تقوم التجربة الفنية للتشكيلية السورية دارين أحمد، على التنوع وعدم الالتصاق بصور محددة للإنسان أو الطبيعة، وعدم الركون إلى توجه خالص في الرسم، حتى على مستوى فضاءات اللوحة وخطوطها اللونية، ما يعطي ثراءً فنياً ودلالياً لأعمالها. ويلاحَظ تطور أعمالها في السنوات الأخيرة بشكل كبير وانفتاح رؤيتها الفنية على آفاق أكثر وعياً وتعبيراً عن الإنسان، لا سيما منذ أن استقرت في العاصمة الألمانية برلين، قبل عشر سنوات، ما أعطاها الفرصة لإعادة النظر في الطبيعة الإنسانية من حيث أن للإنسان وجهاً معبّراً، ومن حيث أنه جسد يشكل كتلةً ما في الفراغ، ومن حيث حجب الرأس باعتباره مركزاً للوعي... إلخ.
كما شمل التنوع الاهتمام بالطفولة، والدمى، والنباتات، وفي كل الأحوال اتسمت أعمالها الفنية بالاتكاء على الرمز بشكل خاص، وهو ما أوضحته لرصيف22، قائلةً: "إن فكرة الاتّكاء على الرمز تتّسق مع رؤيتي للعالم ولحضور الوعي الإنساني فيه؛ فنحن نعيش في الرمز ولا يمكن للمرء الوصول إلى الفهم، وإلى جوهر الوجود، إلا عبر الرمز".
يبدو في الكثير من لوحات دارين أحمد، أنها تولي الجسد العاري أهميةً خاصةً، فالجسد يشكل في أعمالها الفنية تجلياً خاصاً، إذ يبدو كما هو... عارياً، وصادقاً، خاصةً جسد المرأة الذي تجعله معبّراً عما يمرّ به من قهر وألم
وتضيف: "لا يمكن للمرء العيش في هذا العالم إلا من خلال الرمز: اللغة رمز، الصورة رمز. لا أقصد هنا الرمزية التي يمكن وصفها بالمكررة من قبيل المرأة رمز للوطن، أو الخوذة رمز للعسكر؛ بل أقصد أنه من غير الممكن عزل فكرة محددة عن تيار من الأفكار المرتبطة بها، وتوقُّع أن تتمكن اللوحة من إعطاء هذه الفكرة حقها من الوجود. لا بد من ربط فكرة اللوحة بالواقع الذي تعبِّر عنه، وهذا يتحقق من خلال الرمز وترك أبواب التأويل مفتوحةً على الاتجاه الذي يقرره الفنان، إذ لا بد أن تكون للفنان رؤيته التي يوجه إليها متلقّي اللوحة، حتى لو كانت هذه الرؤية هي العبث المحض".
البُعد الفلسفي للّوحة الفنية
ثمة أبعاد فلسفية تحملها الكثير من اللوحات، مثل لوحات الطفولة، والسيلفي، ولوحة ثمرة التين التي تبدو مثل كائن يفتح فمه، فهذه اللوحة فيها عمق فني وتأثير خاص على المتلقي، وتوضح أنها تعتمد التعقيد مذهباً فكرياً من أساسياته الرمزية، والفلسفة، التي هي علم الأسئلة الوجودية، الحاضرة في كل ما تقوم به. "ثمرة التين في لوحاتي مثال جيد لتوضيح ذلك. ثمرة التين يمكن أن تكون ثمرة تين "فقط"، وهذا ما يراه الكثيرون. لكن، إذا تأملتها دون أفكار مسبَّقة عنها، ستجد أنها، شكلياً وتكوينياً، يمكن أن تأخذ منحى شهوانياً إذا كانت الثمرة ناضجةً للتو، وتسيل قرب عينها عصارةٌ ذهبيةٌ لامعة... كما أنها قد تأخذ منحى بؤس الجوع إذا كانت الثمرة مشقوقةً وجافةً ولها هيئة الفم المفتوح"، تقول دارين.
وتضيف: "المنحى الثاني، هو الذي اعتمدته في استخدام ثمرة التين في لوحاتي. ثمرة التين هي أيضاً ثمرة مقدسة، أي أنها ترتبط بالحضارة البشرية اللغوية التي يُعدّ الدين أحد أعمدتها، كما أنها ثمرة برية شهية ومُشبِعة وذات خصائص تثير الدهشة، مثل أننا نأكل في الواقع عدداً كبيراً من الأزهار في كل ثمرة تين، كما أن الثمرة تتضمن أزهاراً لتفقيس الحشرات التي تقوم بتلقيح الأزهار المؤنثة، والفتحة الصغيرة في الثمرة تُسمّى "العين"؛ كل هذه التفاصيل تفيد رؤيتي العامة التي تقول بأهمية وضرورة التركيز على الحياة البرية وإعادة إحيائها، لتقليص حجم غول الحياة الحديثة الحالية، إذا أردنا الخروج من الطريق المسدودة الذي نتحرك فيه جميعاً، أي جميع دول العالم. وإذا ضيّقنا المنظور قليلاً، ستكون التينة في اللوحات صورةً للإنسان الجائع، المنبوذ، وزوّادة الحروب ونتاجها.
إشكالية الجسد العاري
يبدو في الكثير من لوحات دارين أحمد، أنها تولي الجسد العاري أهميةً خاصةً، فالجسد يشكل في أعمالها الفنية تجلياً خاصاً، إذ يبدو كما هو... عارياً، وصادقاً، خاصةً جسد المرأة الذي تجعله معبّراً عما يمرّ به من قهر وألم، وقد أرادت في هذه اللوحات أن ترسم، بحسب تعبيرها، اللحم البشري، لذلك احتجبَ الرأسُ في هذه اللوحات وغاب باعتباره مركز الوعي، أو دعامة المركزية البشرية، وبقي الجسد، اللحم.
تثير فكرة "اللحم البشري"، كما تقول، شعوراً منفّراً، فاللحم مادة الكائنات الحية الأخرى التي نأكلها مثلاً، ومادة الجسد المهان، غالباً الأنثوي، في الثقافة الشعبية، إذ توصف المرأة التي تُظهر جسدها "باللحم الرخيص"؛ لكن إجمالاً يتم تجاهل أن "اللحم" مادة الرجل المقدس أو الإنسان الحر، أو المرأة المبجلة، أو الأم... إلخ. أردت في لوحات العري أن أركز على هذا الجانب بشكل أساسي، خاصةً إذا أخذنا بعين الاعتبار إشكالية العري في الفن التشكيلي، خاصةً في البلدان العربية.
التركيز على البعد الإنساني شمل أيضاً صورة الوجه فاغر الفم، وحملت بعض اللوحات تعبيراً فنياً عن الأبعاد النفسية، والقهر الإنساني. وما يظنه المتلقى قناعاً تراه دارين "احتجاباً للرأس في لوحات العري، ومحواً له كمصدر للمركزية البشرية. أما في لوحات أخرى فقد رسمت على القماش-الحجاب التينة الجائعة ذاتها. وهذه اللوحة تحمل تأويلاً يتعلق بتسيُّد الجوع وتحكمه بمصائر البشر كالدمى".
الوجه الذي احتجب في سلسلة لوحات العاري ظهر في سلسلة لوحات السيلفي بأكثر الأشكال مباشرةً، إذ يحتل كامل مساحة اللوحة وكامل الفكرة، فلا فكرة ظاهرياً في لوحات السيلفي سوى الوجه ذي العينين الثاقبيتن المحدقتين في المشاهد.
أما نظرة العين التي تبدو بمثابة فكرة "الكلوز أب"، في اللوحات التي ترتكز على الوجه بشكل خاص، فتؤكد دارين: "نعم، العين هي مركز الوجه واللوحات التي تظهر فيها. اللوحة تنتهي بالنسبة لي عندما ينظر إليّ الوجه الموجود فيها بدلاً من أن أنظر إليه أنا. لطالما كانت العيون بالنسبة لي بمثابة النبع... نبع اللغة، والصمت، الفهم، والألم والسعادة...".
تنوع الثيمات الفنية
يلاحَظ في أعمال دارين أحمد وجود قدر كبير من التنوّع الفني، مثل الاهتمام برسم الطبيعة، أو البيت، أو المرأة، أو الوجه الإنساني... إلخ، التي تُعدّ مفردات محددةً وثيمات فنيةً تشكل ملامح التجربة الفنية، وتعزو ذلك بحسب رأيها إلى أن "كل إنسان بنَّاءٌ على طريقته، أي أن كل إنسان يبني بناءه الفكري -الروحي- الداخلي المتناسب مع إحداثياته الوجودية، أي مع مكانه وزمانه وشرطه الوجودي، وقد يكون هذا البناء حجرةً أو بيتاً أو مدينةً... إلخ. بالنسبة لي، فإن مشروعي الفني مكتمل في ذهني، بمعنى أن العلاقات بين حجراته واضحة بشكل جيد، ولكن الشرط الوجودي يقتضي أن تظهر للمتلقي حجرة هنا وحجرة هناك، وليس في الإمكان إلا الاستمرار في بناء هذه الحجرات حتى الوقت الذي يصبح فيه هذا المشروع أكثر وضوحاً للعيان".
تضيف دارين: "الطبيعة البرية بشكل أساسي، وخصوصاً الجبال والصخور، والجسد البشري سواء جسد الرجل أو المرأة، والوجه مع التركيز على العينين فيه؛ هي كيانات، حجرات، مترابطة في مشروعي الفني والفكري والشعري. يمكن ايجاز المصادر الأساسية لهذا المشروع في ثلاثة خطوط عريضة: علم النفس اليونغي، النسوية الإيكولوجية، وفلسفة كريشنامورتي، خاصةً مفهوم الرصد والتحرر من المعرفة المسبقة. هذه الخطوط الأساسية هي التي ساهمت في بناء مشروعي، تضاف إليها العديد من المصادر المعرفية والأدبية والفلسفية الأخرى، فأنا ولوقتٍ طويل كنت قارئةً نهمةً وبشكل مستمر إلى أن توقفت عن ذلك منذ سنوات عدة".
تتابع: "كل ما سبق يدخل في تكوين تجربتي ويتفاعل مع الواقع الذي أعيش فيه. إن ما أرمي إليه هو أن يتمكن هذا المشروع من خلق تفاعل متبادل مع المشاهد، أي أني لا أرغب في فرض رؤية أو قناعات على أحد، بل أودّ خلق مساحة من التفاعل بين اللوحات والمشاهد، بشكل أساسي عبر الأسئلة المتوالدة في هذه المساحة".
مراحل التجربة الفنية... مراحل الاكتشاف
ذلك التنوّع في تجربة دارين الفنية يُقسّم داخلياً إلى مراحل، فهي تتنقل بتجربتها بين عوالم مختلفة من مرحلة إلى أخرى، ربما سعياً إلى اكتشاف ما، أو من أجل إضافة ما، ولذلك نلحظ اهتماماً بالوجه الإنساني مثلاً خلال مرحلة معينة، بينما في مرحلة أخرى يكون اهتمامها أكثر بالجسد، وفي مرحلة أخرى بالطبيعة ورسم النباتات... وهكذا، فهي لا تتوقف عند شكل واحد أو ثيمة فنية واحدة تتكشف من خلالها تجربتها الفنية.
تتحدث عن ذلك قائلةً: "يعود هذا بشكل أساسي إلى ما تحدثت عنه في إجابة سابقة، إذ إنني أتحرك في بيتي، وبين حجراته، وكل بناء في حجرة منه سيقود إلى تطور في بناء الحجرات الأخرى. لقد رفضت منذ البداية فكرة الأسلوب الموحد الشائعة في الفن التشكيلي، أي رفضت هذا الشكل من البناء العمودي على الفكرة نفسها أو الأسلوب التقني نفسه، وقررت أن أتحرك أفقياً، بمعنى أن ما أرغبُ في رسمه، أو بنائه، في مشروعي الفني سأقوم به الآن، بغض النظر عن الإشكاليات التي سيخلقها هذا التحرك في تلقي اللوحات ومواضيعها".
تضيف: "هذا برأيي سبب من أسباب تجاهل تجربتي نقدياً، إذ ينتظر الناقد مشروعاً مكتملاً، تحت عنوان محدد على سبيل المثال ليتحدث عنه، أو أسلوباً مكرراً لموضوعات معينة في دوائر ضيقة قليلة تسمح ببناء أفكار نقدية مكتملة. أنا كائن حر، ضمن الجبرية الواقعة عليَّ، وأعيش حريتي على قدر ما أستطيع".
هناك الكثير من المبدعين الذين يعبّرون فنياً بأكثر من لون إبداعي، كالفن التشكيلي، والشعر، والرواية، والقصة القصيرة، أما دارين أحمد فهي إلى جانب الفن التشكيلي تكتب الشعر، فأيهما أثّر على الآخر في التعبير عندما يهبط ملاك الإلهام؛ التشكيل أم الشعر؟
إن كان الاهتمام بالطفولة ورسم الدُّمى يأخذان حيزاً ليس صغيراً من تجربتها الفنية، بما يعبّر عن عودة ما إلى المنابع الأولى التي شكلت وعيها كفنانة وشاعرة؛ فإنها تنظر إلى الأمر من زاوية أخرى، وهي أن الدُّمى حقل اشتغال معقّد أيضاً. إنها مخلوقات البشر الخالية من الروح والإرادة. الإنسان دمية أيضاً، وفق منظورات متعددة... الدمى ليست استحضاراً للطفولة بالنسبة لي، بل هي أيضاً طريق لفتح أبواب أسئلة وجودية. هذا لا يلغي كون الدمية الخشبية التي هي عبارة عن قطعتين من الخشب على شكل الصليب مع رأس من القماش هي استحضار من طفولتي، فقد صنعت الكثير منها في تلك الفترة.
الشعر والتشكيل... وملاك الإلهام
هناك الكثير من المبدعين الذين يعبّرون فنياً بأكثر من لون إبداعي، كالفن التشكيلي، والشعر، والرواية، والقصة القصيرة، أما دارين أحمد فهي إلى جانب الفن التشكيلي تكتب الشعر، فأيهما أثّر على الآخر في التعبير عندما يهبط ملاك الإلهام؛ التشكيل أم الشعر؟
تقول: "إن الشعر ثقيل مقارنةً بالرسم. الشعر هو الخلاصة المكثفة للوعي، وليس في إمكاني حمله لوقت طويل. لقد أتيت إلى الرسم من خلال الشعر، فالصور الشعرية هي صور فنية أيضاً، فهو يجسد الفكرة صورياً بطريقة ما، وقد احتاج الأمر إلى سنوات عدة، وسيتطلب المزيد دائماً، لنقل بعض تلك الصور الشعرية إلى حقل الصور الفنية. الرسم لم يؤثر على الشعر عندي، ربما لأني توقفت عن كتابته منذ أن بدأت بالرسم، وعندما سأعود إلى الكتابة الشعرية يمكنني معرفة الإجابة، أما الآن فليست لدي فكرة".
تختم دارين أحمد حديثها إلى رصيف22، قائلةً: "للإقامة في أوروبا تأثير سلبي وتأثير إيجابي، والإيجابي الأكثر وضوحاً ويتجلى في توافر المواد اللازمة، فالرسم ليس مثل الكتابة، إذ يتطلب توفر الألوان والفُرَش والأقمشة وكل لوازم بناء اللوحة، وصعوبة توفر هذه المواد وغلاء أثمانها في البلدان العربية، عائقان كبيران أمام تطوير العديد من الفنانين لمهاراتهم ومواهبهم. التأثير السلبي الأساسي برأيي هو في حصر الفنان السوري على سبيل المثال، في خانة اللاجئ الهارب من الحرب، خانة من يستحق الشفقة والتعامل معه على أنه كائن معطوب، دون أن يُسمح له بنقل هذا العطب إلى مستوى المشاركة الندّية مع الفنانين الأوروبيين. في كل الأحوال كل فنان يتأثر بشكل مختلف".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Nahidh Al-Rawi -
منذ 10 ساعاتتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
Tester WhiteBeard -
منذ 12 ساعةkxtyqh
بلال -
منذ 22 ساعةحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...
HA NA -
منذ 5 أياممع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.