شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
هل يوجد مساحة للتعمّق في عصر الذكاء الاصطناعي؟

هل يوجد مساحة للتعمّق في عصر الذكاء الاصطناعي؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والتنوّع

الجمعة 11 أغسطس 202305:34 م

هذا المقال جزء من ملفّ "على رصيف المستقبل"، بمناسبة عيد ميلاد رصيف22 العاشر.


كيف نحلّ مشكلات البلاد النامية جمعاء؟ هل تريد البلاد المانحة والمتطوّرة أن "تطوّر" هذه البلاد كما تزعم؟

من أين تحصل معظم المواقع على معلوماتها؟ من يغلق الفجوة في المجتمعات بين "مؤثرين/ات" و"باحثين/ات"؟ هل نحلّ مشكلة اللاجئين/ات من خلال بيان على فيسبوك مثلاً؟ هل يمكن التكلّم عن حقوق المرأة ضمن مجتمعات لا تريد فكفكة المشكلة، أو أن تعترف بها في معظم الحالات؟

كيف نقترب أكثر من مجتمعات سليمة، مبنية على التواصل والاعتراف بأهمية تأكيد الفرضيات دون حدّها بآراء قد تنبع من العواطف، وتُحلَّل عبر بوست على إنستغرام غالباً؟ من منا يستفيد من التجارب الشخصية ويوثّقها ويصلها بحلول واقعية، عقلانية ومبنية على دراسات معمّقة، إذا كان معظمنا منهمك بالكثير من التشتّت؟

نكتب اليوم في رصيف22، عن تصوّراتنا للمنطقة العربية بعد 10 سنوات، فأختار أن أشارك هواجسي واطمئناني حول تحوّل العمل العميق الذي أحال الكثير من الكتب واللوحات والفنون عبر التاريخ إلى رفاهية صعبة المنال، وإلى مهارة علينا أن نستثمر فيها كي يبقى لدينا شيء من التصوّر للمستقبل

أسئلتي الوجودية وغير الوجودية كثيرة

هذا كله يجول في رأسي كل الوقت، أولاً لأنني مهتمّة بتركيبة بناء مجتمعات أفضل، وثانياً لأنني مصابة مثل غيري بلعنة التفكير الزائد عن اللزوم. الأهم من أسباب التفكير في هذا كله، هو أنني في كل مرة أحاول فيها التعمّق في فكرة مما ذكرت، أتعثّر، عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ببعض الأفكار القريبة منها، وأرمي جزءاً من طاقتي هناك، ثم أقرأ عنها سريعاً لأنتقل إلى فكرة جديدة غير مرتبطة بنقطة التساؤل أو البحث.

أتخلّى عن الفكرة لكنها تبقى في رأسي: أتمنى لو كنت أعيش في عصر قديم، لا يلهيني فيه شيء عن التعمّق في أفكاري وتساؤلاتي، لكنت كتبت حينها كتاباً أو اثنين، أو قصائد مرتبطة ومتتالية، ولكنت قرأت أكثر بالطبع. ألوم نفسي ووتيرة الحياة التي نعيشها على سرعة الانتقال من فكرة إلى أخرى، ثم أعود لألتحق بفكرة ثانية أريد أن أتعمّق فيها، فأكتب بعض الأسطر، وأستبدلها بأخرى.

التعمق في الأفكار: رفاهية صعبة المنال

لا شك في أن خلق الفن أو الكتابة أو العمل الصحافي المعمّق أصبح صعباً ونادراً في عالمنا العصري، وهذه ليست مشكلتي وحدي. في عصر مبنيّ على انفتاح المنابر وتبادل الأفكار عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تظهر الفوائد الواضحة في تسهيل التواصل والوصول إلى المعلومات بسرعة، ولكنها تأتي أيضاً بتحديات جديدة في ما يتعلق بامتياز التعمّق والقدرة على بناء المجتمعات.

تخبرني صديقتي أنها تعاني في عملها الذي أتقنته خلال فترة طويلة، مع تطوّر الذكاء الاصطناعي، فهي مصمّمة غرافيكية تمّ استبدال معظم ما كان يستغرق من وقتها ساعات، بأساليب سهلة لا تتطلّب الكثير من الجهد. يطمئننا العاملون في مجال الذكاء الاصطناعي بأن هذه الآليات وُجدت اليوم كي تتيح للناس رفاهية التفكير في أفكار أكبر من تعقيدات التقنيات بأساليب استراتيجية. إلا أن هاجس الخوف يبقى، لأن من ستتاح له/ا فرصة العمل في هذا المجال سيكون/ستكون أقلّ، فيما يتم الاستغناء عن العاملين/ات التقنيين/ات في هذا المجال، وعليه، فإن العديد منهم/نّ سيضطرون على التأقلم من خلال تعلم شيء آخر، تماماً كما خلقت الاختراعات السابقة العديد من الفرص الجديدة عبر التاريخ، واضطررنا حينها إلى التأقلم معها.

لست ضد هذا التأقلم، لكن السؤال اليوم هو ما إذا سيتوافر لدينا الوقت الكافي للتأقلم مع أجهزة تستطيع أن تغيّر معالم الوجه وطريقة التفكير وخلق الفن، بوتيرتها السريعة نفسها.

سأتأقلم مع الذكاء الاصطناعي بشكل أنتظره بفارغ الصبر، لأنه، وبطبيعة الحال، سنتعلّم كيف نستفيد أو نسيء استخدام هذه الوسيلة بحسب النوايا والأهداف، لكن هل يمكننا أن نغفل عن كون هذه الآليات اليوم تدخل إلى حياتنا بتصميم من الدول الأكثر تطوّراً في العالم، وبيد منصات كبيرة، تأكدنا في السابق أنها لا تراعي أخلاقيات التجارب الشخصية وحماية الخصوصية والبيانات الشخصية؟

خوفنا شرعي ولو اخترنا التعلم بسرعة

نطمئن نفسَينا، أنا وصديقتي، بأننا سنستفيد من هذا التطوّر، وأنه جيد في إطلاق نتائج سريعة، لكن خوفنا يبقى شرعياً لأسباب أكبر من خلق صورة غرافيكية في ثوانٍ، أو انتفاء الحاجة إلى اليد العاملة بسبب الذكاء الاصطناعي، ويعود إلى التركيز على الانقسام العالمي بين الشمال والجنوب بشكل عام.

هل يمكننا أن نغفل عن كون هذه الآليات اليوم تدخل إلى حياتنا بتصميم من الدول الأكثر تطوّراً في العالم، وبيد منصات كبيرة، تأكدنا في السابق أنها لا تراعي أخلاقيات التجارب الشخصية وحماية الخصوصية والبيانات الشخصية؟

خوفي شرعي لأنني أخاف على مجتمعات قد تصبح أبعد مع الوقت عن مجتمعات تقود القوّة الاقتصادية عالمياً، وهي من تتناول هذا التطوّر بوتيرة أسرع، كما أخاف على الفنانين/ات البسطاء منّا. أخاف مثلاً على كاتب يكتب قصائد جميلةً، كان يمكن أن يعيش حياة الأدباء القدامى لو أصدر كتاباته في العصر القديم، لكن تدفّق المعلومات وانعدام الفرص سيجعل من محتواه مجرّد "داتا" أخرى موجودة في متناول الجميع، فتصعب فرصة تميّزه إن رفض التأقلم سريعاً.

قد يكون تعلم أساليب استخدام هذه التقنيات والمواقع هو الحل، لكن هل فرص التعلم هذه متاحة لجميع شرائح المجتمع بالتساوي؟ وهل يتعمّق المستخدم اليوم بأهمية حماية نفسه من خروقات هذه الوسائل؟

إن خوفي الأكبر هو من بلاد تدّعي أنها تحل مشكلات العالم بهذه الأساليب، وتجعل الحلول في متناول الجميع، فيما هي في الحقيقة تجعل منا شعوباً أكثر اتكالاً عليها، تماماً كما أنني أخاف أن ندّعي أننا نحل مشكلات شعب بأكمله من خلال تبرّعات بعض المشاريع المؤقتة المستقطبة من الخارج، والتي أحياناً تكون منفصلةً عن بعضها وعن الواقع، وقد لا تشرك أصحاب القضية في مجتمعاتنا النامية في بناء هذه الحلول.

في كتابه "The Divide" أو "الفجوة"، يتناول جايسون هيكل، الأستاذ المشارك في الأنثروبولوجيا الاقتصادية والبيئية، الانقسام الهائل في مستوى الثروة والدخل بين الأغنياء والفقراء على مستوى العالم، والذي يتزايد باطّراد. يستعرض هيكل، بشكل موثّق، الأسباب التي أدت إلى هذا الانقسام المتنامي، بما في ذلك الهيمنة الاقتصادية، والتجارة غير العادلة، والتطورات العالمية في النظام الاقتصادي، من خلال انتقاد نمط النمو الاقتصادي الحالي وتأثيره على العالم النامي والطبقات المحرومة من المجتمعات.

أتساءل كم كتاباً نحتاج لندرس كيف سيؤثر الذكاء الاصطناعي على الفقراء، أو حتى مواقع التواصل الاجتماعي في هذا السياق؟ وكيف يمكن للمجتمعات أن تحصن نفسها لمواجهة هذه التحديات من دون التعمّق في المحتوى، وهنا أطرح هاجسي الجديد: هل يستطيع جيل مواقع التواصل الاجتماعي أن يتعمق في طرح حلول ودراسات معمّقة لهذا النوع من الهيمنة في ظل ظاهرة صناعة المحتوى السريع؟

مهارة العمل العميق ضمن ثقافة التصفح الجديدة

بعد عشر سنوات، أخاف من نتائج ثقافة التصفّح التي أضيّع وقتي فيها، إذ قد تساهم هذه الثقافة في انتشار الأخبار الزائفة وزيادة ظاهرة الغرف المغلقة، حيث يتعرّض الأفراد فقط للمحتوى الذي يؤكد معتقداتهم/ن وتحيزاتهم/ن الحالية.

لن أدخل في كون ذلك يشكل الخطر الأكبر على القطبية العالمية، وتالياً على الفئات المهمّشة ومفاهيم الحقوق وغيرها، لكنني سأقف عند أثر ذلك على أعمالنا المستقبلية. في محاولة لاستباق الأمور ومساعدة نفسي، أقرأ كتاب "Deep Work" أو "العمل العميق"، وفيه يذكر أستاذ العلوم الحاسوبية والكاتب كال نيبورت، أن الأفراد الذين يبرعون في عملهم ويحققون إنجازات رائعةً، هم أولئك الذين يمارسون العمل العميق بانتظام، مؤكداً أنه لا تزال لدينا هذه الفرصة ضمن عالمنا الرقمي المشتّت.

التصوّر للمستقبل، وهو تصوّر مبنيّ على تأريخ التجارب الشخصية ورصدها وتحليلها والتعلم منها، أي هو تصوّر مبنيّ على بناء الحوارات المدعومة من تجارب فردية ومجتمعية، بدلاً من كونها مندفعةً من غرف مغلقة

لا أخفي أن هذه المقاربة تطمئن قلبي، لكن نيبورت يحدّد أولئك الأفراد في ثلاث شرائح فقط: النجوم الذين يستطيعون تقديم نتائج عالية الجودة والتأثير بدرجة كبيرة في مجالاتهم/نّ أو صناعاتهم/نّ (غالباً ما تكون لديهم/نّ قدرات مالية كبيرة)، والممارسون/ات الدقيقون/ات الذين يتفوقون في مجالهم/نّ، والعاملون/ات ذوو/ذوات المهارات العالية الذين لا غنى عنهم/نّ، وهم مطلوبون بشدّة في صناعاتهم/نّ المختلفة. في الحالتين الأخيرتين، يركز نيبورت على الممارس الدقيق الذي يستطيع التأقلم مع التطور العصري السريع والذكاء الاصطناعي، والعامل ذي المهارات العليا الذي يستطيع أن يطبّقه.

يبني الكاتب نظريته على تجارب مهمة نشرها عام 2016، لكنها لا تزال منطقيةً حتى يومنا هذا. وعلى الرغم من كونها مقلقةً للعديد من الفئات التي لا تستطع الهروب من العالم الرقمي المشتّت، أو التي ليست لديها رفاهية العمل بعمق ودقة، إلا أنها مطمئنة بعض الشيء، فكون هذه النظرية تنطبق عام 2023، يعني أن العمل الدقيق، وعلى الرغم من صعوبته، قد يصبح أكثر قيمةً بعد عشر سنوات، أي عند خلق أدوات جديدة، أكثر تشتيتاً من فيسبوك وإنستغرام وتيكتوك حتى. يبقى هنا السؤال عن قدرة جميع العاملين/ ات وصانعي الحرف حول العالم على تحمّل هذه المنافسة والانخراط في عمل عميق دون تشتيت.

نكتب اليوم في رصيف22، عن تصوّراتنا للمنطقة العربية بعد 10 سنوات، فأختار أن أشارك هواجسي واطمئناني حول تحوّل العمل العميق الذي أحال الكثير من الكتب واللوحات والفنون عبر التاريخ إلى رفاهية صعبة المنال، وإلى مهارة علينا أن نستثمر فيها كي يبقى لدينا شيء من التصوّر للمستقبل، وهو تصوّر مبنيّ على تأريخ التجارب الشخصية ورصدها وتحليلها والتعلم منها، أي هو تصوّر مبنيّ على بناء الحوارات المدعومة من تجارب فردية ومجتمعية، بدلاً من كونها مندفعةً من غرف مغلقة، تتعزّز هوّة سوء الفهم بينها يوماً بعد يوم، من خلال خوارزميات ثقافات التصفّح، وأساليبها.

الحقيقة هي أنني أصبحت أشعر بالرضا المستدام في كل مرة أحاول فيها فهم مشكلة معقدة وتفهيمها، فأختار ألا أشارك في أحاديث العالم كله عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وأعلم أنه لا يمكننا تصوّر مستقبل لبنان مثلاً، ما لم ننهمك في دراسات أعمق علها تأتي بنتيجة أفضل بعد عشر سنوات.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image