 أيامSo sad that a mom has no say in her children's lives. Your children aren't your own, they are their father's, regardless of what maltreatment he exposed then to. And this is Algeria that is supposed to be better than most Arab countries!
jessika valentine -
منذ 4 اسابيعحتى قبل إنهاء المقال من الواضح أن خطة تركيا هي إقامة دولة داخل دولة لقضم الاولى. بدأوا في الإرث واللغة والثقافة ثم المؤسسات والقرار. هذا موضوع خطير جدا جدا
Samia Allam -
منذ شهرمن لا يعرف وسام لا يعرف معنى الغرابة والأشياء البسيطة جداً، الصدق، الشجاعة، فيها يكمن كل الصدق، كما كانت تقول لي دائماً: "الصدق هو لبّ الشجاعة، ضلك صادقة مع نفسك أهم شي".
العمر الطويل والحرية والسعادة لوسام الطويل وكل وسام في بلادنا
Abdulrahman Mahmoud -
منذ شهراعتقد ان اغلب الرجال والنساء على حد سواء يقولون بأنهم يبحثون عن رجل او امرة عصرية ولكن مع مرور الوقت تتكشف ما احتفظ به العقل الياطن من رواسب فكرية تمنعه من تطبيق ما كان يعتقد انه يريده, واحيانا قليلة يكون ما يقوله حقيقيا عند الارتباط. عن تجربة لم يناسبني الزواج سابقا من امرأة شرقية الطباع
محمد الراوي -
منذ شهرفلسطين قضية كُل إنسان حقيقي، فمن يمارس حياته اليومية دون ان يحمل فلسطين بداخله وينشر الوعي بقضية شعبها، بينما هنالك طفل يموت كل يوم وعائلة تشرد كل ساعة في طرف من اطراف العالم عامة وفي فلسطين خاصة، هذا ليس إنسان حقيقي..
للاسف بسبب تطبيع حكامنا و أدلجة شبيبتنا، اصبحت فلسطين قضية تستفز ضمائرنا فقط في وقت احداث القصف والاقتحام.. واصبحت للشارع العربي قضية ترف لا ضرورة له بسبب المصائب التي اثقلت بلاد العرب بشكل عام، فيقول غالبيتهم “اللهم نفسي”.. في ضل كل هذه الانتهاكات تُسلخ الشرعية من جميع حكام العرب لسكوتهم عن الدم الفلسطيني المسفوك والحرمه المستباحه للأراضي الفلسطينية، في ضل هذه الانتهاكات تسقط شرعية ميثاق الامم المتحدة، وتصبح معاهدات جنيف ارخص من ورق الحمامات، وتكون محكمة لاهاي للجنايات الدولية ترف لا ضرورة لوجوده، الخزي والعار يلطخ انسانيتنا في كل لحضة يموت فيها طفل فلسطيني..
علينا ان نحمل فلسطين كوسام إنسانية على صدورنا و ككلمة حق اخيرة على ألسنتنا، لعل هذا العالم يستعيد وعيه وإنسانيته شيءٍ فشيء، لعل كلماتنا تستفز وجودهم الإنساني!.
وأخيرا اقول، ان توقف شعب فلسطين المقاوم عن النضال و حاشاهم فتلك ليست من شيمهم، سيكون جيش الاحتلال الصهيوني ثاني يوم في عواصمنا العربية، استكمالًا لمشروعه الخسيس. شعب فلسطين يقف وحيدا في وجه عدونا جميعًا..
محمد الراوي -
منذ شهربعيدًا عن كمال خلاف الذي الذي لا استبعد اعتقاله الى جانب ١١٤ الف سجين سياسي مصري في سجون السيسي ونظامه الشمولي القمعي.. ولكن كيف يمكن ان تاخذ بعين الاعتبار رواية سائق سيارة اجرة، انهكته الحياة في الغربة فلم يبق له سوى بعض فيديوهات اليوتيوب و واقع سياسي بائس في بلده ليبني عليها الخيال، على سبيل المثال يا صديقي اخر مره ركبت مع سائق تاكسي في بلدي العراق قال لي السائق بإنه سكرتير في رئاسة الجمهورية وانه يقضي ايام عطلته متجولًا في سيارة التاكسي وذلك بسبب تعوده منذ صغره على العمل!! كادحون بلادنا سرق منهم واقعهم ولم يبق لهم سوى الحلم والخيال يا صديقي!.. على الرغم من ذلك فالقصة مشوقة، ولكن المذهل بها هو كيف يمكن للاشخاص ان يعالجوا إبداعيًا الواقع السياسي البائس بروايات دينية!! هل وصل بنا اليأس الى الفنتازيا بان نكون مختارين؟!.. على العموم ستمر السنين و سيقلع شعب مصر العظيم بارادته الحرة رئيسًا اخر من كرسي الحكم، وسنعرف ان كان سائق سيارة الاجرة المغترب هو المختار!!.