يُعدّ آخر أبناء جيل صاحبة الجلالة ممن يمتلكون الجرأة والشجاعة. عاش حياته لا يهادن أحداً ولا يقترب من السلطة من أجل منصب ما، فكان مصيره السجن في عهد الملك فاروق، ما جعله يمهد للثورة عليه. لكن خانه توقّعه، ولم يجد فيها مبتغاه، فسُجن في عهد الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر، وفي ظل خوف الجميع من الاقتراب من مؤسس جماعة الإخوان ومرشدها الأول حسن البنا، بعد صدور قرار بحل جماعته، أجرى حواراً معه، قبل اغتياله بأيام قليلة. إنه الصحافي أبو الخير نجيب.
من هو أبو الخير نجيب؟
في كتابها "تاريخ الصحافة المصرية: دراسة تاريخية ومعاصرة"، تحدثت عنه الدكتورة عواطف عبد الرحمن بقولها: "وُلد أبو الخير نجيب في حي مصر القديمة بمدينة القاهرة في 16 أيار/ مايو 1906، وكمعظم أبناء هذا الجيل من الصحافيين، كوّن نفسه علمياً من خلال قراءاته الخاصة في الموضوعات كافة، وداخل العمل في الصحافة معتمداً على موهبته".
ويؤكد الزركلي في كتابه "المستدرك على تتمة الأعلام"، أن أبو الخير نجيب صاحب مقالات عديدة في أثناء الاحتلال البريطاني لمصر وحكم الملك فاروق (1936-1952)، ودعا إلى جلاء الأول، وخلع الثاني، في جريدتيه اللتين أنشأهما: "النداء" و"الجمهور المصري".
ارتبط اسم أبو الخير نجيب بمقاله الشهير في مطلع عام 1948، الذي يهاجم فيه الملك فاروق، تحت عنوان "التيجان الهاوية"، وتحدث فيه عن مصير الملوك الذين ينحرفون، بعدما تنازل ميشيل، ملك رومانيا، عن العرش عام 1947، ملمحاً إلى الوضع في مصر بقوله: "إن الملك الذي يفقد ولاء شعبه يفقد أعظم درع يحمي عرشه، ويصدّ عن تاجه عاديات الدهر وتقلّب الأيام".
وذكر أبو الخير نجيب نفسه، في كتابه المعنون بـ"الحكومات البوليسية"، الصادر في أوائل عام 1969، أن مقال "التيجان الهاوية"، نُشر صباح يوم الثلاثاء 6 كانون الثاني/ يناير عام 1948، في جريدة حزب الوفد الأسبوعية، التي كانت تُسمّى "النداء".
قبل الإفراج عن أبو الخير، استدعاه النائب العام وقال له: "مبروك... لقد قررنا الإفراج عنك بلا ضمان بشرط أن تعدني وعد شرف بوقف نشر مقالات فيها هذه الحدة"، فردّ عليه: "سيدي أنا لا أقبل المساومة على حريتي!"
وبحسب الزركلي، صار البوليس السياسي يلاحق أبو الخير نجيب لفترة غير قليلة بعد كتابة هذا المقال، لكن يروي حسين مؤنس في كتابه "باشوات وسوبر باشوات: صورة مصر في عصرين"، أنه لم يتعرض أحد لكاتبه؛ لأن مصر كانت فيها حرية صحافة وضمانات تحمي حرية الصحافة، على حد وصفه، لكن هذا الرأي لا يمكن الاعتماد عليه.
في المقابل، يُعدّ الرأي الأقرب إلى الصواب، ما ذكره أحمد طوغان، رسام الكاريكاتير، الذي زامل أبو الخير نجيب في جريدة "الجمهور المصري"، في مقال نشره في ملحق الجمعة في جريدة "الأهرام"، بتاريخ 19 نيسان/ أبريل عام 2013؛ إذ يروي أن المقال تسبب في حبس أبو الخير نجيب، بعد غضب الملك فاروق، وظل في السجن لفترة، ثم أُفرج عنه بعد ذلك، بعد تدخّل النقراشي باشا، رئيس الوزراء المصري آنذاك، الذي هدد بالاستقالة إذا لم يُفرج عنه.
ولا بد من الإشارة هنا، إلى أنه قبل الإفراج عن أبو الخير نجيب، استدعاه النائب العام من السجن، وقال له: "مبروك... لقد قررنا الإفراج عنك بلا ضمان بشرط أن تعدني وعد شرف بوقف نشر مقالات فيها هذه الحدة"، فردّ عليه بقوله: "سيدي أنا لا أقبل المساومة على حريتي!".
رئيس الوزراء يعتذر!
عزة نفس أبو الخير نجيب، لم تتوقف عند المقولة السابقة فقط، وإنما ظهرت جليةً في موقف يُعدّ أقرب إلى الخيال، أورده أحمد طوغان أيضاً؛ إذ يقول إنه قبل تولي أبو الخير نجيب رئاسة تحرير "الجمهور المصري"، كان محرراً في جريدة "الأهرام"، وفي إحدى المرات اتصل بمكتب إسماعيل صدقي، رئيس الوزراء آنذاك، وطلب تحديد موعد معه، وفي الموعد ذهب ودعاه مدير المكتب للانتظار، وطال الانتظار أكثر من ثلاثة أرباع الساعة.
ما حدث كان فوق احتمال نجيب، فغادر وذهب مباشرةً إلى جريدة "الأهرام"، ودخل مكتب أنطون الجميل باشا، رئيس التحرير آنذاك، وشرح له ما حدث، وصمم على تقديم استقالته إذا لم يُسمح له بالرد على إهانة رئيس الوزراء، حفاظاً على كرامته وكرامة "الأهرام".
ومن العجيب أن مجلس إدارة "الأهرام" انعقد لمعالجة الأزمة، وانتهى بقرار يُعدّ مفاجئاً، يتضمن عدم نشر أي شيء أو خبر أو صورة أو أي تعليق أو مقال عن إسماعيل صدقي باشا، فاضطر الأخير بعد شهر كامل إلى الذهاب إلى مقرّ الجريدة، ولقاء رئيس التحرير، الذي استدعى نجيب ليتلقى استرضاءً واعتذاراً من رئيس الوزراء.
آخر حوار مع البنا
وكانت من مآثر أبو الخير نجيب التي لا تنتهي، معايشته قضية اغتيال النقراشي باشا (1888-1948)، رئيس الوزراء الأسبق، وقرار حلّ جماعة الإخوان المسلمين، خاصةً أنه لم ترهبه آنذاك الحملة ضد الجماعة، من أن يقترب من مؤسسها ومرشدها الأول حسن البنا، الممنوع من الاتصال بأعضاء جماعته، ويجري معه حواراً، كان الأول والأخير لـ"البنا".
وحكى أنور الجندي، قصة هذا الحوار في مؤلفه المعنون بـ"حسن البنا الإمام الداعية والمجدد الشهيد"، مشيراً إلى أنه تم في جمعية الشبان المسلمين التي كان البنا يتردد عليها، قبل اغتياله بأسبوعين، ووجه له أسئلةً عدة عن أسباب حل جماعة الإخوان، وحقيقة علم مؤسس الجماعة بمقتل النقراشي، الذي حدث في 28 كانون الأول/ ديسمبر عام 1948.
وفي ردّ حسن البنا على أبو الخير نجيب في قضية اغتيال رئيس الوزراء، قال: "كيف كان لي أن أعلم بهذا الأمر أو أشير به وأنا أعلم أنه سيضرّ بقضية الإخوان ولا ينفعها، وأؤكد لك أنه لو كان قد أتيح لي الاتصال بأنصاري حتى أبصّرهم بما يفيد وما يضرّ لما وقع هذا"، في إشارة إلى أنه آنذاك مُنع من التواصل مع أعضاء جماعته.
بعد اغتيال حسن البنا، كتب أبو الخير مقالاً بعنوان "الإمام الشهيد الرجل الذي فتح الطريق أمام القافلة"، قال فيه: "كان المغفور له الشيخ حسن البنا مصلحاً ينبع الإصلاح من أعماق نفسه"
وبعد اغتيال حسن البنا، كتب أبو الخير مقالاً بعنوان "الإمام الشهيد الرجل الذي فتح الطريق أمام القافلة"، قال فيه: "كان المغفور له الشيخ حسن البنا مصلحاً ينبع الإصلاح من أعماق نفسه، وكان داهيةً سياسياً يجمع بين الصلابة في الحق ومرونة الحكيم الذي يؤمن بواقع الأمر، وينشد فتح الطريق المغلق لكي تمر القافلة متقدمةً نحو هدف عظيم مرموق!"، بحسب ما ذكر جمال البنا في مؤلفه المعنون بـ"من وثائق الإخوان المسلمين المجهولة".
"الجمهور المصري"
ومع بزوغ نجم نجيب في الصحافة، اتفق مع صديق له يُدعى محمد زيد، على تمويل إصدار صحيفة جديدة، وتقدّم الأول بإخطار عن إصدارها باسم "الجمهور المصري" إلى محافظة القاهرة، في أوائل عام 1950، متضمناً أن صاحب الجريدة، ورئيس التحرير المسؤول، هو أبو الخير نجيب، المصري الجنسية.
وصدر العدد الأول من "الجمهور المصري"، يوم الإثنين 8 كانون الثاني/ يناير عام 1951، من 16 صفحةً، واتخذت الجريدة شعاراً لها الدعوة إلى القوة، وتضمنت ترويستها أن صاحب امتيازها ورئيس تحريرها أبو الخير نجيب، والمدير العام محمد زيد.
ويرى حسين مؤنس، في كتابه المعنون بـ"باشوات وسوبر باشوات: صورة مصر في عصرين"، أن جريدة "الجمهور المصري" صدرت في عنفوان المدّ الثوري الحقيقي (1950-1951)، واشتهرت بالإثارة الناجحة ضد الاستعمارَين الأمريكي والبريطاني، وأحزاب الأقلية والقصر، مشيراً إلى أنها "اكتشفت (العسكري الأسود) الذي استخدمه السعديون في تعذيب الإخوان المسلمين، واستطاع محرر الصحيفة سعد زغلول فؤاد أن يأتي به إلى المحكمة، وكان السعديون ينكرون وجوده، وهي التي أثارت ضجةً عالميةً عندما نشرت خبر سفينة أبحاث أمريكية تُجري تجارب جرثوميةً على أسرى الحرب الكورية".
وتبنّت الجريدة الشابة، الكفاح الشعبي في منطقة القناة ضد الإنكليز، وفي مفاجأة قوية نشرت إعلاناً عن استعدادها لدفع ألف جنيه لمن يقتل جورج إرسكين، قائد جيش الاحتلال البريطاني في مصر آنذاك، وجُنّ جنون الإنكليز عندما علموا بذلك.
وهنا يقول حسام مؤنس، إن الإنكليز "تقدموا بطلب رسمي نُشر أخيراً ضمن الوثائق البريطانية المفرَج عنها، يطلبون محاكمة أبو الخير نجيب ومعاقبته، لكن حكومة مصر (الرجعية)، رفضت هذا الطلب بل احتجت على مجرد تقديمه".
... ويمهّد لثورة تموز/ يوليو
لم يستكن أبو الخير نجيب، وإنما استغل صحيفته الجديدة لمحاربة أفكار الملكية (الملك فاروق) والاستعمار والإقطاع، فكان واحداً ممن مهدوا لثورة تموز/ يوليو 1952، وعندما نجحت بدأ يدعم كل ما يصدر عن حكومات الثورة من إجراءات وقوانين، وفقاً لما ذكرته الدكتورة عواطف عبد الرحمن وصديق عبد الرحمن، في كتابهما المعنون بـ"بحوث تاريخ الصحافة إشكاليات منهجية وآفاق مستقبلية".
وبحسب الدكتورة عواطف عبد الرحمن، في أواخر عام 1953، وقعت خلافات مالية بين محمد زيد وأبو الخير نجيب، ما أدى إلى حذف اسم الأول من الترويسة منذ كانون الثاني/ يناير 1954، وأضاف أن الجريدة تصدر عن شركة أبو الخير نجيب وشركاه، وإن كان لا يوجد في ملف الجريدة في هيئة الاستعلامات ما يشير إلى وجود قانوني أو فعلي لهذه الشركة.
...و"الانقلاب عليها"
وعلى الرغم من تأييد أبو الخير نجيب الكامل للثورة، إلا أنه عندما أحس بانحرافها عن أهدافها، انحاز في أزمة آذار/ مارس 1954، إلى الجبهة التي ترى أن حكومة تموز/ يوليو، قد أدت دورها في القضاء على الملكية وتطهير البلاد من الفساد السياسي والاجتماعي، وأن على الجيش أن يعود إلى ثكناته، وأن تتولى الحكم وزارة مدنية ديمقراطية يختارها الشعب عن طريق الانتخابات.
انتقد أبو الخير أداء ضباط ثورة يوليو. كتب مقالاً عنونه "طردنا ملكاً واستبدلناه بعشرة ملوك"، لوحق وحُكم عليه كعادات النظام البوليسي، "الاتصال بجهات خارجية"، فما الذي حصل لاحقاً؟
ومارس الصحافي الراحل هوايته آنذاك، وكتب مقالات عديدةً انتقد فيها السلبيات التي ظهرت من بعض ضباط الثورة، وكتب مقالاً شهيراً قال فيه: "طردنا ملكاً واستبدلناه بعشرة ملوك"، وطالب برفع الأحكام العرفية التي كانت ثورة تموز/ يوليو قد فرضتها، واحترام حرية الصحافة وسيادة القانون والإسراع في العودة إلى الحياة الطبيعية.
وفي هذه الأثناء، كتب أبو الخير نجيب يقول إنه فكر في كتابة مقال بعنوان "النسور الهاوية"، وألقي القبض عليه وهو يتناول طعام الغداء، بحسب حسين مؤنس.
ويؤكد ياسر بكر في كتابه "صناعة الكذب"، أنه جرى توجيه الاتهام إلى نجيب سنة 1953، بتهمة الاتصال بجهات أجنبية تعمل ضد النظام الاجتماعي والسياسي القائم في البلاد، بقصد معاونتها على تحقيق أهدافها، وأنه في سنتي 1953 و1954 عمد إلى الاتصال بمجموعات من العمال والطلبة وتحريضهم على التمرد والعصيان، وامتهن الصحافة، ولم يلتزم بدستورها وأهدافها القومية.
ويُعدّ موقف أبو الخير نجيب سبباً رئيسياً، في صدور قرار مجلس قيادة الثورة، في 15 نيسان/ أبريل عام 1954، بحل نقابة الصحافيين التي كان يرأسها حسين أبو الفتح، بدعوى أن سبعةً من أعضائها الاثني عشر، تقاضوا مصروفات سريةً في عهد الملك فاروق، كان نجيب من بينهم، وأن بعض الصحف اشتد حقدها على الثورة وحاربتها، كما تقرر النظر في قانون النقابة وتعديله بما يتفق وأهداف الثورة وشرف المهنة.
ويضيف مؤلفا كتاب "بحوث تاريخ الصحافة إشكاليات منهجية وآفاق مستقبلية": "أيّد أبو الخير نجيب حرية الصحافة، ما أدى إلى اعتقاله ومحاكمته بتهم مختلفة، ربما في خطوة لإسكات الصحافيين، وتحويلهم إلى أبواق للتبرير والتأييد".
الإعدام!
حوكم الصحافي الراحل أمام محكمة الثورة، التي حكمت بإلغاء ترخيص "الجمهور المصري"، وإغلاق مقرّها، وإعدام أبو الخير نجيب، لكن خُفّف الحكم إلى السجن المؤبد مع الأشغال الشاقة.
لكن هناك خلافاً على مدة الحبس مع الأشغال الشاقة، فيذكر ياسر بكر أنها 15 عاماً، لكنه لم يكمل المدة وخرج عام 1966. أما أحمد طوغان، فيروي أنها كانت 25 عاماً، أمضى منها 19 سنةً، وخرج بعدها بإفراج صحي، بأمر من الرئيس الأسبق محمد أنور السادات، بعد توليه رئاسة الجمهورية، عقب رحيل جمال عبد الناصر، عام 1970. وقد يدعم الطرح الأول، أن كتاب "الحكومات البوليسية" لصاحبه أبو الخير نجيب، صدر في كانون الثاني/ يناير عام 1969.
وعلى أي حال، فإلى جانب عقوبة الحبس، تم تجريد أبو الخير نجيب من شرف المواطنة، ما عدّه مؤلف كتاب "باشوات وسوبر باشوات: صورة مصر في عصرين"، أقسى حكم في تاريخ الصحافة المصرية.
وفي 7 نيسان/ أبريل 1983، لقي أبو الخير نجيب ربّه في حادث مأساوي، إذ بينما كان خارجاً من نقابة الصحافيين يحمل كيساً من لحم الجمعية، وعلى بعد خطوات منها، في شارع رمسيس، صدمته سيارة نقل عام، وفقاً لما ذكر مؤلف كتاب "صناعة الكذب"، ويعلّق أحمد طوغان على ما حدث بقوله: "مات أبو الخير نجيب أمام باب نقابة الصحافيين ويده ممسكة بالفرخة!".
وعلى الرغم من رحيله، جرى إحياء ذكراه مجدداً في عام 1987، عندما صدر فيلم "الهروب من الخانكة"، بطولة الفنان فريد شوقي، الذي جسد فيه قصة حياة الصحافي أبو الخير نجيب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.