شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
كأنهم يودّعون الطريق... هل نعايش آخر جيل من

كأنهم يودّعون الطريق... هل نعايش آخر جيل من "البدو الرحّل" المغاربة؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الاثنين 21 نوفمبر 202204:14 م

مشياً لمسافات طويلة، يرعى "أحمد" أغنامه ومواشيه، منذ الصباح الباكر، مُتجولاً بين المراعي صيفاً شتاءً، لا يعرف للاستقرار طعماً، لكنه مُستريح، وراضٍ عن أيامه؛ يعيش برفقة أسرته، مرتحلين، أينما وجد الماء والكلأ. استقرّوا، في حياة بسيطة، يصفها بـ"حياة راضية، إذ نفرح في مواسم حصاد القمح، ونعيش في خيام بسيطة".

"اعتدت على حياة الترحال، فقد ورثتها من آبائي وأجدادي، وأنا فخور بأن أكون راعيا لكونها مهنة الأنبياء"، يسترسل أحمد، وهو رجل خمسيني، ذو شعر مجعد، ولباس تقليدي بسيط، وفي يده قفّة من الخيش، وكوب شاي دافئ في يده الثانية، مؤكداً: "أرتحلُ من قرية إلى أخرى، برفقة أسرتي الصغيرة، بحثاً عن لقمة العيش، إذ إن رعي الأغنام مهنتي الأولى، غير أنه في السنوات الأخيرة، تغيرت نوعاً ما حياتنا المتنقلة، إثر الجفاف، وأصبح من الصعب التنقل من منطقة إلى أخرى، وربّما قد نستقر مرغمين في مكان ما، ونختم حياة الترحال".

على غرار أحمد، وهو واحد من بدو منطقة وادي إملشيل المحاطة بالجبال، حيث يكون الطقس رطباً، فيما يتجهون إلى المناطق الأكثر اعتدالاً نواحي مدينة الراشدية المجاورة في فصل الشتاء، أسر كثيرة، تعيش منذ سنوات طويلة، على إيقاع حياة متنقّلة ركيزتها الأساس السفر من منطقة إلى أخرى، أو بعبارة أدق "الترحال".

"اعتدت على حياة الترحال، فقد ورثتها من آبائي وأجدادي، وأنا فخور بأن أكون راعيا لكونها مهنة الأنبياء"

وفق تعداد سكاني في المغرب لسنة 2014، فإن عدد البدو الرحل، في المغرب، لا يتجاوز نحو 25 ألف نسمة، مقابل نحو 70 ألفاً عام 2004، وهو ما يمثّل تراجعاً بنحو الثلثين خلال السنوات العشر الأخيرة، إذ لم يعرفوا في هذه السنين تطوراً يُذكر، باستثناء أن عدداً كبيراً منهم حصل على "بطاقات الهوية" والبعض الآخر استفاد من خدمات "المدارس المتنقلة" و"الخدمات الصحّية المتنقلة".

هُويّة متنقّلة

يسيرون آلاف الكيلومترات راجلين، وأينما وُجد الماء والكلأ يستقرّون، لأيام أو لشهور أو حتى لسنوات، لكن ما إن تفرض عليهم الطبيعة سطوتها، حتى تجدهم يجمعون متاعهم، ويرحلون باحثين عن أماكن أخرى، مُحمّلين بمواشيهم وممتلكاتهم البسيطة، على رأسها الخيام وبعض الأثاث، إذ يجدون في حياة الترحال "هُويةً" لهم.

كثيرة هي القبائل المُتشبثة بفكرة "الهُوية المتنقلة"، وتجدها ترفض بالمُطلق مبدأ "الاستقرار"، إذ اعتادوا على حياة تحمل "ديكوراً" مُختلفاً بين الحين والآخر، فتجد الرجال منهم مُستمرّين في البحث عن الطعام، والنساء مُكلّفات بالعِناية بالأرض وجلب الماء، باستثناء بعض القبائل التي ترفض مُغادرة نسائهن لحدود القبيلة، كما هو الحال بالنسبة إلى منطقة "تينغر" الموجودة جنوب شرق المغرب، إذ إن القاعدة بالنسبة لهم كالتالي: "وُجدت المرأة للعيش بين يدي رجل تنجب منه أطفالاً، لكي يحفظ النسل من الانقراض"، أمّا في ما يخص الأطفال، فتجد قليلين منهم فقط ممّن تُتاح له فرصة التعلم، من خلال "المدارس المتنقلة" التي تبادر للقيام بها جمعيات المجتمع المدني.

وفق تعداد سكاني في المغرب لسنة 2014، فإن عدد البدو الرحل، في المغرب، لا يتجاوز نحو 25 ألف نسمة، مقابل نحو 70 ألفاً عام 2004، وهو ما يمثّل تراجعاً بنحو الثلثين خلال السنوات العشر الأخيرة

نمط حياة الرُحّل غير مُوحّد، إذ إنه بالرغم من الاتفاق على مبدأ الحياة والهُوية المتنقلة، إلا أن الاختلاف يكمن في التفاصيل، بين كل منطقة وأخرى، فهُناك رحّل يسيرون لمسافات قد تُعادل آلاف الكيلومترات، مشياً على الأقدام، للبحث عن المراعي الجيدة، فتجدهم ينتشرون في الصحراء والجنوب الشرقي للمغرب، فيما قد تجد رُحّلاً آخرين، يتنقلون فقط بين قمم الجبال وسفوحها في المنطقة نفسها، ويتركّزون في جبال الأطلس، وسط المغرب.

كلمة السر بالنسبة لـ"الرحّل المغاربة"، هي ضمان العيش والحفاظ على الهوية من الاندثار، وهو نمط عيش يحافظ بالأساس على إرث الأجداد، والعيش المشترك المرتبط بتقاليد عريقة توارثوها ولا يرغبون في التخلي عنها؛ غير أن "الجفاف" في ظل السنوات القليلة الأخيرة، طالهم، وأثّر على نمط عيش الكثيرين منهم، وتسبب لهم في صعوبة الحصول على المياه والمراعي للماشية، ولهم.

الطبيعة ضدنا

"اضطررت أنا وعائلتي إلى الاستقرار في منطقة توصف بالمهجورة، وتبعد عن قرية الريش، نواحي مدينة ورزازات، 60 كيلومتراً، بالقرب من نهر جاف"؛ بهذه الكلمات يصف شعيب اضطراره إلى الاستقرار، بعد صعوبة إيجاد الماء والكلأ، إثر قسوة الجفاف وصعوبة الحياة الاجتماعية، مردفاً بالقول إن "الطبيعة أصبحت ضدّنا، إذ ارتفعت درجات الحرارة، وصفعنا الجفاف، ولم تعد باليد حيلة. نصبنا خيمنا في قبيلة آيت عيسى إزم الأمازيغية، بالقرب من قرية أملاكو، واخترنا حياةً مُستقرةً، لأن أساس حياتنا كرُحّل هو الماء، لكنه أصبح عُملةً نادرةً".

أضاف المتحدث لرصيف22، قائلاً إن "الجيل الجديد لن يستطيع الاستمرار في حياة الترحال، لأن أبسط مُتطلبات الحياة الكريمة، أصبح من الصعب توفيرها، فأضحت الحياة معقّدةً، فمن الأفضل لهم أن يستقروا ويدرسوا ويعملوا، ولهم أن يرتحلوا في أيام العطل والإجازات، أما سوى ذلك فإن الجفاف جعل حياتنا صعبةً جداً"، مردفاً: "عدد كبير ممّن أعرفهم، لجأوا إلى الاقتراض من أجل شراء علف الماشية، وبناءً على كثير من الأوضاع الاجتماعية غير المُستقرة، أصبحنا مثل المنبوذين في المجتمع، لدرجة أن قرية أملاكو التي كانت تحتوي على 460 خيمةً للبدو، لم يبقَ منها اليوم سوى 40 خيمةً".

"الجيل الجديد لن يستطيع الاستمرار في حياة الترحال، لأن أبسط مُتطلبات الحياة الكريمة، أصبح من الصعب توفيرها، فأضحت الحياة معقّدةً"

يعيش المغرب هذه السنة، موجة جفاف، وُصفت بكونها الأكثر سوءاً منذ أربعة عقود، الأمر الذي دفع أحمد سكتاني، باحث أنتربولوجي، للقول إن "الرحل كانوا دائماً بمثابة مقياس للتقلبات المناخية، إذا فقدوا اليوم القدرة على التحمّل، بالرغم من تعوّدهم العيش في شروط قاسية، وذلك يعني أن الظرف بات خطيراً"، مشيراً إلى أن "جفاف منابع المياه الذي نلاحظه اليوم، يدقّ المسمار الأخير في نعش الرُحل".

تظل تجمعات "البدو الرحل" في المملكة متفرقة في عدد من المناطق، على رأسها تنغير التي تُؤوي ما يُناهز 21.5 في المئة منهم، ثم ميدلت بـنسبة 20.3 في المئة، وآسا الزاك بـ 13.8 في المئة، ثم الراشيدية بـ 13.8 في المئة، فيما تجد ثلثهم يستقرون في منطقة درعة تافيلالت بنسبة 60.8 في المئة، و21 في المئة منهم بمنطقة كلميم واد نون، و6 في المئة في منطقة العيون الساقية الحمراء، ثم 6.3 في منطقة سوس ماسة.

المُتطوعون الرحّل

قبل ست سنوات، انطلقت جمعية "المُتطوعون الرحل" في العمل على جُملة من القوافل الإنسانية والطبية، في قلب البوادي والمناطق التي يستقرّ بها عدد مهم من الرحل المغاربة، لتسليط الضوء على "حُقوقهم واحتياجاتهم" وكذا تقديم عدد من المساعدات إليهم، من قبيل أدوية وملابس، وبناء حجرات دراسية، والعمل على مُستشفيات متنقلة، من أجل تقديم استشارات طبية، خاصة في فترة الشتاء.

محمد العبودي، واحد من شباب المجتمع المدني المُشرفين على جمعية "المتطوّعون الرحل" يقول في حديثه لرصيف22 إن "مطالب الرحّل، الموجودين بالخصوص في الأطلس المتوسط والكبير، من قبيل تنغير وأزيلال، ونواحي الخنيفرة، ترتبط أساساً بالماء، على الرغم من أن حياة الرحّل تتجّه اليوم نحو الاندثار بسبب جُملة من المشاكل المتعلقة بالتقلبات المناخية، خاصة بعد أسوأ موجة جفاف ضربت البلاد خلال السنوات الأخيرة".

"هناك نوع من الرحّل الذين يعيشون في نمط بدوي يعتمد على الخيام، لكنهم مستقرون في مكان واحد صيفاً وشتاءً، ومنهم من يدرس ومن أصبحت لهم بطاقات هوية"

"هناك نوع من الرحّل الذين يعيشون في نمط بدوي يعتمد على الخيام، لكنهم مستقرون في مكان واحد صيفاً وشتاءً، ومنهم من يدرس ومن أصبحت لهم بطاقات هوية وأصبحت معهم هواتف، وأصبحوا إدارياً تابعين لمناطق معيّنة، من قبيل ما يُناهز 35 أسرةً نواحي مرزوكة، وهناك نوع آخر من الرحّل المُرتحلين، ممن يذهبون صيفاً نحو المناطق الجبلية، وفي فصل الشتاء يتجهون نحو الصحراء"، يبسط العبودي أنواع البدو الرحّل الموجودين في عدد من المناطق المغربية، مؤكداً أنهم "أينما وُجد الماء تجدهم، ولا تجدهم يختلطون مع الناس كثيراً، إلا في الأسواق الأسبوعية، أو الأسواق الموسميّة، خاصةً مع اقتراب عيد الأضحى، حين يذهبون لبيع مواشيهم".

في السياق نفسه، أوضح إيزيم محي حداشي، رئيس جمعية آيت عيسى رحيل، أن "المناخ لا يُعدّ العامل الوحيد الذي أدّى إلى تفاقم الحياة المجتمعية للبدو الرحل، في حين أن الأمر يتعلق كذلك بأن هناك مستثمرين زراعيين استولوا على المناطق التي كانت ترعى فيها مواشي البدو، فباتوا إثر ذلك يواجهون نوعاً من العداء من جانب عدد من القرويين الذين يرفضون فكرة الاستقرار في مناطقهم"، وهو ما أكده العبودي في حديثه إلى رصيف22، بقوله "إن الرحّل، أصبحوا يُطالبون بتوفير التعليم لأبنائهم، الشيء الذي يصعب على وزارة التعليم العمل عليه، إذ تجدهم كل ستة أشهر في مكان مُعيّن، وأصبح كثيرون منهم يفضلون الاستقرار". استقرار يقدّم بعض الخدمات لكنه يسرق منهم إرث الأجداد في جعل الطريق "مقاماً".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image