في مدينة كَلات المحاطة بالجبال في شمال شرق إيران، ذهبنا لزيارة قصر خورشيد (الشمس)، وهو قصر بناه الملك نادِر شاه أفشار في مسقط رأسه، لكن عمره لم يكفِ ليقيم فيه.
حينما كنتُ أشرح لرفاقي عن نادر شاه، ذلك الحاكم العسكري المحنك وشديد القسوة في المنتصف الأول من القرن الثامن عشر الميلادي، انضم إلى مجموعتنا في ساحة القصر الجميل صبابا وصبيان لكي نزود بعضنا بعضاً بما سمعناه في صفوف المدرسة، وبما قيل هنا عنه.
كان نادر أفشار (1688-1747)، من أصول تركمانية، بدأ صِباه راعياً للغنم ثم قاطعاً للطرق حتى جمع أصحابه ليشكّلَ عصابته في مدينة كلات، وكانت بلاد فارْس تعاني آنذاك من حالة الانقسام والارتباك والتشتت جراء الغزو الأفغاني لها والذي بدأ عام 1722م.
انضم نادر إلى صفوف الشاه طَهْماسب الثاني (أحد ملوك الحكم الصفوي) كي يستعيدوا حكم الدولة الصفوية، فشكل كتيبة ثم جيشاً، وأخرج قبائل البَشتون الأفغانية من خُراسان ثم حرّر إيران من قبضتها عام 1729 عبر عدة معارك، فقلده الشاه طهْماسب الصفوي، الذي تنفس الصعداء وتربع على العرش، وساماً ملكياً من أجل بسالته وبطولاته. وخلال هذه الفترة قتل نادر جميع شيوخ قبيلته "الأفشاریین" لکیلا ینافسه أحد في الحكم.
منذ أن كان قائداً عسكرياً إلى أن أصبح حاكماً رسمياً، قضى نادر شاه معظم أوقاته في الحرب والغزو، حتى أنه قاد ما يزيد على عشر معارك شرقاً وغرباً، داخلية وخارجية، مع الهند وروسيا والعثمانيين
لم تعرف طموح نادر الرحمة، كما أن ذكاءه العسكري كان منقطع النظير، علاوة على الوحشية والقسوة اللتين كانتا تغطيان هذه الطموح، فحفل عهدُه بصنوف سفك الدماء والخيانات، متنقلاً في حياته من طفل يافع راعٍ إلى محارب حرّر البلاد.
استمر نادر بغزواته في الشرق، وعندما عاد إلى أصفهان عاصمة الدولة، علم أن الشاه انهزم من العثمانيين في حملة القوقاز وسلّم المنطقة للأعداء، فاستطاع أن يستثمر شهرته وقوته في خلع طهماسب الثاني عام 1731، ثم نفاه وولى طفله عباسَ الثالث الحكمَ. كان عُمرُ عباس ثمانية أشهر فأعلن وصايته عليه، ليصير هو الحاكم الفعلي.
نهاية الصفويين وبداية الأفشاريين
أكمل نادر طريقه في استعادة الأراضي التي كانت تستولي عليها إيران في عهد الصفويين من قبضة العثمانيين والروس، ثم دعى الأعيان والقادة المحليين من أنحاء البلاد في منطقة مُغان الواقعة اليوم في جمهورية أذربيجان، ليتم خلع الطفل عباس الثالث الصفوي، ويعين نفسه شاهاً (ملكاً) على بلاد فَارْس عام 1736.
بذلك انتهت سلسلة الصفوية بعد قرنين ونصف، وبدأ حكم الأفْشارية، وحکم مؤسسها نادر شاه البلادَ لقرابة 12 عاماً. منذ أن كان قائداً عسكرياً إلى أن أصبح حاكماً رسمياً، قضى نادر شاه معظم أوقاته في الحرب والغزو حتى أنه قاد ما يزيد على عشر معارك شرقاً وغرباً، داخلية وخارجية، مع كلٍّ من الهند وروسيا والعثمانيين.
نتوقف هنا في قصر خورشيد لنتحدث مع سكان مسقط رأسه في مدينة كَلات حول أبرز محطات نادر بعد أن أصبح حاكماً رسمياً للبلاد.
جمع نادر الأموال اللازمة لمعركته الجديدة بالقوة، ثم اتجه نحو الهند عام 1738، بعد أن استولى على أفغانستان، وهزم جيش محمد شاه التيموري وغزا العاصمة الهندية دلهي.
نهب الهند لدعم غزواته
تقول المصادر التاريخية إن نادر شاه نفذ مذبحة قتل فيها 30 ألف هندي، وبعد أن أقام لفترة شهرين في الهند، أعاد المُلك إلى المَلك الهندي، لكنه نهب كل ثروات العرش التي تُقدَّر وقتذاك بـ875 مليون جنيه إسترليني، وعاد بها إلى وطنه.
كان الهدف من السطوة على الهند تأمينَ أموال طائلة لتجهيز معسكره واستمرار غزواته في الجهة الغربية من بلاد فارس، فقبل الاستيلاء على ممالك الآخرين كان قد نهب ثروات بلاده.
يتطرق الباحث الإيراني حسن نراقي في كتاب "ملخّص تاريخ إيران" إلى الثروة الطائلة التي جاء بها نادر إلى البلاد ويذكر: "لو أنفق هذه المبالغ على بناء البلد وتنميته، لكان محل تقدير وثناء، ولكن هذا العبقري العسكري كان قد خُلق للقتل والنهب والدمار، وليس للبناء والإعمار... ليس لدينا خزان مياه أو جامع أو مدرسة أو سوق قد بني في عهده في البلاد. وما زالت الهند تصوّر نادر شاه في مسرحياتها وأفلامها كما نصوّر نحن جنكيز خان (المغولي)".
وحول نهب بلاده بغية أهدافه العسكرية، شرح المؤرخ البريطاني مايكل إكسورثي (Michael Axworthy) في كتاب "إيران في العهد النادري" قائلاً: "حينما ضاعف نادر الضرائب، ساد الحزن واليأس في أصفهان، جراء موجة الإعدامات والقمع بحق من لم يدفعها، كما تم مصادرة أموال الناس، كان رجال نادر يجمعون الأموال والإمدادات الغذائية والحيوانات وباقي الحاجيات لمعركة قندهار. ونتيجة لذلك فقد شهدت المدن ركوداً في النشاط التجاري، كما أفلست النقابات في مدينة بندر عباس، وهذا ما ترك أثراً سلبياً على معيشة الناس واقتصاد البلاد".
منادي الوحدة بين المسلمين
كانت عادة الخطباء في إيران الصفوية أن يسبوا الخلفاء على المنابر حتى صار الأمر لقلقة ألسنة السكّان، كما أن أحد أسباب الغزو الأفغاني لإيران، والذي انتهى بسقوط الصفوية، كان الظلم الذي تعرضوا له الأفغانيون السُنّة من قبل الحكام الصفويين، فقيل إن نادر شاه اشترط في المجلس الأعلى حين تنصيبه شاهاً، أن يمنع سبّ الخلفاء من قبل رجال الدين.
ونُقل عنه قوله في كتاب "جهانكُشاي نادري" من تأليف ميرزا مهدي خان أستَرآبادي، المؤرخ الرسمي في بلاط نادر شاه: "منذ أن تم ترويج المذهب الشيعي في البلاد سادها الفساد والفوضى وذهب الأمن والطمأنينة؛ لذلك من الجيد أن نصبح كلنا سنة، ونعترف برئاسة الإمام جعفر الصادق".
نادر أفْشار (1688-1747)، من أصول تركمانية وكان راعياً للغنم ثم قاطعاً للطرق، حتى جمع أصحابه ليشكّلَ عصابته في مدينة كلات.
كان نادر شاه قد بدأ بالتوسع لبناء إمبراطورية واسعة، وكان العراق ضمن ما أراد أن يضمه إلى ملكه، لقربه من العثمانيين، فشن حملاته على العراق عام 1733 و1734، وأفضت هذه الحملات إلى اتفاق سياسي على ترسيم الحدود والسماح للإيرانيين بزيارة المزارات الشيعية وإطلاق سراح أسرى الطرفين.
ثم غزا العراق مجدداً عام 1743 حين حاصر الموصل، وحاول بلا جدوى اقتحامَها، وفشل عسكرياً في ضم العراق، فعرض على والي بغداد الصلحَ، وذهب لزيارة النجف واقترح عقد اجتماع للتقارب بين السنّة والشيعة.
حضر الشيخ عبد الله السويدي ممثلاً عن السنة من قبل والي بغداد والتقى في مرقد علي بن أبي طالب برجل الدين الشيعي الإيراني المُلّا باشي، وحضر اللقاء والمناظرات عشراتٌ من علماء السنة والشيعة من إيران وأفغانستان والعرا، وكان ذلك في 11 کانون الأول/ديسمبر 1743.
دارت العديد من المناقشات بين الطرفين، وبسبب إرادة سياسية من حاكم جبار وافق الطرفان على النقاط التالية:
أ. الإذعان بالمذهب الجعفري وجعله خامس المذاهب.
ب. يمكن للحجاج الشيعة أن يصلوا بإمامهم في الكعبة.
ت. يمكن لإيران تعيين أميرٍ للحج.
ث. فك الأسرى من الجانبين.
ج. يُعيّن وكيلان في الدولتين الإيرانية والعثمانية
كما سجلت في الوثيقة خلاصة عقيدة الشيعة وشهادة أهل السنّة عليها، وخلاصة عقيدة أهل السنّة وشهادة الشيعة عليها. وتضمنت الإقرار بالخلفاء الراشدين الأربعة بتوالي أسمائهم، ومدح مؤتمر النجف الإمام جعفر الصادق وقبوله عند سائر أئمة المذاهب، مع تحريم الاقتتال بين الطرفين.
حلوى وتعانق في معسكر نادر
فرح نادر شاه بمقررات المؤتمر، ووزعت الحلويات، وتعانق ألوف السنّة والشيعة في معسكر هذا الأمير القادر، من إيرانيين وأفغان وأوزبَك وغيرهم، احتفاء بوحدة مفترضة للمسلمين بعد التوقيع على النقاط السابقة.
لم تدم نتائج المؤتمر طويلاً، فقد رفضت الدولة العثمانية التعامل مع إيران، وحين أُرسِل أمير إيراني للحج قُبض عليه وقُتل. لا يعرف أحد مذهب نادر شاه أفشار بالتحديد، فهناك من قال إنه كان شيعياً والآخر أكد أنه سنّي المذهب، كما قال البعض إنه لم يهتم بالدين بقدر ما كان يهتم بالغزو والمعارك، ولكن نقل عنه قوله: "قبلوا بكثير من سفك الدماء، ولم يقبلوا بذلك التكليف. كان هدفنا مصلحة أمة محمد".
كانت أهداف نادر الأساسية، توحيدَ جبهته الداخلية بعد ما عاناه من شقاقات وصلت حد الصدام داخل معسكره، والذهاب أبعد من الدور الذي لعبته الأسرة الصفوية في دعمها المذهبَ الشيعي لئلا يعودوا للحكم، وتهدئة جبهة القتال مع العثمانيين، ولربما التنافس مع السلطان العثماني على سيادة العالم الإسلامي.
استياء الناس ومنائر من جماجم
لم يكن لنادر شاه عاصمةٌ وديوان، بل كان حكمه متنقلاً، فكان قائداً عسكرياً وليس حاكماً سياسياً. وسجل التاريخ عليه ورجالِه أعمالهم الشنيعة في القتل والدمار والاعتداء الجنسي، فعندما قطن مدينة الحُويزة المحاذية للحدود العراقية لمدة 9 أيام عند عودته من إحدى غزواته في العراق، أمر بنهب المدينة وأحلّ نساءها وبناتها على جنوده.
وعند وصلوه مدينة تُستَر (شوشتر)، فعل كذلك ليومين، "خلال ساعة ثارت عاصفة البلاء التي لا يبلغ حدَّها طوفان نوح. تم بيع وشراء الفتيات في السوق كأسرى اليهود والنصارى. الكارثة هذه طغت على صدى ما فعله جنكيز (بالإيرانيين)"؛ هكذا جاء في كتاب المؤرخ عبد الله الجزائري، "تذكرة شوشتر".
وكتب ميرزا مهدي أستَرآبادي أنه إن لم يستطع السكان دفع الضرائب، فيأخذ عمال نادر شاه النساءَ والصبايا بدلاً من الضرائب. كما فرّ البعض إلى الجبال والصحاري وإلى بغداد والبصرة والهند خوفاً من عمّال الضرائب الذين لا يرحمون صغيراً ولا كبيراً.
كانت إحدى طرق نادر شاه لزرع الرعب والخوف في قلوب من يغزوهم، داخل إيران كانوا أم خارجه، هو تشييد "كلّه منار" أي منارة من جماجم القتلى (كَلّه تعني الرأس في الفارسية).
ثار الناس في كل مكان ضده ولم يرضوا سوى بإسقاطه من الحكم، فكان الفقر والموت قد ملآ المدن، وأصبحت الجثث المتروكة في الحارات منظراً طبيعياً، ومن كان حياً كان إما أعمى أو مبتور اليد أو القدم. أما النساء فلم يسلمن من اعتداءات جيشه.
زاد الشعور القومي لدى الكثير من النخب والأدباء بعد الثورة الدستورية، فأطلقوا في خطاباتهم القومية على نهب وغزو نادر شاه "فتوحات نادر"، وتم تعظيمها كإنجازات وطنية مهمة، واعتبروه موّحد البلاد وحارس بلاد فارس و"نابليون إيران"
وصل استياء وذعر الإيرانيين من ظلم نادر شاه إلى داره، فقد انتقده ولي العهد رضا قُلي ميرزا: "والدي يريد أن يفتح حتى نهاية العالم، ولهذا السبب يقمعنا ويقمع إيران كلها. أنه يتجنب الحرب في أي مكان، ولا يتوقف عن القتال. ليس لي ولا لأي شخص ولا للبلاد ولا الدول الجوار أي حيلة للتخلص منه سوى أن يتغلب عليه الموت". فأعمى نادرُ ابنَه ظاناً أنه يريد قتله.
استمر نادر بطلبه الكثير من الأموال كي يستمر بالغزو، غير أن التشتت بدأ يدبّ في صفوف قادته، فالتحق بعضهم بالثوار حتى قُتل نادر شاه على يد جنوده عام 1747، ودفن في مدينة مشهد بإقليم خراسان، التي تبعد عن مسقط رأسه 150 كلم.
الشوفينيين وصناعة البطل القومي
بعد الثورة الدستورية التي انتصرت عام 1911 في إيران، والتي كانت تطالب بتحديد صلاحيات الملك ومشاركة الشعب في الحكم من خلال تأسيس البرلمان، زاد الشعور القومي لدى الكثير من النخب والأدباء وقتذاك، فأطلقوا في خطاباتهم القومية على نهب وغزو نادر شاه "فتوحات نادر"، وتم تعظيمها كإنجازات وطنية مهمة، واعتبروه موّحد البلاد وحارس بلاد فارس و"نابليون إيران".
طالب بعض النواب بإنشاء مقبرة تليق به عام 1913، فتم اختصاص 20% من ضرائب مرور البضائع والسيارات والمركبات الحيوانية في مدينة مشهد إلى إعادة إعمار المقبرة، واختصاص مبلغ شهري لصيانتها بعد إتمام عملية البناء.
قام البعض بمخالفة النزعة القومية والتكاليف الباهظة التي تذهب في هذا السبيل في حين أن السكّان يعيشون وضعاً مأساوياً، ولكن تمت المصادقة على المقترح، وعند حلول عهد الشاهَين البلهويَين رضا شاه وابنه محمد رضا، اهتم كلاهما كثيراً بسلفهم قبل 160 عاماً، نتيجة لاحتفائهم بالنزعة القومية والترويج لها.
ومن جديد تم تشييد مقبرة تضم متحفاً ونصباً تذكارياً كبيراً لنادر شاه عام 1954، وقام العنصريون بتطهير صورة نادر وصُنع بطل وطني منه، ويستمر هذا التكريم إلى اليوم من قبل بعض المتطرفين في النزعة القومية في إيران.
عند نهاية زيارتنا إلى قصر خورشيد، أكدنا معاً ضرورة عدم تقديس الشخصيات مهما تمّ ويتم ذلك في الكتب أو من قبل الآخرين. ثم سألني أبناء جلدة نادر شاه ما إذا كنت من السكان المحليين مثلهم، فأجبتهم أنني من الأهواز القريبة من مذبحتي الحويزة وتستَر في القرن الثامن عشر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 21 ساعةمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع