شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
الفنانة التشكيلية عبير أحمد لرصيف22... أحبّ الجسد العاري بكلّ حركاته وسكناته

الفنانة التشكيلية عبير أحمد لرصيف22... أحبّ الجسد العاري بكلّ حركاته وسكناته

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الثلاثاء 10 يناير 202303:37 م

استهوتها لوحاتُ الفنان الراحل ممتاز البحرة التي كانت تزيّن صفحات الكتب المدرسية وتثير في روحها أقواسَ قزح البهجة، وقد جعلها شغفُها بالألوان طليعية على مستوى سوريا في الرسم والخط العربي لثلاث سنوات متتالية.

ناصحُها ومرشِدُها الأول كان خالُها صلاح عقول، الأستاذ في كلية الفنون الجميلة بدمشق؛ الكلية التي رفض أهلُها أن تدرسَ فيها فاتّجهت نحو دراسة الاقتصاد، لكنها أكملت حكايتها مع الرسم بإشراف الفنان الفلسطيني الراحل محمد الوهيبي في "مركز أدهم إسماعيل للفنون التشكيلية". الوهيبي الذي جعلها تدرك أنّ للفنِّ أمداء أرحبَ، وخفايا أعمقَ بعيداً عن القوالب المدرسية، وبقيتْ روحُها عاشقةً لرسم الجسد البشري كما لو أنها تتمرّد برسمه على حياةٍ وحرب أورثتنا الفجائعَ وأجساداً معطوبة وأرواحاً ممزقة، كأنها تجدُ في "العري" بكارةَ الصدقِ الأنقى والأسمى.


الفنانة عبير أحمد

يقولُ عنها الفنان كَرَم نظامي لرصيف22: "الفنانة عبير أحمد تشكيليّةٌ نفضتْ عن أجنحتها غبارَ الأزمنة الصدئة، واختطتْ لنفسها فضاءً كي تحلّق به. في البدء ترددت، خطت خطوات واجفة، وكأنها تسير في حقل ألغام وسط مجتمع ذكوري مدجج بأنياب المحرمات الإيروتيكية. ومن هنا كانت المهمة الصعبة في كسر هذا الطوق، لكنها في الآخير حسمتْ أمرها وكسرته، وكان سلاحها الرهيف في إيصال الفكرة الصادمة هو ريشةٌ أنثوية ولونٌ ملتهب، وحضور واثق، نعم فرضت عبير نفسها، وجردت الجسد الأنثوي من محرماته الفجة، وأعلنته على الملأ شهوةً وقوةً وعرياً صارخاً يقرعُ الأجراس لإيقاظ النفوس الميتة. من هنا كان تميز التشكيلية عبير أحمد، وأعتقد بأنه سيكون سرّ نجاحها المطرد".

الفنان كَرَم نظامي

هكذا إذاً صارت الفنانة عبير أحمد، ابنة مدينة طرطوس، تؤالفُ بين قتامة الخطوط واللطخات السوداء كإحالةٍ رمزية إلى عنف المجتمع، وشراسة الحرب، وبين سطوعٍ أنوار اللحظات الجوّانية لشخوصِ لوحاتها وهي في ذروة عناق أو في ذكرى نشوة أو في لحظة أملٍ عنيد.

استهوتها لوحاتُ الفنان "ممتاز البحرة" التي كانت تزيّن صفحات الكتب المدرسية وتثير في روحها أقواسَ قزح البهجة. بقيتْ روحُها عاشقةً لرسم الجسد البشري العاري كما لو أنها تتمرّد برسمه على حياةٍ وحرب أورثتنا أجساداً معطوبة وأرواحاً ممزقة... الفنانة التشكيلية عبير أحمد

رصيف22 التقاها وكان هذا الحوار:

جرأتُك في رسم الجسد العاري هي أولُ ما يلفِتُ نظرَ من يتأمل لوحاتك. لماذا "العري" وهو من الـ"تابوهات" التي تُحرّض المتعصبين على "فتاوى" المنع والتحريم وربما القتل؟  

هل تصدق أنني عندما عدت للرسم بعد انقطاع شبه طويل لم أفكر لماذا العري! أنا أعشق الجسد العاري، أحبه جداً حتى لو خانتني نِسَبُ الرسم التشريحي أحياناً. أجد أن للجسد العاري قدرة على التعبير وإيصال المشاعر الحقيقية دون زيف، مثل حالات الفرح، الحزن، الحب، الشهوة، والخذلان. لا يمكن أن تكون الأصدق دون حركات الجسد في أوج عريه الكامل! وربما ما ساعدني في ذلك هو المخزون الفكري للوحات عصر النهضة التي تأثرت بها كثيراً.

لكن بالمختصر لم أفكر بالتابوهات أو المحرمات إنما رسمتُ ما شعرتُ به وأحببته (وبيني وبينك) صِرتُ أخاف حالياً مما آل إليه مجتمعنا. صار مليئاً بـ"القبيسيات" والمواعظ الدينية لدرجة أن حتى الرغبة بإقامة معرض شخصي صارت شبه معدومة!


مِنْ أينَ تستمدين جرأتك وشجاعتك في ذلك؟ هل لأن الحرب كشفت "عرينا" الحقيقي ووجهنا الأبشع، وبالتالي ما عاد هناك ما تخافين من البوح به، أم ماذا؟

أستمد شجاعتي من روحي الحرة المتمردة! نحن نُخلَقُ أحراراً. قد تكون الحرب وما تبعها من "حرية رأي" نوعاً ما على فيسبوك وما أتاحته وسائلُ التواصل الاجتماعي لكل فرد من إمكانية لطرح أفكاره وخيالاته وهواجسه، أحد الأسباب الهامة أيضاً، لكني أرسم العري منذ أن كنت طفلة، فحركات الجسد تأسرني.

هل ترسمين "موديلات" تستفيدين من وجودها في حياتك؟ وما رأيك بعودة "الموديل العاري" إلى كلية الفنون الجميلة (نسمع أنه في زمنٍ ماضٍ كانت كلية الفنون الجميلة بدمشق تحتفي بهذا الجمال العاري). وهل تتوقعين إمكانية عودته أصلاً؟

أغلب الأحيان أستعين بصور أبحث عنها لخدمة موضوعاتي، ثم أكمل من وحي الخيال، خاصة أنه ليس لدينا موديلات للرسم. لذلك أُشكّلُ اللوحة التي أحب وأبحث في الصور عن الحركة التي أرغب برسمها. وبصراحة، لست مع الموديل العاري حالياً، رغم أنني أجده ضرورياً جداً وملهماً للرسم، لأن خطوة كهذه تحتاج إلى عقل متحرر وخلفية ثقافية مختلفة، وإلى نفوس ليس لديها هذا المخزون من المحرّمات والخوف والتخوين، لأنها قد "تُحلل" قتل الموديل نفسه!

أعتقد أن أجواء الزمن الماضي في سوريا كانت تتسم بحرية أكثر، كما أن فضاء التفكير والإبداع كان أكثر انفتاحاً وأقل تعصباً، بل يستوعب ويتقبل التنوع.

إذاً إن وجود "الموديل العاري" الآن صعبٌ جداً، لأننا نحتاج إلى إعادة ثقافة وبرمجة مختلفة للأجيال الصغيرة، وتأهيل جديد لفكرهم بعيداً عن التسلط الديني المتطرف والرقابة على الفكر والعقل والمشاعر وطرق التعبير عنها. 

في لوحاتك تركيز على "مضمون اجتماعي" إن صح الوصف أو على حالات إنسانية أكثر مما هو رسمٌ جماليٌ صِرف، مثل لوحات النساء الحوامل ولحظات العلاقة الحميمة بين الذكر والأنثى. ما الذي تريدين قوله؟

أرسمُ ما أحب وما أشعر به، دائماً أحدّث نفسي وأقول: تفنى الحضارات كلها على مرّ الزمن، وتندثرُ الأمم والإمبراطوريات والممالك، فلا النظريات ولا القوانين ولا الحضارات تبقى على حالها. الكل يتغير، لكن يبقى الحب والجسد والجنس حقيقةً خالدة وراسخة في الوجود الإنساني.

أما عن الحالات الاجتماعية التي أرسمها فهي نوع من إسقاط رمزي لما نمرُّ به، أحب أن أعبر عنها، وأصرّح بما يعتريني من مشاعر وصدمات ومواقف جارحة في هذه المرحلة اللعينة، فلوحة "الحوامل" مثلاً هي كناية عن تلك النسوة اللاتي كنَّ مسؤولات عما جرى بشكل أو بآخر وبنسبة ما، لذلك بالغتُ في حجم بطونهنّ لأعبّر عن هول ما يحملن من كوارث محتملة مقبلة، فالأخ قتل أخاه في بلدي، بل وشرعَنَ قتلَه تحت مسميات وموروثات قَبَليّة وعشائرية وطائفية وسياسية!


وهناك بالمعظم رموز حيوانية أو أشكال حيوانات تحيط بشخوص لوحاتك؛ غربان وذئاب، رأسُ ثور مختبئ في الظلال، إلخ. هل نفهم من ذلك أنه إحالة إلى الصراع بين انفلات الغريزة وبين العقل؟ ولماذا اخترتِ تلك الحيوانات تحديداً؟

الغربان بانتظار الموت لنبش الجثث. ونحن لسنا بعيدين عن الطبيعة البكر، فكل قصصنا ومخزوننا الفكري والبيئي مرتبط بطقوس الحيوانات، ووجود الحيوان في لوحاتي يُمكن أن يُوصلَ رسالة تعطي اللوحة أبعاداً وأفكاراً للتأمل. لدينا مخزون طفولي تَشكّلَ من قصص وأساطير قرأناها ولا تزال تسبح في عقلنا الباطن دون أن نعي أو ننتبه إلى ذلك.

لو شِئتُ أن أحللَ لوحاتِك أكثر لقلتُ إنّ موضوعات لوحاتك تمثل الجانب التأملي العقلي مِنكِ، فيما ألوانُكِ المائلة إلى القتامة ومناخُ اللوحة الكامد تنطق عن مشاعرك وحالاتك الجوّانية العاطفية. هل فكّرتِ في ذلك وأنتِ ترسمين؟ بمعنى هل هو شيءٌ واعٍ ومقصود أم إنها طاقة اللحظة التعبيرية التي تنداح مباشرة على قماش اللوحة؟

عندما أرسم تكون الحالة العاطفية عندي هي الغالبة، وتقودني إلى الفكرة. قد أتأثر بموقف ما، بحركة جسد ما، بقصة جرت معي، ثم وبشكل تلقائي أرسم مشاعري وما يتشابك معها من أفكار، وإن كانت ألوان لوحاتي قاتمة وترابية فهذا يعود إلى حزن دفين في داخلي، بعيدٌ جداً إلى ما قبل الحرب، لكن الحرب أججته أكثر.

الحرب هي من جعلتني أغالي كثيراً وأتحدى أكثر، صِرتُ أطرح أفكاري دون خوف، وأحياناً بفجاجة ومباشرة دون حساب للنتائج... عبير أحمد

فالموت أصبح كما لو أنه أمر اعتيادي بشكل مفزع وصادم، وفقدان "الوطن" بكل معانيه وتجلياته هو أصعب ما يمكن أن يمر به إنسان. في الحقيقة لم أستطع التحرر من الحزن، كما أن الحرب جعلت الناس أكثر تطرفاً في كل شيء، الحرب هي من جعلتني أغالي كثيراً وأتحدى أكثر، صِرتُ أطرح أفكاري دون خوف، وأحياناً بفجاجة ومباشرة دون حساب للنتائج، إذ ماذا بعد كل هذا الموت والخراب المحيط بنا؟ لا شيءَ مهماً! 


هل سنشاهد معرضاً لك في دمشق؟ وهل جرّبتِ أن تعرضي لوحاتك الجريئة في أي مكان من العاصمة؟

سألت كثيراً من أصحاب الصالات، لكن الجميع دون استثناء لا يعرضون لوحات إيروتيكية، يقولون لي ممازحين: "استريها شوي أو غيّري الموضوع، اجعلي العري مموهاً أكثر وغير واضح. ولوحات الأجساد والجنس بلاها"! ويكررون هذه "النصائح" (تضحك) حتى نسيتُ فكرة إقامة معرض مباشر أمام الجمهور، واقتصرت عروضي إما على صفحتي الشخصية على فيسبوك أو على مشاركات خجولة في معارض جماعية بلوحة غير عارية أرسمها لمجرد المشاركة.

يقال إن أصعبَ أمر في حياة الفنان هو التوقف عمّا يبدعه لسبب ما. هل لا يزال لديك ما ترغبين في قوله عبر ألوانك وخطوطك وهواجسك وأحلامك؟

لدي الكثير الكثير، خيالي مليءٌ بالأفكار وحُبِّ التجريب، لكن لا أخفي عليك سراً، أنه ونتيجةً للوضع الراهن والوسط الفني السائد فقدتُ حماسي نوعاً ما، أقول حماسي وليس جرأتي، فالأمور الحياتية الصعبة كالركض خلف المواد الأساسية للعيش والكهرباء والغلاء، هذه كلها سبّبت لي نوعاً من الشلل والخمود. لكن لا تزال لدي بقية شغفٍ أتمنى أن تشحنَ هِمَّتي للخروج من حالة الركود هذه.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image