كتب المسلمون القادمون من بلاد فارس الكثير في مذكراتهم عن "مكة"، أعرق مدن الحجاز وأشهرها، في أثناء زيارتها لأداء فريضة الحج. وسنتناول في هذه المادة مكة من وجهة نظر الرحالة والعلماء الإيرانيين الذين كانوا يزورونها في قديم الزمان عبر طرق مختلفة هي:
أ. الوصول إلى البصرة ومن ثم الذهاب إلى السعودية عبر الخليج أو عبر قوافل برية من داخل الأراضي العراقية.
ب. الوصول إلى العراق ثم سوريا فمصر، والعبور من قناة السويس والبحر الأحمر حتى الوصول إلى ميناء جدة القريب من مكة.
ت. الطريق الآخر يمر عبر تركيا، ومنها يصلون إلى القاهرة ثم يعبرون قناة السويس باتجاه ميناء جدة.
مع حلول الدولة القاجارية في نهاية القرن الثامن عشر التي اتخذت من طهران عاصمةً لها، ازدادت قوافل حج الإيرانيين، مما خلّف الكثير من المشاهدات والمذكرات حول موسم الحج في التاريخ الإيراني
أول الشروح التي يمكن قراءتها في التاريخ الإيراني عن مكة، هي مذكرات الرحالة والشاعر الشهير ناصر خسرو، فقد زارها عام 1045 م، وكتب عنها ما يلي:
"تقع مدينة مكة وسط الجبال، وليست مرتفعةً كي تراها من أي جهة، إلا عندما تقترب منها. أعلى جبل بالقرب منها هو جبل أبي قبيس، وهو كالقبة المستديرة، إذ يقع في الجهة الشرقية من المدينة. موقع المسجد الحرام في وسط مكة، ومن حوله المدينة. لا شجر في الأزقة والأسواق إلا في باب المسجد الحرام. في مكة موقعان للاستحمام مع أرضية خضراء. كان لدى أهل كل مدينة من إقليم خراسان والعراق وما وراء النهر، إلخ، نزل خاصة بهم بيد أنها كانت مدمرةً في معظمها. مياه آبار مكة مالحة ومُرّة وغير صالحة للشرب، وطقسها حارّ في غالبية الأوقات".
لصوص مكة
قلة الرحلات نحو مكة بعد الغزو المغولي في النصف الأول من القرن الثالث عشر الميلادي، سبب في ندرة الوثائق المتبقية عن مكة من تلك الحقبة الزمنية من وجهة نظر الإيرانيين، ولكن في عهد الشاه عباس الثاني الصفوي في القرن السابع عشر الميلادي، وصف الشاعر الإيراني محمد نبي قورتشي، في كتابه "دقيقة الرموز من خزائن الکنوز"، ضمن أبيات شعرية باللغة الفارسية رحلته إلى مكة، وقد أشار إلى اللصوص في طريق القوافل في الحجاز.
كان التهديد الرئيسي لقوافل الحج يتأتى من غارات البدو، وكان للقوافل قائد أو أمير من واجباته تأمين الأموال والمؤن للقافلة، وحمايتها على طول الطريق الصحراوي المؤدي إلى مكة والمدينة.
اعتقد الشاعر الإيراني أن أمير الحج، متواطئ مع قبائل البدو على طريق مكة حسب مشاهداته، فقد تحدث بلهجة حادة تُبرز غضبه من غزو قوافل الحج على يد اللصوص، وقال في قصيدته:
"مير حاجش که مير دزدان است/ آفت مال و دشمن جان است" (أمير الحج أمير اللصوص/آفة المال وعدو النفوس)
"گشته جاسوس رهزنان عرب/ غارت مال، حاجتش مطلب" (إنه جاسوس قطاع الطرق العرب/وغايته نهب الأموال).
ثم يبدأ بوصف الروح العدوانية لقبائل البدو، كي تتسنى معرفة مدى صعوبات رحلة الحج في القرن الـ17:
"نه مدارا شناخته نه سلوک/ همه پر خشم و تندخو چون خوک" (لا تسامح ولا سلوك حسن/غضب وغيظ مثل الخنازير)
"رهروي را که عاجز از نان است/ زر ستاند که حق اخوان است" (المسافر العاجز عن رغيف خبز/يأخذ الذهب متحججاً أنه حق الإخوة).
مقتل أمير الإيرانيين
استولى نادر شاه أفشار على بلاد فارس في القرن الـ18، ولطالما طلب من العثمانيين الاعتراف بالمذهب الجعفري مذهباً خامساً، وأن يكون هناك أميرَ حج إيراني، بيد أن العثمانيين كانوا يرفضون.
في إحدى غزواته للعراق، طلب نادر شاه من والي بغداد أحمد باشا، أن يرسل إليه أحد علماء السنّة ليشهد المناظرة بين علماء السنّة والشيعة من الأفغانيين والإيرانيين، بالقرب من مرقد علي بن أبي طالب في مدينة النجف. وأرسل الوالي العثماني الشيخ عبد الله السويدي في كانون الأول/ديسمبر 1743.
كتبت الزائرة الإيرانية سكينة سلطان وقار الدولة عن منازل مكة: "تقع بيوت مكة منزلاً فوق منزل، دون ساحة مخصصة لكل واحدة منها. البيت الذي استأجروه لي، فيه 46 درجاً".
دارت العديد من المناقشات، وانتهت بسبب وجود إرادة سياسية من حاكم جبار، وحصل اتفاق بالإكراه بين الفريقين يتضمن نقاطاً عدة، منها القبول بالعقيدة الجعفرية كمذهب خامس. وجاء في نص الاتفاق كذلك: "إن الأركان الأربعة من الكعبة المعظمة في المسجد الحرام التي تتعلق بالمذاهب الأربعة، والمذهب الجعفري يشاركها في الركن الشامي بعد فراغ الإمام الراتب فيه من الصلاة، يصلون بإمامهم على طريقة الجعفري"، (أي أن إمام المذهب الجعفري يمكنه الصلاة في أحد أركان البيت الحرام التي كان يشغلها عادةً أئمة من المذاهب الأربعة).
"في كل سنة تعيّن حكومة إيران أميراً للحج الإيراني، ويكون في الدولة العلية العثمانية أعلى شأناً من الأمير المصري والشامي"؛ هذا ما جاء أيضاً في الوثيقة التي ختم عليها كلا الجانبين. إلا أن نتائج المؤتمر لم تدُم طويلاً، فقد رفضت الدولة العثمانية التعامل معها، وحين أُرسل أمير إيراني للحج إلى مكة قُبض عليه وأُرسل إلى الأستانة وقُتل هناك.
نساء مكة
قبل ذلك الاجتماع بأربع سنوات، كان قد زار عبد الكريم خواجه، طبيب نادر شاه أفشار، مكة وكتب عنها: "بعد الانتهاء من مهام الحج ذهبنا لرؤية المعالم المهمة في مكة وضواحيها... تضع نساء مكة كرات خضراء اللون حول أعناقهن، ويعتبرن عبر ذلك أنفسهن فاتنات للغاية".
مع حلول الدولة القاجارية في نهاية القرن الثامن عشر التي اتخذت من طهران عاصمةً لها، ازدادت قوافل حج الإيرانيين، مما خلّف الكثير من المشاهدات والمذكرات حول موسم الحج في التاريخ الإيراني.
ذهب الأمير كَيْكَاوُوس ميرزا من السلالة القاجارية إلى الحج عام 1837، وطبع مذكراته في كتاب شامل اسمه "مسالك السالكين"، وتمت طباعة قسم من مذكراته عن موسم الحج مؤخراً.
جاء في مذكراته حول مدينة مكة: "معظم البنايات مرتفعة، وفيها غرف جميلة وأبواب البيوت تتفتح على الشوارع العامة، (في المدينة) ثمة مقاهٍ في غاية الجمال"، ثم يبدأ بشرح سوق مكة الذي فيه الأرز الهندي والبضائع التي تأتي من مسقط وبلاد فارس والهند.
حظر بيع العبيد على الروافض
وصف الأمير الإيراني سوق عبيد مكة بتفاصيل مثيرة للاهتمام: "سوق بيع العبيد السود من الحبشة وزنجبار، يقع بالقرب من سوقي الصفا والمروة. يتم بيع العبيد وشراؤهم في مكان عام حيث يتم ترتيبهم على طرفي الشارع؛ الصف الأمامي هو للعبيد الجيّدين، ثم يجلس أسفلهم من هم أقل شأناً منهم، ويتم تزيينهم. وفي الترتيب الأخير يجلس أصحاب الوجه الفظيع الشيطاني. يأتي الزبائن فيطلبون عبداً من صاحبه. وبعد النظر في أجسادهم وإذا لم توجد عيوب فيهم، يبتاعونهم".
جاء في مذكرات الأمير القاجاري كَيْكَاوُوس ميرزا حول مكة: "معظم البنايات مرتفعة، وفيها غرف جميلة وأبواب البيوت تتفتح على الشوارع العامة، (في المدينة) ثمة مقاهٍ في غاية الجمال"
ثم روى حكاية العجم والعبيد: "لم يتعامل أصحاب العبيد مع العجم، لأنهم يعدّون العجم روافض، والرافضي يعني الشيعي المخلص، ويعدّون هكذا معاملات فعلاً حراماً، كونهم (العجم) يجلبون العبيد معهم إلى أوطانهم ويشركونهم في مجالس العزاء (تقاليد الشيعة). يبدو من المستحيل بيع العبيد للعجم، إلا أن يبتاعهم العرب باسمهم ثم ينقلوهم إلى الأعجمي".
وشرح كَيْكَاوُس ميرزا، عن المسجد الحرام ومنع دخول الإيرانيين إلى بيت الله مساءً: "يفتحون باب البيت (الكعبة) ليلاً، وعلى كل من يتشرف (للزيارة)، دفع ريال فرنسي. ولا يسمحون بدخول العجم إلا عبر طريقتين، إما دفع الرشاوى، أي زيادةً في التكلفة، أو التحايل على المعنيين من خلال التنكر بزيّهم (العربي)". ثم يصرح بأنه دخل مع مجموعة من مرافقيه من الإناث والذكور الإيرانيين بكلا الحيلتين.
ملابس سكان مكة وخصالهم
بعد أربعين عاماً على رحلة الأمير القاجاري، كتب الرحالة الإيراني محمد رضا طباطبائي، عن مدينة مكة: "مباني مكة كلها من حجر وألواح، ويصل ارتفاعها حتى 6 طوابق. لم يكن هناك ما يكفي من الصيدليات والأطباء في المدينة، إلا في موقع واحد، وهو مخصص للحكومة المحلية. زيّ سكان مكة مكون من قطع قماش خفيفة بيضاء اللون عادةً، ويرتدون عمامةً بيضاء دوماً دون غترة وعقال، ويلبسون عباءةً طويلةً بأكمام ضيقة، وسترةً قصيرةً" (تسمى في الخليج: الصديري).
ثم أكمل: "في المدينة موقعان للاستحمام، واحد فيه مياه حلوة، والآخر مياه مالحة. وكلاهما مياههما غير جيدة. يمتاز سكان مكة على سائر العرب بالخطوط الصغيرة التي نقشت على وجوههم في الطفولة، إذ يسمونها خدشة ويتفاخرون بها".
وصف مستشار إيران أمين الدولة، قبل عام من بداية القرن العشرين، سوق مكة عام 1899، بأنه "ضيق ومظلم وفيه محال صغيرة، لكن يمكن أن تجد فيه كل شيء. ما يبتاعه الحجاج من هدايا تذكارية من مكة، عبارة عن قطع قماش قطنية وسجاد من حرير، وخبز جاف".
كتبت الزائرة الإيرانية سكينة سلطان وقار الدولة، في العام نفسه عن منازل مكة: "تقع بيوت مكة منزلاً فوق منزل، دون ساحة مخصصة لكل واحدة منها. البيت الذي استأجروه لي، فيه 46 درجاً".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون