بينما كان الزعيم الوفدي سعد زغلول باشا (1858-1927)، قائد ثورة الـ1919 في مصر، ورفاقه، منهمكين في محاربة الإنكليز، ورفض سياساتهم في الدولة، كان هناك عملاء مأجورون يلتفون حول المستعمر البريطاني، ويشون بأبناء وطنهم، متسببين في إضعاف شوكتهم، والقبض عليهم والحكم عليهم في أحيانٍ كثيرة بالإعدام، ومنهم شخص يُدعى عبد الظاهر السمالوطي، نسبةً إلى مركز سمالوط في محافظة المنيا في صعيد مصر.
يحكي المؤرخ الشهير عبد الرحمن الرافعي، تفاصيل وشاية عبد الظاهر السمالوطي، بزعماء ثورة 1919، في مؤلفه المعنون بـ"ثورة 1919"، قائلاً: "السلطة العسكرية اتهمت في أيار/ مايو 1920، عبد الرحمن فهمي بك و27 معه بأنهم أعضاء في جماعة سُميت 'جمعية الانتقام'، كان الغرض منها خلع عظمة السلطان وقلب حكومته والتحريض على العصيان والقتل".
ويتفق الرافعي مع المؤلف محمد كامل سليم، في كتابه المعنون بـ"صراع سعد في أوروبا"، على أن "الاتهام قام على شهادة شخص يُدعى عبد الظاهر السمالوطي، قيل إنه كان ضمن أعضاء الجمعية وخانهم وأفشى سرّهم، والواقع أنه جاسوس مأجور".
اتهمت السلطة العسكرية اتهمت في أيار/ مايو 1920، عبد الرحمن فهمي بك و27 معه بأنهم أعضاء في جماعة سُميت 'جمعية الانتقام'
ووفقاً للكاتب الصحافي مصطفى أمين، في الجزء الأول من مؤلفه "الكتاب الممنوع أسرار ثورة 1919"، فإن الإنكليز جاؤوا بشهود زور، كان منهم السمالوطي، الذي يؤكد أنه كان طالباً في الأزهر، وبعد أن رتبت المخابرات البريطانية القضية، وقسمت الأدوار على الشهود، قبضت السلطة العسكرية على عبد الرحمن فهمي ورفاقه.
شهادة السمالوطي ضدهم كانت سبباً رئيسياً في القبض عليهم ومحاكمتهم أمام محكمة عسكرية بريطانية عليا، مؤلفة من 5 ضباط، برئاسة الجنرال لوسون، وكان القاضي المستشار ثورب من قضاة المحاكم الوطنية، وتولّى رفع الدعوى العمومية المستر مكسويل، وفي المقابل دافع عن المتهمين جمع كبير من المحامين المصريين والإنكليز.
ماذا قال في شهادته؟
يروي المؤلف عبد العظيم رمضان، في الجزء الأول من مؤلفه "تطور الحركة الوطنية في مصر من سنة 1918 إلى سنة 1936"، تفاصيل ما حدث آنذاك، قائلاً: "عبد الظاهر السمالوطي وصف عبد الرحمن فهمي بك في وشايته أمام المحكمة العسكرية، بأنه كان رئيس الحركة الوطنية، أما سعد زغلول باشا فرئيس الوفد".
وذكر السمالوطي في شهادته أيضاً، أن عبد الرحمن فهمي بك، كان يدير الحركة الشعبية من غرفة خاصة في منزل سعد باشا، يقابل فيها زوّاره، ومن منزله في شارع القصر العيني، وأنه كان يردد أن "الوفد لا يتحرك إلا بالطلبة ودمائهم المهرقة".
وتلخصت أقواله، أمام المحكمة، في أنه كان يذهب مع غيره لمقابلة عبد الرحمن فهمي في بيت الأمة، وأنه سمع الأخير في بيته يقول: "إن اليد الكبرى لا بد أن تُقطع"، وغير ذلك من الكلام، ما يعني قتل السلطان والوزراء، وأن جمعية الانتقام تألفت بعد عودة اللورد ملنر ولجنته إلى إنكلترا في 17 كانون الثاني/ يناير 1920.
ووفقاً لرمضان، فإن عبد الظاهر السمالوطي ذكر أيضاً أن عبد الرحمن فهمي كان يعطي نقوداً لكل من له علاقة بالحركة، ومؤسسي جمعية الانتقام.
لكن كيف حصل السمالوطي على المعلومات التي أوردها في وشايته عن "جمعية الانتقام"؟
يجيب المؤلف عبد العظيم رمضان، عن هذا التساؤل، قائلاً: "الحقيقة أنه حصل على هذه المعلومات عن طريق عضويته في الجمعية، وهي العضوية التي لا ندري هل اكتسبها كجاسوس للإنكليز، أم كطالب أزهري متحمس، والأرجح أنه التحق بها كطالب لا جاسوس، واضطر إلى الوشاية بزملائه عندما شعر بأنه أحيط به، وأنه على وشك القبض عليه".
ويتفق المؤلف لويس عوض، مع هذا الطرح، إذ يقول في مؤلفه "أوراق العمر سنوات التكوين": "لا أحد يعرف إن كان السمالوطي منذ البداية مدسوساً على الجمعية (الانتقام) وغيرها من الجمعيات السرّية، فقد كان عضواً في أكثر من جمعية سرّية، أم أنه أصيب بالذعر عند القبض على إخوانه فتقدّم للاعتراف كشاهد ملك".
القبض على فهمي بك
ونقل صاحب كتاب "تطور الحركة الوطنية في مصر من سنة 1918 إلى سنة 1936"، عن محمد لطفي المسلمي، الطالب في كلية الحقوق، وأحد المتهمين في القضية، قوله: "عبد الظاهر السمالوطي اشترك في كثير من أوجه النشاط معهم، منها تجميع أسماء طلاب الأزهر الشريف لعمل نقابة لطلبة القطر"، ما دفع المؤلف للتأكيد على أن "الحقيقة أن كل ما قاله أمام المحكمة كان صدقاً"، لكنه في الوقت ذاته يتدارك: "ولما كان جباناً بطبيعته فلم يكن ليرفض أن يضيف إلى اعترافاته ما يمكن أن تطلب إليه السلطات إضافته للقبض على عبد الرحمن فهمي ومحاكمته".
تلخصت أقواله، أمام المحكمة، في أنه كان يذهب مع غيره لمقابلة عبد الرحمن فهمي في بيت الأمة، وأنه سمع الأخير في بيته يقول: "إن اليد الكبرى لا بد أن تُقطع"، ما يعني قتل السلطان والوزراء
جرى القبض على عبد الرحمن فهمي بك ورفاقه بالفعل، وكان من بينهم صحافيان، هما عبد الحليم الغمراوي، المحرر في جريدة النظام، وقرياقص ميخائيل، اللذان اتُّهما بالانتماء إلى جماعة الانتقام، وبالتحريض على العنف بالكتابة في الصحف، وإعداد النشرات وتوزيعها، وفقاً لما ذكره الدكتور رمزي ميخائيل في كتابه "الصحافة المصرية وثورة 1919"، كما اعتُقل حسين رفعت، المحرر في جريدة "المحروسة"، بتهمة تهديده عبد الظاهر السمالوطي.
لكن لم ينتهِ الأمر سريعاً، وظلّت القضية في المحكمة لمدة 3 أشهر؛ إذ بدأت المحاكمة في 20 تموز/ يوليو 1920، واستغرقت 99 جلسةً، وانتهت في تشرين الأول/ أكتوبر 1920، وكان هدف السلطات البريطانية منها بحسب ميخائيل، إرهاب المصريين، والتأثير على ممثليهم في المفاوضات في لندن وباريس، وإضعاف مكانة ونشاط تنظيمات الوفد في مصر، بحرمانها من جهود عبد الرحمن فهمي، الذي كان التعويل عليه كبيراً في ترويج الأفكار الصحيحة، ومقاومة الآراء الفاسدة، التي كان يروّجها الخصوم والحاسدون.
وجاءت الأحكام مختلفةً من شخص إلى آخر، وكان من بينها الحكم على عبد الرحمن فهمي بك بالإعدام، وعُدّل الحكم إلى السجن مع الشغل 15 سنةً.
ويشير رمضان، في الجزء الثاني من كتابه "مصر في عهد السادات"، إلى أن ما حدث مع عبد الرحمن فهمي بك كان "أول تلفيق لقضية سياسية ضد شخصية وطنية مهمة في عام 1920، مؤكداً أن "فهمي كان سكرتير عام لجنة الوفد المركزية، ورئيس التنظيم السرّي في ثورة 1919، ومنظّم مقاطعة لجنة ملنر (لجنة تشكّلت في أيلول/ سبتمبر 1919 من قبل الحكومة البريطانية، للوقوف على أسباب الثورة)".
وكانت السلطات البريطانية آنذاك قد توافر لديها الشك في صلة عبد الرحمن فهمي بالتنظيم السرّي، لكنها لم تملك دليلاً ضده تقدّمه به إلى المحاكمة، ولما وشى به "السمالوطي"، وبزملائه في جمعية الانتقام، انتهزت السلطات الفرصة للزجّ به في السجن.
وبحسب مؤلف كتاب "صراع سعد في أوروبا"، فإن عبد الرحمن فهمي بك، كان آنذاك السكرتير العام للّجنة المركزية لحزب الوفد (أكبر الأحزاب السياسية في مصر حينها)، والشخصية القوية الممتازة المنظمة للحركة الوطنية في مصر، وقد أكّد أن "خبر القبض عليه ورفاقه وقع كالصاعقة على رئيس الحزب سعد زغلول، وجميع أعضاء الوفد".
وظل عبد الرحمن فهمي بك وبعض رفاقه في السجن، إلى أن شكّل الزعيم سعد باشا زغلول حكومته الوفدية الشعبية في كانون الثاني/ يناير 1924، فأصدر قانوناً خاصاً بالعفو عنهم، وأطلق سراحهم.
أشهر شاهد ملك
أورد المؤلف محمد لطفي جمعة، اسم السمالوطي في كتابه المعنون بـ"قطرة من مداد لإعلام المتعاصرين والأنداد" خلال حديثه عن محمد ماضي أبو العزايم، مؤسس الطريقة الصوفية المسماة بـ"العزمية" في مصر، قائلاً: "تخرّج من بيته المدعو عبد الظاهر السمالوطي، الذي صار أشهر شاهد ملك في القضايا السياسية عامي 1919 و1920، ولقي كثير من الشباب حتفهم بشهادة السمالوطي الذي اختفى بعد ذلك".
دخل عبد الرحمن فهمي بك ورفاقه السجن، وفي المقابل وضع الشعب عبد الظاهر السمالوطي في سجن آخر أشد رهبةً
ويبدو من حديث جمعة عن عبد الظاهر السمالوطي، أن القضية المذكورة لم تكن الأخيرة التي يشهد فيها الأخير ضد أبناء وطنه، رغبةً في التمتع بالمزايا التي وعده الإنكليز بها، وهذا ما أكده الكاتب محمود السعدني في مؤلفه "مصر من تاني".
يقول محمود السعدني، إن "سعد زغلول الذي أنتجته الجماهير وأجلسته على مقعد الزعامة، سرعان ما خلعه الإنكليز بعد مقتل السير لي ستاك (سردار الجيش المصري وحاكم السودان العام) عام 1924، وراحت السلطة تتعقب الذين اغتالوا الرجل، وتقدّم مصريان كشاهدي ملك للمحكمة، كافأهما الإنكليز في ما بعد، أحدهما عبد الظاهر السمالوطي، الذي اشتغل مفتشاً في شركة الترام، مكافأةً له على خدماته".
في السياق ذاته، يروي المؤلف فتحي رضوان في كتابه المعنون بـ"مشهورون منسيون"، أن عبد الظاهر السمالوطي كان شاهد الإثبات الرئيسي في قضية عبد الرحمن بك فهمي ورفاقه، مشيراً إلى أنه كان "طالباً أزهرياً لم يتم تعليمه، فأصبح اسمه قرين الشيطان على ألسنة المصريين، وفي تصورهم"، جراء ما تسبب فيه من خيانة كبيرة لأبناء وطنه المخلصين الذين كانوا يسعون إلى التخلص من سطوة الاستعمار البريطاني.
الحالة التي تسبب فيها السمالوطي أثارت غضب الجميع، خاصةً أعضاء حزب الوفد، ورأى بعض الثوار آنذاك أنه يجب قتل الرجل الذي وشى بعبد الرحمن بك فهمي ورفاقه، عقاباً له على خيانته للثورة، وفقاً لما ذكره الكاتب الصحافي الراحل مصطفى أمين في كتابه "من واحد لعشرة"، لكن لم يحدث ذلك حينها، وظل الرجل يمارس مهنته كـ"شاهد ملك" ضد الزعماء السياسيين.
أسير سجن الشعب
دخل عبد الرحمن فهمي بك ورفاقه السجن، وفي المقابل وضع الشعب عبد الظاهر السمالوطي في سجن آخر أشد رهبةً وأكثر عذاباً، وقد وصف بنفسه هذا السجن قائلاً: "لم أقابل أحداً بعض القبض على عبد الرحمن بك فهمي، لأن الناس صارت تخاف مني، وصرت كالطاعون، لأنني عدوّ خائن".
أما عن نهايته، فيذكر محمد لطفي جمعة، أن عبد الظاهر السمالوطي، قيل إنه "نزح إلى السودان لينجو بجلده من انتقام الأبرياء، وقيل إنه عُيّن في وظيفة حكومية مكافأةً له على شهادته التي أوقع بها الكثيرين".
لكن الكاتب الصحافي محمود السعدني، يروي أنه "مات في الطريق العام، بعدما ضربه عمال الترام (الذي كان موظفاً فيه)، علقةً ساخنةً ولم يتركوه حتى لفظ آخر أنفاسه".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع