إنه يوم الأحد، اليوم الأكثر مللاً بالنسبة لكثيرين من الناس، يحاولون إيهامنا بأن لديهم الكثير من الإنجازات يوم الإثنين. لكن بالنسبة لي، هو يوم الملابس الفضفاضة والكثير من التصفح على مواقع التواصل الاجتماعي، والشاي والقهوة وغيرهما من المشروبات والسوائل التي أتناوب على تناولها على الكنبة نفسها دائماً.
ولأن العادة قضت بأن الأحداث الغريبة في حياتي لا تنقطع، فقد مرّ أمامي على موقع "linkedin" إعلان مهم، مع الكثير من علامات التعجب لجذب الانتباه، مفاده أن شركةً عالميةً تطلب وظيفةً براتب مغرٍ جداً، شريطة أن تكون "نيو مثقف"، على حد تعبيرهم.
لوهلة تأمّلت حياتي فوجدت فيها الكثير من التفاهة وفق منظورهم، ولكن كعادة أي سيرة ذاتية أو أي متقدم لوظيفة، وجدت أنني قادر على إيهام الشركة بما تتمناه من صفات الثقافة الحديثة لا بل قررت أن أبهرهم، فقدمت طلبي، وإذ بالشركة ترد ببريد تبلغني فيه بمكان وزمان مقابلة التوظيف لإجراء الاختبار الأساسي.
سُعدت جداً، وبدأت بالتحضير للمقابلة عن طريق الإكثار من محمود درويش وأغاني سيد درويش، وبدأت أنشر على مواقع التواصل الاجتماعي منشورات أعلن فيها عن استخفافي بمسلسل مثل "فريندز" وغيره من المسلسلات التجارية، كما وضعت صورة غلاف عنوانها "الحياة بلا هدف هي بؤس وكرب شديد" (هل لاحظت عزيزي القارئ استخدامي لعدميتي واستخدامي لمصطلح كرب؟ إذا كان جواباً إيجابياً، فأنا في الطريق الصحيح للحصول على هذه الوظيفة. فادعُ لي بالتوفيق غداً).
لأن العادة قضت بأن الأحداث الغريبة في حياتي لا تنقطع، فقد مرّ أمامي على موقع "linkedin" إعلان مهم، مع الكثير من علامات التعجب لجذب الانتباه، مفاده أن شركةً عالميةً تطلب وظيفةً براتب مغرٍ جداً، شريطة أن تكون "نيو مثقف"
إنه اليوم المنشود. طبعاً تجهزت جيداً وقبل أن أنطلق إلى المقابلة، وضعت نظارتي الطبية كالعادة ولكن هذه المرة بكل فخر، لأن، كما هو معروف في الأوساط، كل من يضع نظارةً قارئ نهم، ولكن ما يغفله هؤلاء هو أن نظارتي كانت بسبب إدماني على لعبة الفيفا برغم عدم براعتي فيها.
بمجرد وصولي إلى الشخص الذي سيقابلني، سألني عمّا أريد أن أشرب، فقررت أن أبدأ فقرة الإبهار منذ اللحظة الأولى. أجبته:
- نعم أريد.
"American coffee double shot".
لمحت في عينيه نظرة إعجاب، وقال لي ممازحاً إذاً سأنتظرها على طريقة درويش. فقهقهنا ولم نضحك كباقي الخلق لأننا نحن معشر المثقفين الآن وهذا ممنوع.
بدأنا المقابلة التي كانت خلاف ما توقعت، إذ فيها الكثير من الاختبارات الشفهية، والأسئلة السريعة التي تحتاج إلى إجابة مع التشديد على مخارج الحروف، بحيث أنك يجب أن تلفظ حرف الثاء بشكل ظاهر، ولكني للأسف تلعثمت وقلت تلعسمت، بينما كنت أتظاهر باستخدامي اليومي لحرف الثاء، وتمنيت ألا يكون أمري قد انفضح.
ولكن الأمور كانت تسير بشكل إيجابي، حتى وصلنا إلى الجزء الأهم في المقابلة، حيث كان ممثل الشركة يسألني عن حالات معينة نمرّ بها في حياتنا، وكان المطلوب مني أن أصفها بالتوصيفات التي يستخدمها معشر "النيو مثقفين"، فعلى سبيل المثال كان سؤاله الأول:
HR: إذا كنت تمر بظروف صعبة وأنت أمام معضلة تريد حلاً لها، فكيف تعرّف ما أنت عليه في هذه الحالة؟
أجبته بثقة: الإشكالية وليس المشكلة، لأن المشكلة يستخدمها عامة الشعب من محدودي الثقافة.
HR: حسناً، وإذا سئلت من قبل شخص عادي عن رأيك في معضلة ما، كيف تجيبه؟
أنا: أولاً بضحكة استهزاء، ثم أعرّج على الموضوع بشكل يصعب عليه فهم ما قلته، ليظن بأن لدي اطلاعاً أوسع منه بكثير لذلك لم يفهم ما قلته من هراء.
وأكملت مستطرداً: نعم أنا من الذين يصفون الأمور التافهة بالهراء وفي بعض الأحيان بالترهات.
Hr مقاطعاً: أنت كـ"نيو مثقف" كيف تقول لي إنك كذلك من دون ذكر الأمر؟
أنا: أتظاهر بأني مع قضايا المرأة بشكل عام، ولكن في حياتي اليومية أتعامل معهن بما تمليه عليّ العادات المجتمعية التي أنتقدها علناً.
بدأت بالتحضير للمقابلة عن طريق الإكثار من محمود درويش وأغاني سيد درويش، وبدأت أنشر على مواقع التواصل الاجتماعي منشورات أعلن فيها عن استخفافي بمسلسل مثل "فريندز" وغيره من المسلسلات التجارية، كما وضعت صورة غلاف عنوانها "الحياة بلا هدف هي بؤس وكرب شديد"
Hr: عظيم، وهنا دعني أنتقل إلى السؤال الأخير: إذا كنت متجهاً نحو ندوة ثقافية، ما هو الشيء الذي ستحرص على أن تحضره معك؟
فأجبته: "الصحيفة تحت إبطي". وابتسمت ابتسامةً فيها الكثير من الثقة.
تجهم وجهه وأجابني غاضباً: أنت كذاب ولست من معشر النيو مثقفين يا أيها... فلو كنت كذلك لحرصت على لبس الكوفية الصوفية، حتى ولو كنا في شهر آب/ أغسطس، من باب فهمك للقضية.
وسأثبت لك ذلك بالدليل القاطع؛ هل سبق أن صوّرت مكتبتك الخاصة؟ هل سبق أن نشرت مقطعاً من موسيقى شوبان؟ هل كنت من بين من حضروا حفلة مسار إجباري الأخيرة؟ هل صوّرت الغروب أو وجوه الناس في شارع الحمرا؟
هنا حاولت أن أقاطعه مبرراً موقفي، ولكني فهمت أن الأمر قد حُسم، فقررت أن أصارحه بما يلي:
تجهم وجهه وأجابني غاضباً: أنت كذاب ولست من معشر النيو مثقفين يا أيها... فلو كنت كذلك لحرصت على لبس الكوفية الصوفية، حتى ولو كنا في شهر آب/ أغسطس، من باب فهمك للقضية.
- أولاً أنت الـ"أيها" يا أيها "البزونك"، ونعم أنا لست "نيو مثقف"، وأنا من أشد المعجبين بمسرح مصر ومسلسل "فريندز"، ولا أحب محمود درويش ولا أريد أن أنتظرها، وتميم البرغوثي هو أفضل منه، لا بل أيمن بهجت قمر أفضل منه.
وبينما أنا أحدّثه بصوت مرتفع، احتشد حولي كل الحاضرين باستهجان، وهنا توترت فقلت ما هو أكثر من ذلك:
أنا أستمع بكل طرب إلى عبد الباسط حمودة، وأفضّل مشاهدة مسلسل "اللعبة" في وقت فراغي، على البحث ونسخ مقتطفات لصلاح جاهين ولصقها على مواقع التواصل الاجتماعي الخاصة بي كما تفعلون.
أتريد ما هو أكثر من ذلك؟
لا يوجد لدي حساب على threads؟ أتدري لماذا؟ لأني لا أريد أن أدلو بدلوي.
وقبل أن أمضي، قررت أن أسأله سؤالاً كنت أتمنى أن يجيبني عليه وهو ما حصل؛ فبينما كنت أستعد للخروج من الغرفة تجرأت وسألته:
ما هي الوظيفة المطلوبة من "النيو مثقف"؟
أجابني: التنظير على الأحداث فقط لا غير.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه