شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
تاريخ الكاريكاتير والسياسة السورية في عقود خلت

تاريخ الكاريكاتير والسياسة السورية في عقود خلت

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!
Read in English:

The history of caricatures and Syrian politics in decades past

في صيف العام 1946 وصل إلى دمشق الرسام الإيطالي ماريو موريلي قادماً من مصر. قيل له إن سوريا قد نالت استقلالها عن الانتداب الفرنسي قبل أشهر وإنه سيجد فيها فرص عمل نظراً لتعدد صحفها، بين صباحية ومسائية، ومجلاتها الأسبوعية والشهرية.

التقى موريلي بحبيب كحّالة، صاحب مجلّة "المضحك المبكي" الرائدة في رسم الكاريكاتير، وقال له إنه يجيد رسم ميكي ماوس الشهيرة التي ظهرت في أعمال والت ديزني العالمية منذ العام 1928. ولكن كحّالة اعتذر له وشرح أن مجلته مفرطة في محليّتها، تُجيد رسم الساسة السوريين فقط، وليس فيها مساحة لأي رسومات عالمية، وقال إنها موجهة للكبار فقط وليس للأطفال.

حبيب كحّالة صاحب مجلّة "المضحك المبكي"

كانت مجلّة "المضحك المبكي" أول مطبوعة سورية أفردت مساحات واسعة للكاريكاتير السياسي، وجعلت هذه الرسومات تتصدر أغلفتها منذ صدور عددها الأول سنة 1928. والفضل في ذلك يعود إلى مؤسسها حبيب كحّالة، خريج جامعة بيروت الأمريكية، المتنور والمطلع على ثقافات الشعوب وكبرى الصحف العالمية، ومنها المصرية التي أطلقت هذا الفن الساخر في الوطن العربي منذ مطلع القرن العشرين. أطلق كحالة صحيفته الأولى سنة 1918 وكانت سياسية يومية ليس فيها أي رسومات.

 الكاريكاتير وحده بقي العلامة الفارقة التي ميزت "المضحك المبكي" عن بقية الصحف السورية، وقد استخدمه حبيب كحالة ببراعة للنيل من الطبقة السياسية الحاكمة في زمن الانتداب الفرنسي

بعدها بسنوات، جاءت "المضحك المبكي" عبر تعاونه مع الرسام السوري المعروف توفيق طارق، الذي كُلّف بتصميم الأغلفة مع الفنان اللبناني خالد درويش الأشقر، الذي كان يوقع رسوماته باسم "جوليان" المستعار.

وللأشقر يعود الفضل في انطلاقة "المضحك المبكي" ونجاح أعدادها الأولى، وقد لفت انتباه الصحافي اللبناني سعيد فريحة، فقام الأخير بتوظيفه في مجلة "الصيّاد" في بيروت سنة 1943، حيث عرفه الناس وحقق شهرة كبيرة.

وقد ابتكر الأشقر وبالتنسيق مع كحالة شخصية "أبو درويش" المستلهمة من "أبو درويش سويد"، وهو من ظرفاء دمشق، وصار رسمه يتصدر أغلفة "المضحك المبكي"، تجسيداً للمواطن السوري.

غلاف لمجلّة "المضحك المبكي"

كتب حبيب كحّالة افتتاحية العدد الأول من "المضحك المبكي"، وقال: "أما خطتنا فإننا نعاهد القارئ أن تكون المجلة صريحة، صادقة، ولو أغضبت البعض. ولا نجعل موقفنا موقف الأحنف الذي كان يسمع مدح الشعراء ليزيد بن معاوية وهو ساكت. فلما سأله معاوية: 'مالك ساكت يا أبا بحر؟'، قال إنني أخاف الله تعالى إذا كذبت، وأخافك إذا صدقت! فنحن سنسعى إلى أن نخاف الله في صراحتنا، وأما عبيد الله، فإذا غضبوا ونحن نقول الحقيقة، فليشربوا البحر".

غلاف لمجلّة "المضحك المبكي"

مقالات المضحك المبكي الداخلية كانت مزيجاً بين اللغة العامية واللغة العربية الفصحى، وهو أمر جريء أثار حفيظة مجمع اللغة العربية حينها. وكانت في المجلّة أبواب متنوعة مثل:

"حديث سياسي حشاش"، الذي كان ينتقل فيه المحرر من موضوع إلى آخر دون أي ترابط، لمساءلة الوزراء وطرح أهم القضايا المعاصرة أمامهم.

"على التلفون"، حيث يتصل المحرر بوزير ويحاوره سريعاً عن موضوع شائك في البلاد.

غلاف لمجلّة "المضحك المبكي"

"إعراب المضحك المبكي"، حيث يقوم المحرر بإعراب بيت من الشعر له ترابط مع حديث سياسي هام.

"محكمة المضحك المبكي"، حيث يتم وضع مسؤول في قفص الاتهام في موضوع معين وتقوم أسرة المجلّة بالحكم عليه بناءً على المعطيات المتوفرة لديها.

"قالوا وقلنا"، وهو باب يُعلّق فيه المحرر على أقوال الناس والمسؤولين.

ولكن الكاريكاتير وحده بقي العلامة الفارقة التي ميزت المضحك المبكي عن بقية الصحف السورية، وقد استخدمه حبيب كحالة ببراعة للنيل من الطبقة السياسية الحاكمة في زمن الانتداب الفرنسي.

المواجهة مع الشيخ تاج

أولى أهداف المجلة كان رئيس الحكومة تاج الدين الحسني أثناء المعركة حول دستور سوريا الجمهوري الأول سنة 1928. صارت "المضحك المبكي" تضع رسم الشيخ تاج على كل غلاف، وكان سهل التناول من حيث الشكل، نظراً لقصر قامته وبدانته واللفة البيضاء التي كان يضعها دوماً فوق رأسه. في إحدى الرسمات أظهرته المجلّة في مواجهة مع النائب الوطني فخري البارودي الذي يقول له: "أما حان الوقت لك أن تتنحى؟"، ويجيب الشيخ تاج: "أبداً، لن أرحل إلا بأمر من المندوب السامي الفرنسي".

غلاف لمجلّة "المضحك المبكي"

ردّ الشيخ تاج بتغريم المجلّة وتعطيلها لمدة ثلاثة أشهر. وعند العودة، وضع كحالة غلافاً يظهر المجلة على شكل آدمي خارج من القبر ومن حوله الشيخ تاج ووزراؤه يصرخون: "وليّ على عالعمر... رجعت المضحك المبكي".

وكان التعطيل الثاني عندما رسمت المجلّة الشيخ تاج وهو ينشد النشيد الوطني الفرنسي، فأمر الأخير بإغلاق مجلته ثانية. ويجب القول إن التعطيل الإداري يومها كان بيد الحكومة حصراً وكانت تشهره فوق رأس الصحافة، ولكن توجد مساحة نسبية للحريات تسمح بمثل هذا التهكم دون أن يؤدي إلى سوى التعطيل أو الدعوة القضائية.

المواجهة مع حقي العظم

في سنة 1932، انتخب محمد علي العابد رئيساً للجمهورية وعُيّن حقي العظم رئيساً للحكومة، وكان محسوباً على خصوم الكتلة الوطنية التي كان حبيب كحّالة منتمياً إليها.

غلاف لمجلّة "المضحك المبكي"

استقبلته "المضحك المبكي" بكاريكاتير يظهر كلبان يتشاجران حول بقايا جيفة ويقول الأول: أنا حقي اللحم" فيرد الثاني: "وأنا حقي العظم!" فما كان أمام حقي العظم إلا إغلاق المجلّة، كما فعل الشيخ تاج من قبله.

الحج الطوعي

شارك حبيب كحّالة بتأسيس نقابة محرري الصحف السورية وفي سنة 1936، أصدر مجلّة مصورة باسم "المصوّر"، قبل انتخابه نائباً عن دمشق في البرلمان السوري سنة 1947، أي بعد أشهر من جلاء القوات الفرنسية عن سوريا.

أولى أهداف المجلة كان رئيس الحكومة تاج الدين الحسني أثناء المعركة حول دستور سوريا الجمهوري الأول سنة 1928. أخذت "المضحك المبكي" تضع رسم الشيخ تاج على كل غلاف، وكان سهل التناول من حيث الشكل، نظراً لقصر قامته وبدانته 

وفي سنة 1956 قرر إيقاف "المضحك المبكي" طوعياً، في ظلّ تنامي نفوذ المباحث ومدير المكتب الثاني عبد الحميد السراج، ولم يعاود النشر إلّا في مطلع عهد الانفصال، أي بعد اعتقال السراج والقضاء على جمهورية الوحدة مع مصر. وهنا شرح كحالة موقفه للقراء وكتب في افتتاحيته: "تعود هذه المجلّة إلى الصدور بعد غياب طويل، لا أتهم به أحداً ولا أرجعه لأحد، وإنما قصدته بملء إرادتي ومحض مشيئتي، لأني لم أستطع أن أكتب ما أريد، ولا أقبل أن أحمَل على كتابة ما لا أريد، فكسرت القلم واعتزلت، لأن العبد الحقيقي، كما يقول أوسكار وايلد، هو الذي لا يستطيع أن يعبر عن رأيه بحرية".

غلاف لمجلّة "المضحك المبكي"

وفي عهد الانفصال، دافع كحالة عن حرية الصحافة وعارض منع الصحف الموالية للرئيس جمال عبد الناصر من الصدور، وفي مقدمتها جريدة البعث.

وقد حفظ البعثيون له الودّ وقدروا هذا الموقف الشجاع، وبعد وصولهم إلى الحكم سنة 1963، استثنيت المضحك المبكي من قرار المنع الذي صدر عن مجلس قيادة الثورة وطال المطبوعات السورية كافة.

ظلّت "المضحك المبكي" تصدر في سنوات البعث الأولى، ولم تتوقف إلا بعد وفاة صاحبها بأمر شفهي من وزير الإعلام جميل شيّا يوم 29 أيار/مايو 1966. وكانت في هذه المرحلة تنشر الصور الكاريكاتيرية للكثير من الساسة العرب، دون التعرض للضباط العسكريين السوريين والاكتفاء فقط بالضباط العرب، مثل الرئيس العراقي عبد السلام عارف، واليمني عبد الله السلال، والمصري جمال عبد الناصر.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard
Popup Image