في مواجهة الصدمة النفسية (التروما)، يتجلى الفن كأداة للتعبير عن الألم وفضح العنف. ورغم أن الفن عادةً يستدعي فينا صوراً ترتبط بالجمال، لكن لا يلغي هذا حقيقة أنه عبر التاريخ قد حضر كوسيلة لتمثيل الهلع والتقزز والتعبير عن الصدمة عبر الكلمة والصورة. ومما يعطي الفن استثنائيته هو القدرة على رصد استمرارية الفاجعة التي تعكس حدة الوجع المرتبط بالرضوض النفسية. فالمصاب بصدمة "يحمل تاريخاً مستحيلاً بداخله أو يصبح عرضة لتاريخ لا يستطيع امتلاكه بالكامل". فطبيعة الصدمة "هي إسقاط على المستقبل وهي استعادة مستمرة لا تنتهي عند الماضي".
ويحفل تاريخ الفن بأعمال خالدة رصدت الحروب والصدمات والعنف نستذكر كمثال لوحة الغرنيكا لبابلو بيكاسو وهي عمل عبقري يدين الحروب ويرصد وحشيتها. ويحضر الجسد الذي يمثل الألم والمعاناة والموت في عدد من الأعمال الفنية التي لا تتردد بصدم المتلقي، كأعمال الفنانة النسوية هانا ويلك. فقد استحضرت ويلك صورة التداعي والفناء في أعمالها وخاصة في عملها الأخير Intra-Venus، حيث الجسد في ذبوله يسبب الانقباض والضيق بطريقة لا تزال متحدية. وكمثال آخر، تستعيد أعمال فريدا كالو تمثيل الصدمة وتجلياتها بطريقة تجسد الألم وتجعله مرئياً لدرجة تتحدى الحواجز وتلامس وجدان المتلقين.
وضمن هذه الرؤية التي يمتزج فيها التعبير عن الألم واستحضار معاناة الجسد، يأتي الكتاب المصور "ثلاث نساء من ميدان التحرير٫ قصص مصورة من الثورة المصرية" ليرصد العنف الممارس على الجسد والروح بطريقة غير مواربة تضع الإصبع على الجرح. ويحملنا الكوميكس مع شهادات ثلاث ناشطات ضمن ثورة يناير تعرضن لعنف ممنهج في الفترة بين 2011 و2013. يوثق الكوميكس تجارب سميرة ابراهيم وياسمين البرماوي وعلا شهبة نتيجة العنف القائم على النوع الاجتماعي، والذي جاء بعد 18 يوماً من بدء ثورة يناير كنتيجة لممارسات الدولة التي تغاضت عنه. وقد صدر الكوميكس في 2022 عن دار نول.
المشروع من اقتراح ياسمين البرماوي، وهي عازفة عود وحاصلة على إجازة في اللغة الانجليزية ومن الناشطات في ثورة يناير، وبتنظيم الدكتورة منال حمزة، أستاذة دراسات النوع الاجتماعي والجنسانية في جامعة ولاية نيومكسيكو، ومن أعمالها "نساء يقاومن العنف الجنسي والثورة المصرية: شهادات نسوية عربية" الصادر في 2020 ضمن مشروع هدف لتوثيق الاعتداءات على النساء في إطار مشاركتهن في ثورات مصر، كوسيلة لرفع الوعي لتحقيق التغيير بحسب منال حمزة. وكذلك من أعمالها "بيداغوجيات تجاوز الحجاب" الذي نشرته في عام 2012، وقد قدمت أهم أفكاره في فيلم الرسوم المتحركة القصير "الأحجبة الأربعة" في 2016، وهو تعاون مع الكاتب المسرحي جميل خوري.
يوثق كتاب "ثلاث نساء من ميدان التحرير قصص مصورة من الثورة المصرية" شهادات ثلاث ناشطات ضمن ثورة يناير تعرضن لعنف ممنهج في الفترة بين 2011 و2013
وبحسب الدكتورة منال حمزاوي، مع قيام الشعب بالمطالبة بالحريات والتنديد بالدكتاتورية وقمعية الأجهزة الأمنية ما بعد 25 يناير/ كانون الثاني 2011، كانت النساء المصريات في طليعة من نددن بوحشية الشرطة وفساد السلطة الحاكمة. لذا عمد النظام لتكتيكات عنفية ضدهن، ومنها فحوص العذرية في مراكز الاحتجاز والسجون والاغتصاب والاعتداءات الجنسية على المتظاهرات في الشوارع وعلى الاعتداءات الجنسية في معتقلات الميلشيات الإسلاموية.
تأتي القصص المصورة ضمن ثلاث شهادات منفصلة من رسوم فنانات نسويات هن: سلمى الطرزي وفاطمة طه وريم نجيب، وكما تبين مقدمة العمل مشاركة الفنانات ريم ونيفين وشيبا المقيمات في القاهرة.
شهادة ياسمين البرماوي
يغلب على الرسوم اللون الأبيض والأسود، ما عدا شهادة ياسمين البرماوي، وهي أول ما يطالعنا من شهادات، حيث يبرز اللون الأحمر في رمزية مكثفة. فمن فولار وقميص أحمر يميز ياسمين وزميلتها بين الجموع ويظهر توقدهن في لحظة ثورة تهدف لتحقيق العدالة، يسود اللون الأسود والرمادي عبر صفحات ترصد نهاية هذه الحالة الإنسانية والتحول لمواجهة متوحشة تصدم المتلقي/ة. تصور الشهادة مسير ياسمين وزميلتها ضمن المظاهرات المليونية ضد الإعلان الدستوري في نوفمبر/ تشرين الثاني 2012 في المنطقة المحيطة بميدان التحرير، أثناء تولي محمد مرسي الحكم.
مع قيام الشعب المصري بالتنديد بقمعية الأجهزة الأمنية ما بعد 25 يناير 2011، كانت النساء المصريات في طليعة من نددن بفساد السلطة. لذا عمد النظام لتكتيكات عنفية ضدهن، ومنها فحوص العذرية في مراكز الاحتجاز والسجون والاغتصاب والاعتداءات الجنسية على المتظاهرات
ومع بدء الاشتباكات واندفاع الحشود تفاجأت ياسمين بأن مجموعة منه انهالت عليها بالضرب المتوحش الذي تضمن أنواعاً مختلفة من العنف، الذي حاولت مقاومته وشمل اعتداء جنسياً جماعياً على مرأى من الجموع التي لم يتردد بعضهم بتصوير المشهد دون مبالاة. تمثل الرسومات هذه اللحظات بكل ما فيها من عنف وقسوة لدرجة قد تسبب العجز عن المتابعة للمتلقي/ة. يظهر جسد ياسمين في محاولته للنجاة ضمن عمل فني يعري فجاجة العنف بطريقة صادمة تؤكد على قسوة الحادثة.
تنطلق الشهادة من سؤال حول جدوى الرسم والكتابة، وتأتي عليه الإجابة التي تؤكد أهمية توثيق العنف لمواجهته وفضحه ولرفض النسيان وتعزيز التضامن بين الناجيات/الضحايا من العنف القائم على النوع الاجتماعي. وكذلك، يحضر السؤال الذي يبحث في إمكانية تصوير العنف الممارس على أجساد النساء دون السماح بتسليعها، والذي تحرص الفنانات بحرفتهن على منعه. تقول شخصية ياسمين المرسومة للفنانة سلمى"أنا أستمد قوتي من إني أفضل أحكي في الوقت إلي محدش عايز يسمع ويواجه". تستمر الرسومات بتجسيد عنف الحشد ووحشيته وانتفاء إنسانيته.
وترصد الكلمات حوارات الحشد السوقية وتعابيره النابية التي تكشف همجيته والتي تهدف لتجريد النساء من كرامتهن. ويأتي ذلك، بجهد عالي الحرفية لاستعادة جميع ملامح الحادثة وتأطير جميع تفاصيل العنف الممارس على النساء والذي يكشف عن ثقافة معمقة لمنظومة أبوية كارهة للنساء. ويتحول اللون الأحمر الذي زين ياسمين كشعلة متوقدة ليرصد الدماء المتدفقة من جسدها ومن عضوها الأنثوي بكل ما في الأمر من قتامة.
ومع ظهور سيدة تنتفض لإنقاذ ياسمين بمساعدة زوجها، يأتي الثوب الأصفر الذي تحاول فيه السيدة لف جسد ياسمين المتعب والمصاب ليحملنا بعيداً عن لون الدم. ومما يزيد من إصرار فريق العمل على فضح المنظومة، هو العمل على نقل الأسئلة التي وجهت لياسمين بعد إنقاذها من مغتصبيها عن الأمر الذي فعلته والذي أدى لتعرضها للاغتصاب الجماعي.
ضمن المظاهرات المليونية ضد الإعلان الدستوري في نوفمبر 2012 وفي المنطقة المحيطة بميدان التحرير، تعرضت ياسمين البرماوي لاعتداء جنسي جماعي على مرأى من الجموع التي لم يتردد بعضها بتصوير المشهد دون مبالاة
وهنا تتجلى ثقافة لوم الناجيات/الضحايا، فبدل معاقبة الجناة تتم محاسبة النساء على أماكن وجودهن وملبسهن وأوقات خروجهن. فعوضاً عن الحرص على أن تكون جميع الفضاءات مساحات أمنة للنساء، يتم عزلهن وتقيد حركتهن لمنع تعدي المعنفيين عليهن. مع العلم أنهن حتى في الفضاءات الخاصة لا يأمن النجاة من عنف الشريك أو الأهل أو الأقرباء. يظهر الرسم المصور عبر الكلمات والشخصيات طبيعة الممارسات الكارهة للنساء ووحشية العنف التي تعرضت له الناشطات في سعيهن لمواجهة الأنظمة القمعية وما كشف عنه ذلك من عفن المنظومة الأبوية.
شهادة سميرة إبراهيم
وفي شهادة سميرة إبراهيم، تأتي الرسومات على خلفية من اللون الزيتي الفاتح، مع مزيج من لون التراب بما يشبه لون الصعيد والريف وبساطته حيث ولدت سميرة. وسميرة ابراهيم ناشطة مصرية تعمل بمجال الإعلام وعلى جبهات مختلفة لدعم قضايا النساء المتقاطعة وحاصلة على بكالوريوس تجارة واقتصاد من جامعة جنوب الوادي في سوهاج.
تحملنا قصة سميرة إبراهيم لرحلة نشهد فيها تعرضها لفحوص العذرية التي قامت بها قوات الجيش المصري وذلك بعد إسقاط حسني مبارك في عام 2011
وتحملنا القصة لرحلة نشهد فيها تعرضها لفحوص العذرية التي قامت بها قوات الجيش المصري وذلك بعد إسقاط حسني مبارك في عام 2011. وما يبدأ بتصوير أحلام شابة طموحة تملأها جدتها بالأمل وبالعزم وبالتصميم يتحول إلى كابوس يعكس كيف تؤدلج المنظومات الشعوب وتحول جيوشها إلى اسلحة ضد الشعب. وتظهر شخصية السجانة وعيون العساكر المتوحشة التي تحاصر جسد سميرة الذي فرض عليه العري لإجراء فحص العذرية كرمز لكائنات متجردة من الإنسانية.
قصة علا شهبة
ويختتم الكوميكس بقصة علا شهبة وهي ناشطة اشتراكية تعمل في القاهرة، بعد ثورة 25 يناير شاركت في تأسيس العديد من المجموعات السياسية الاشتراكية. وهي حاصلة على بكالوريس في الأنثروبولجيا من كلية الدراسات الأفريقية والشرقية في لندن. تتبدى رسومات قصة علا شهبة بالأبيض والأسود اللذين رغم حياديتهما لا يسمحان للمتلقي/ة بذلك. بل يدفعاننا لمواجهة عنف حوادث لامست نساء من بلادنا وجب حمايتهن، لكن لم تسمح المنظومة الكارهة للنساء بذلك. نواجه هذا العنف وندرك بشاعة المنظومة ونعي فشلها وتعفنها ونمتلأ بالغضب رغم الألم. وهذا ما يجعل من هذا العمل ضرورة لتحقيق التغيير.
تقول علا شهبة في ختام شهادتها: "الرسوم في الشهادات الثلاث قوية وصعبة لأنها معبرة بشكل واضح، وبنفس الوقت ترعبني. لا أود أن أخيف الناس، لكن إعادة سرد الحقيقة بصرياً أمر مؤثر وضروري لعافيتنا فردياً وجماعياً. إن تقديم حقيقة تجربتنا للقراء بهذا الشكل المرئي/المرسوم سيمنحهم فرصة لمواجهة ما حدث والتفاعل معه كما يرونه مناسباً. في النهاية يؤكد هذا العمل على مركزية المرأة في الثورة وحقها في التواجد في الأماكن العامة" .
وتقول أنجيلا ديفيز عن الكتاب: "هو لوحة مثيرة عن نضال المصريات من أجل العدالة في لحظة بطولية في تاريخ مصر. هذا الكتاب يعزز معرفة وكرامة الثائرات في نضالهن ضد عنف الدولة الممنهج في الاعتداء على النساء".
لم تتراجع الناشطات الثائرات عن حقهن، وسعين رغم الوجع ورغم الصدمة لتفكيك آليات المنظومة التي عنفتهن. ويكلل هذا العمل جهدهن لكشف التكتيكات التي تسعى لإبعاد النساء عن الفضاء العام وتخويفهن وتقييد حركتهن. من المهم ألا ننسى، ومن المهم أن نستمر بالحكي وبالتعاضد حتى تسود عدالة تسمح بامتلاك النساء لحقوقهن. من الجميل أن نجد كتاب كوميكس نسوياً ثورياً وخاصة مع قلة الأعمال الفنية المنتجة في هذا المجال في منطقتنا العربية. ومن المهم زيادة الجهود ضمنه والعمل لإنتاج كوميكس نسوية تخاطب أجيالاً من شأنها أن تحقق التغيير.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع