شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!

"مول الحانوت" المغربي... حين يصبح البقّال "بنكاً" وكاتم أسرار وطبيباً نفسياً

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والتنوّع

الجمعة 11 أغسطس 202302:00 م
مربط الفرس في هذه الحكاية هو البَقَّال كونه عنصراً مجتمعياً حيوياً يتلخّص في مقولة "مول الحانوت"؛ أو هكذا يسمّيه المغاربة، الذين ينعتونه كذلك بـ"السُوسي" أو "مُوحْمّادْ"، للدّلالة على انتمائه الجغرافي إلى منطقة سوس (جنوب). تتلخص أهمية "مول الحانوت" في مشاهد متفرقة؛ كأن يحدث وأنت جالس في مسكنك قرابة منتصف الليل أن تتذكر فجأةً أنك لا تزال محتاجاً إلى عبوة حليب أو إلى المزيد من الخبز، أو حتى إلى سجائر إذا كنت من جماعة المتلذّذين بالتّدخين، فينقذك خلافاً للسوبر ماركت الذي يغلق باكراً.

وعليه، ماذا يشكل البقَّال داخل النسيج المجتمعي المغربي؟ إنه يتجاوز المهنة ويتحوّل إلى جزء من ذاكرة الأسر المغربية كونه قريباً من الهموم ومن الناس، فقد يتحوّل بحكم البنية الاجتماعيّة، خصوصاً في الأوساط الشعبية، إلى مُقْرِضٍ من دون فوائد أو إلى كاتم أسرار أُسر وعائلات بأكملها، أو حتى إلى "مُخْبِر" لدى أعوان السلطة. وفي الآن ذاته، هو حافظ أمانات، ووسيط عقاري و"صندوق شكاوى" أو بالأحرى "حائط مبكى" للفقراء والبسطاء.

وفقاً لأرقام وزارة  الصناعة والتجارة المغربية لا تزال المحال التجارية الصغرى في المغرب قوية وتمثل  "36 في المئة من فرص التشغيل و 80 في المئة من نقط البيع"في المملكة، على الرغم من بروز المساحات التجارية الكبرى (السوبر ماركت)، فيما قدّرت تنظيمات مهنية عدد هذه المحالّ بنحو 900 ألف، يُشَغّلُ كل واحد منها فرداً أو فردين على الأقل.

تجارة بطعم التضامن

محال التجارة بالتقسيط هي في الأساس عبارة عن استثمار خاص لمهنيين اكتسبوا ما يكفيهم من الخبرة لخوض هذه المغامرة. فالدخول في غمار هذه التجربة الاستثمارية من دون خبرة أو خلفية مهنية يعني "إفلاساً" منذ البداية و"تطفلاً" على المهنة كما يرى مهنيو القطاع. فسكان أي حي يمكنهم ربما أن يتفهموا غياب المدرسة أو المستشفى أو حتى المسجد وبعدها، لكن غياب "مول الحانوت" عن الحي، يفقد السكن آنذاك معناه. فَمِنْ قُربه من الأفراد استمد اسمه أساساً: تجارة القُرْب.

في الشوارع الكبرى والأزقة الضيّقة يفتحون دكاكينهم للعموم. دكانين تحمل على أبوابها ملصقات لعلامات تجارية محلية، أو لافتات تدلّ على بيع التبغ أو بطاقات تعبئة رصيد الهاتف. وفي أقل تقدير يضعون لافتةً مكتوباً عليها "مواد التغذية العامة". وزمن العمل بالنسبة إليهم غير محدد ولا ثابت، بل هو محتكِمٌ إلى قانون الفصول أو إلى منسوب الرواج التجاري، لكن في الغالب، هم أول المستيقظين وآخر الخالدين إلى النوم.

نادية؛ أرملة وأم لثلاثة أبناء، تقطن في أحد الأحياء الشعبية في العاصمة الرباط. تقول بنوع من الراحة والطمأنينة في حديثها إلى رصيف22: "كأسرة، تجمعنا بمول الحانوت علاقةٌ تمتد إلى أزيد من عشرين سنةً؛ إليه نلجأ عندما تنفد دراهمنا، فَتَقَلُّبُ الأحوال وظهور بعض المصاريف الجانبية بين ليلة وضحاها قد يجعل أجرة الشهر تنقضي قبل أن ينقضي الشهر نفسه". وتسترسل نادية موضحةً أن "وجود البقال بالقرب من المنزل، نعمة تشعر بها ملايين الأمهات اللواتي يمكنهنّ الاعتماد على أطفالهن القُصّر في التبضع، دون خوف عليهم".

إنه يتجاوز المهنة ويتحوّل إلى جزء من ذاكرة الأسر المغربية كونه قريباً من الهموم ومن الناس، فقد يتحوّل بحكم البنية الاجتماعيّة، خصوصاً في الأوساط الشعبية، إلى مُقْرِضٍ من دون فوائد أو إلى كاتم أسرار عائلات بأكملها

لا تُخفي أم الأبناء الثلاثة، أنها وجدت نفسها في أحايين كثيرة أمام إكراهات مالية حتّمت عليها ضرورة اللجوء إلى البقّال من أجل إمدادها بمواد غذائية كقرض تُغطّي به احتياجاتها حتى نهاية الشهر، "ولم يرفض طلبها بالمطلق"، كما تقول. لكن الإشكال حسب المتحدثة عينها، هو أن "هؤلاء التجار يكونون ملزمين بقضاء عيد الأضحى خارج المدينة، إذ إنهم في غالبيتهم يتحدرون من مناطق الجنوب، وتحديداً سوس، وقد تصل مدة هذه العطلة إلى شهر كامل، ما قد يضطرها إلى شراء ما يكفيها طوال فترة غيابهم".

هكذا إذاً هي تعابير الساكنة. لكن كيف يتحدث البقّالون عن أنفسهم؟ يجيبنا عن هذا السؤال لْعْرْبِي (45 سنةً)، وهو أب لثلاثة أبناء ومالك لأحد متاجر البقالة في مدينة سلا التي التحق بها آتياً من إقليم تيزنيت، جنوب المغرب. تدرّج في سلم الحرفة؛ من مستخدم ثم مسيّر، حتى بات اليوم مالك محل بقالة.

يفتح لْعْرْبِي قلبه لرصيف22، ويقول: "أن تكون بقالاً يعني أن تعطي وقتك كاملاً للساكنة وتكون إلى جانبهم في إطار علاقات تتسم بالصدق والثقة، والحمد لله بنيت معهم علاقات على مدار العقود الثلاثة الماضية، حتى صرت فرداً من أسرهم؛ يقاسمونني همومهم وأقاسمهم أحلامي وطموحاتي".

يُتابع لْعْرْبِي المعروف في الحي باسم "بّا عْروبْ" لدى جميع زبائنه: "عشنا إلى جانب سكان هذا الحي مُذ كنا مراهقين، وها نحن اليوم لا نزال إلى جانبهم، فكل واحد منهم نُعدّ شاهدين على مسيرة حياته. فصفتي كبقّال أعطتني نوعاً من الامتياز؛ أطفالي الثلاثة اليوم يحظون باحترام سواء من أقرانهم أو أساتذتهم أو حتى كل من يصادفهم". هنا نقاطعه بالسؤال عما إذا كان يودّ أن يسير أبناؤه على نهجه فيردّ: "لا أحد ربما من التجار حالياً يمكنه أن يتمنى ذلك لأولاده، فهذه الحرفة تتطلب صبراً طويلاً لأنك تتعامل مع أناس بأمزجة مختلفة، ولذلك يجب أن تبقى مبتسماً دائماً، مهما كان الحال. نحن الآن نكافح من أجل أن يدرس أبناؤنا جيداً ومن الخير أن يحصلوا على وظيفة".

قروض بلا فوائد

في الأصل، التعاقد بين "مول الحانوت" والزبون، تعاقد شفويّ وليس مكتوباً، مفاده ومضمونه: "أُقدّمُ لكَ السلع وأدوّنها في كُناش (دفتر) على أَن تسدد لي ثمنها أول الشهر". ويُطْلَقُ على هذه الممارسة في الأدبيات الشعبية المغربية "لْمْصَارْفَة" أو "الكْريدي". غير أنّ الثّغرة ضمن هذا العقد الشفوي هي أن لا ضمانات قانونيةً للطرف الأول، نظراً إلى أنّ هذه الممارسة في البدء قائمة على الثقة والأمانة والتراضي.

طبيعة هذه الممارسة لا تتوقّف عند هذا الحدّ، بل تتجاوز ذلك إلى أنّ قاطن الحيّ يلجأ في أحايين أخرى إلى البقّال من أجل اقتراض مبالغ مالية، إما لتسديد فواتير الماء والكهرباء، أو لاستكمال "سومة الكراء"، أو حتى لأداء واجبات تَمَدْرُسٍ الأبناء. والامتياز بالنسبة للمُقْتَرِض هنا (أي الزبون)، هو أنه غير ملزم بأداء أي فوائد ناتجة عن العملية، خلافاً للمؤسسات البنكية ومؤسسات التمويل الصغرى أو المتوسطة التي تفرض فوائد وتحدد آجالاً للتسديد.

عشنا إلى جانب سكان هذا الحي مُذ كنا مراهقين، وها نحن اليوم لا نزال إلى جانبهم، فكل واحد منهم نُعدّ شاهدين على مسيرة حياته

من المثير أن نستدعي التحليل الاقتصادي في هذه المسألة. يفسّر لنا المحلل والخبير الاقتصادي محمد جدري، كيف أنّ "مؤسسة 'مُولْ الحانوت' تُعدّ مؤسّسةً اقتصاديةً واجتماعيةً حقيقيةً في المملكة المغربية، ولا يمكن تعويضها على الأقل خلال السنوات العشر القادمة، على الرغم من التطور التكنولوجي الذي تعرفه البلاد والإقبال المتزايد للمواطنين على الممارسات التجارية الإلكترونية أو تلك التي تتم بالبطاقات البنكية".

ويضيف جدري في معرض حديثه إلى رصيف22، أن هذه المؤسسة "تلعب أدواراً اقتصاديةً بل تتجاوزها لتلعب أدواراً اجتماعيةً، وذلك من خلال منح القروض بالمجان (من دون فوائد) للساكنة، خصوصاً في الأحياء الشعبية، إلى درجة أنها باتت محل ثقة مؤكدة لدى الزبائن والمتعاملين معها. ثقة متبادلة تفرض على الزبون أداء الديون والقروض التي يتم تدوينها وتسجيلها على دفتر أو كُناشٍ خاص في آخر الشهر أو الأسبوع، حسب ما هو متفق عليه بين الطرفين".

يلعب "مول الحانوت" دورا يتجاوز الدور الاقتصادي إلى آخر اجتماعي فهو يمنح القروض من دون فوائد للساكنة، خصوصاً في الأحياء الشعبية، ويسمع لمشاكلهم بل وينصحهم أحياناً

وبخصوص مستقبل مهنة "مول الحانوت"، يشير المحلل الاقتصادي إلى أنّه "لا زال لديها مكان ضمن تركيبة المجتمع المغربي، على الرغم من أن تنافسيتها باتت تضعف سنةً بعد سنة، ما دام أن هنالك مجموعةً من الطّبقات محدودة الدخل التي لا يمكنها اللجوء إلى التجارة الإلكترونية أو المتاجر الكبرى في معاملاتها التجارية".

من ناحية أخرى، يقول الطيب آيت أباه، وهو صاحب دكان للبقالة في مدينة تمارة المغربية، في حديثه إلى رصيف22، إنّه "لا يجب أن تتعرض المعاملات التجارية التي نقوم بها مع زبائننا في إطار الديْن أو 'الكريدي' إلى التبخيس من طرف جيل ثالث مقبل على المهنة، فهي معاملة استحدثها آباؤنا من الجيل الأول من منطلقات إنسانية بالأساس. ففي وقت سابق، لم تكن لدى المواطن المغربي خيارات أخرى غير بقّال الحي، خلافاً لما هو عليه الحال اليوم، بعد أن بات بإمكانه التبضع من المساحات التجارية الكبرى، وهو ما أعطاه الفرصة لتجربة ثقافة 'الشوبينغ' أو التسوق الترفيهي".

ويسترسل آيت أباه، الشهير إعلامياً بلقب "مُولْ الحَانُوتْ"، قائلاً: "من الواضح أن عدداً من المواطنين المغاربة اليوم يعيشون فوق طاقتهم وقدرتهم الشرائية، إذ يلجؤون إلى المساحات التجارية الكبرى لاقتناء الكماليات محاولين بذلك لعب دور اجتماعي متقدم ومطاردين وهْمَ التَسَوق، فيما يعودون إلى البقال لاقتناء الضروريات من المواد الغذائية وعادةً باعتماد نظام 'الكريدي'، ما يجعل العمل بهذه الصيغة متواصلاً".

ويرى محدثنا أن "استمرار تجارة القرب الوطنية بشكلها العشوائي الحالي، رهين بمدى احتياج المواطنين إليها، الذين يمكنهم في الأساس أن يجدوا بديلاً منها كلما تحسنت قدرتهم الشرائية. فالبقالون الصغار مطالبون في الوقت الراهن بالدخول في نطاق العصرنة وتطوير تعاملهم وخدماتهم من خلال توفير تجارة قرب بمفهومها الصحيح؛ بمعنى أن يقوموا بمحاولة خلق مناخ اشتغال مشابه للّذي توفره المساحات الكبرى، لكن مع الحفاظ على المعاملة الإنسانية التي تُعدّ أساس التجارة التضامنية، في حدود مقدورهم وما هو في صالحهم".

اقتصاد اجتماعي

يرى البعض مهنيّي تجارة القرب بمثابة "صمّام أمان داخل الأحياء وأحد عوامل الاستقرار فيها". كما يَنظر إليهم البعض باحتراس باعتبار البعض منهم يلطخ الصورة الطريفة للبقال المغربي بوصفه "مخبراً" أو "سمساراً" أو "نصّاباً"؛ لكنّ المنحى العام يصبّ في اتجاه تقدير المكانة الاعتبارية لهذه الفئة. هذه الصورة المركّبة تدفعنا لاستنطاق الموضوع من وجهة نظر السوسيولوجيا؛ فما الإفادات التي يمكن أن يقدّمها علم الاجتماع حول موقع تجارة القرب ضمن النسيج الاقتصادي والاجتماعي في المغرب؟

يقول رئيس مركز الدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية في وجدة، سمير بودينار، لرصيف22، إنّ "تجارة التقسيط المتسمة بالقرب سواء في شكل بيع بالتجوال أو دكاكين الأحياء تُعدّ أقوى تجليات منظومة الاقتصاد الاجتماعي الذي يتسم بأبعاد تضامنية وتراحمية إلى جانب أخرى تجارية وخدماتية، في مقابل العلاقات ضمن منظومة الاقتصاد الاستهلاكي التي تتّسم بأعلى درجات التعاقدية المادية، المحايدة تماماً تجاه كل ما هو إنساني أو تراحمي، كما هو الحال في الأسواق الكبرى وكذا التجارة الإلكترونية".

تجارة التقسيط تُعدّ أقوى تجليات منظومة الاقتصاد الاجتماعي الذي يتسم بأبعاد تضامنية وتراحمية إلى جانب أخرى تجارية وخدماتية

ويضيف بودينار أن "مول الحانوت" في النسق الاقتصادي والاجتماعي في المغرب، "أكثر من مجرد منفذ بيعٍ أو نقطة توزيع سلعة أو خدمة، فهو عبارة عن شبكة من العلاقات والأدوار... جوهرها فكرة القرب التي تجعله مُطلعاً بدقة على الوضع المادي والاجتماعي للأسر القاطنة في الحي"، موضحاً أن "هذا الاطلاع ينشأ من خلال التواصل الدائم والمتعدد الوسائط؛ عبر الحوارات المتسمة بالخصوصية والمكاشفة مع الزبائن، وكذا وقفات الدردشة والمراقبة التلقائية لأحداث الجوار".

ويخلص المتحدّث ذاته إلى أنّ "تاجر القرب هو أحد التعبيرات عن الروابط القوية التي لا زالت تميز المجتمعات التي تصنَّف في خانة التقليدية المتميزة بقدر عالٍ من التضامن أو التراحم، سواء في المجالات الحضرية أو القروية"، ويتأسّف في الآن ذاته على "تعرّض صورة هذه الفئة للتنميط والسخرية وحتى التشويه، بالرغم من الأدوار المهمة التي تقوم بها سواء اجتماعياً أو اقتصادياً، والتي تهددها منظومة الاقتصاد الرأسمالي الاستهلاكي التي ليس فيها مجال لأي قيم غير الاستهلاك".

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard