شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
الرصيف والمساحات العامّة للأقوى... هكذا تصارع الطبقات الحاكمة اللبنانية محكوميها

الرصيف والمساحات العامّة للأقوى... هكذا تصارع الطبقات الحاكمة اللبنانية محكوميها

للإهمال والتخلف والظلم الاجتماعي في لبنان أوجه كثيرة. المعاناة اليومية للسكان لا تبدأ مع مسائل الكهرباء والمياه وغلاء الأسعار والتلوث الهوائي والصوتي، ولا تنتهي مع قضايا الطبابة والاستشفاء والتربية والتعليم والعدالة الاجتماعية. تضاف إليها معاناة السكان في الفضاء العام حيث تطوّر العمران، لا سيما في مرحلة ما بعد الحرب الأهلية (1975-1990)، بطرق عشوائية أدت لا إلى تشويه عمراني غير قابل للمعالجة فقط، بل كذلك إلى افتقار عدد كبير من الشوارع والأحياء إلى المساحات العامة والأرصفة. ناهيك عن وجود تمييز بين أحياء وأخرى لجهة توفير أماكن عامّة ملائمة لحركة المشاة والبيئة هنا، وتغييبها هناك. وهو تمييز ذو بعد طبقي واضح بين أحياء غنية يقطنها رأسماليون وأثرياء، وأحياء مهمَّشة تأوي الطبقات العاملة والفقراء.

غالباً ما يشكو المتخصصون في العمران والتنظيم المديني في لبنان، من كثرة التعديات على المساحات العامة والأرصفة أو من ندرتها، في الأحياء والتجمعات السكنية في المدن وضواحيها. سبق للصحافة أن أولت اهتماماً بمشكلة الأرصفة والتضييق على حركة المشاة أو تعطيلها.

تشخيص المشكلة متعددة الأبعاد بات معروفاً: تحوُّل الأرصفة إلى مواقف للسيارات والدراجات النارية، واستخدامها من قبل بعض المحال التجارية والمطاعم والمقاهي من دون ترك مساحة كافية للمشاة، وعبور الدراجات النارية عليها، ناهيك عن انعدام الأرصفة في عدد كبير من الأحياء أو ضيق عرض بعضها إلى ما دون العرض الملائم للمشاة (عرض بعض الأرصفة يكاد يتراوح بين 20 و40 سنتيمتراً، بينما أدنى عرض ملائم للمشاة يجب ألا يقل عن 80 سنتيمتراً، وبعض الدول تحدده بـ140 أو 150 سنتيمتراً، أو 120 كاستثناء)؛ فضلاً عن عدم مراعاة قسم كبير من الأرصفة للمعايير البيئية وضرورة التشجير، أو تشجيرها بطرق تعيق حركة المشاة.


الرصيف الذي لا يتسع لشخص واحد

المعادون للأماكن العامة والأرصفة، أو أولئك الذين يرتابون منها، يتذرعون عادةً بظواهر عدة ارتبطت بها. ثمة أحكام مسبقة متوارثة عن الأرصفة باعتبارها مكاناً تستخدمه بائعات الهوى مثلاً. ومن يحتقر الطبقات الفقيرة، يسلّط الضوء على إيواء الأرصفة للمتسوّلين بدلاً من التركيز على الأسباب الاجتماعية التي تؤدي إلى إفقار الناس وتشرّدهم، ودفع بعضهم إلى التسوّل.

سياسة متعمّدة

لكن هذه الذرائع تُسْتَخدم لتضليل السكان، لا سيما أبناء الطبقات الشعبية. إذا كان البعض يعتقد أن مردّ هذه المشكلة يعود إلى مجرد غياب السياسات الحكومية والتخطيط والتنظيم المديني، فهو موهوم بل مضَلَّل، لأن هذه المشكلة هي سياسة بحد ذاتها. سياسة متعمّدة لترتيب الحيّز الجغرافي اللبناني بما يحقق مصالح الطبقات المسيطِرة في لبنان. فالجغرافيا تشكل "أداة سلطة"، بحسب تعبير الباحث الجيو-سياسي الفرنسي، إيف لاكوست، الذي يرى أنه تجب "إعادة وضع الجغرافيا (...) في إطار الوظائف التي تمارسها الدولة للتحكم بالناس وتنظيم (الناس) الذين يعيشون على أرضها، إضافةً إلى (الاستعداد لأي) حرب".

لا يقتصر الأمر على تنظيم المكان بما يسهّل التحكم الأمني فيه، بل يتعداه إلى تنظيم المكان على أساس تقسيمه بين تجمعات سكنية تُطَّبق فيها سياسات إفقار أو إهمال ممنهجة، وأخرى تُطبَّق فيها خطط التحديث والتنمية.

بمعنى آخر، يوضح لاكوست أن الجغرافيا تُستَخدم "لتنظيم الأقاليم، ليس فقط تحسباً للمعارك التي قد يتوجب خوضها ضد هذا العدو أو ذاك، بل أيضاً من أجل التحكم بشكل أفضل بالسكان الذين تبسط الدولة سلطتها عليهم". وبالنسبة له، فإن "الجيوبوليتيك" تدرس عمليات التنافس من أجل السلطة والسيطرة بين لاعبين متعددين على إقليم محدد، سواء كان ذا بعد "جغرافي" كبير أم صغير. فهذا الصراع قائم "حتى ضمن نطاق التجمعات السكنية الحضرية"، كالمدن وضواحيها والأحياء الغنية والفقيرة. وهنا لا يقتصر الأمر على تنظيم المكان بما يسهّل التحكم الأمني فيه وضبطه في وجه المجرمين أو إضفاء طابع من المحدودية على الحركات الاحتجاجية، بل يتعداه إلى تنظيم المكان على أساس تقسيمه بين تجمعات سكنية تُطَّبق فيها سياسات إفقار أو إهمال ممنهجة، وأخرى تُطبَّق فيها خطط التحديث والتنمية.

هكذا، تحاول الطبقات الحاكمة في لبنان، في صراعها مع المحكومين، أن تحرمهم من كل حقوقهم إذا أمكن، ثم تحاول منعهم من انتزاع أي حق من حقوقهم، كي لا تنمو الحركة المطلبية والاحتجاجية على قاعدة مبدأ "خذ وطالب". وعلى هذا النحو تدير تلك الطبقات الصراع، مستخدمةً التفاوت بين حيّز جغرافي وآخر من أجل الحفاظ على هيمنتها وتفوقها الاجتماعي من خلال سحق الطبقات الشعبية وحرمانها من أي مكاسب، حتى لو كان هذا المكسب مجرد رصيف للمشاة.

أين وحدة المعايير الحضرية؟

تقصير الدولة اللبنانية في هذا المجال ليس بريئاً إذاً. الطبقات الحاكمة، التي تتكون بشكل خاص من التجار والمصرفيين والمالكين العقاريين والمقاولين الكبار، تتعمد عدم تأمين الحقوق الأساسية والخدمات العامة والحق بالرفاهية والراحة لجميع السكان. هدفها الأوحد يتمثل في الربح بأي ثمن ومن دون أي رادع قانوني وأخلاقي. من هنا عدم تكييف السياسات الحكومية مع البيئة الطبيعية والجغرافية للبنان وفق منظور يضمن الاستفادة من نقاط القوة ويحقق المساواة ومصالح الطبقات الشعبية كافة. وهذا ما تُرجِم، على المستوى المحلي، ليس فقط في التعديات على الأملاك العامة والبحرية، بل أيضاً في غياب وحدة المعايير الحضرية بين جميع الشوارع والأحياء والبلدات والمدن.

الخريطة الجغرافية لبيروت وضواحيها، على سبيل المثال لا الحصر، تظهر مدى تفاوت مستوى الحياة والخدمات والراحة والسلامة العامة بين الأحياء المختلفة. بين أحياء تتسم بالرفاهية وبوجود ضوابط تمنع تعديات السيارات على الأرصفة وعرقلتها حركة المشاة، وأحياء يُخْتَصَر معنى الحياة فيها بأربع كلمات: التعاسة والبؤس والفوضى والخطر. هذا التفاوت هو بين فئات مهيمِنَة على السلطة وتتحكم بالموارد في البلد، وبين فئات مُهَيْمَن عليها ومضطَّهَدَة اجتماعياً.


التنظيم الجيد لم يمرّ من هنا

لم تكتفِ القوى المهيمِنَة بعدم تأمين البنى التحتية الأساسية، كالمياه والكهرباء، أو عدم بناء مراكز ثقافية وصحية مجانية ورياضية واسعة الانتشار، وفق قدرة استيعابية تضمن حق الجميع في الوصول إليها، ولم تكتفِ بعدم تشجير الطرقات أو عدم مراعاة السلامة المرورية على الطرقات من دون استنسابية، بل أمعنت أيضاً في سياسة عدم توفير المساحات العامة من أرصفة وساحات وحدائق في كل مكان، ليستفيد منها السكان وفي مقدمتهم ذوو الاحتياجات الخاصة.

حرب ضد المساحات العامة

صحيح أن هناك بعض التجارب المتواضعة لتوسيع الأرصفة، كما حصل سابقاً في بلدة أنطلياس، وكما يحصل اليوم في بلدة بكفيا في المتن الشمالي، لكن ثمة في المقابل تجارب يراد لها أن تولد ميتةً، على غرار "مشروع إنشاء الساحة العامّة في تقاطع شوارع غورو وباستور وأرمينيا في أحياء الجميزة ومار مخايل"، في العاصمة اللبنانية، والذي أطلقه "مختبر المدن في الجامعة الأمريكية في بيروت" (Beirut Urban Lab).

بدأ تنفيذ الورشة مطلع 2023، لكنها توقفت لاحقاً بعد اعتراض قوى سياسية نافذة، مع أن هذا المشروع يهدف إلى حماية "حركة المشاة" و"تحسين جودة الأرصفة والمساحات العامة"، و"تحقيق توازن أفضل بين الأنشطة الليلية والنهارية والاستخدامات التجارية والسكنية"، وتعزيز الدينامية الهادفة إلى إعادة بناء بيروت بوصفها "مدينةً صديقةً للمشاة"، بحسب ما ورد في عريضة دعم لهذا المشروع، وقّعها "270 متخصصاً في مجالات التخطيط والتصميم المديني وتصميم المناظر الطبيعيّة وهندسة المرور والهندسة المعماريّة".

ثمة تحالف اجتماعي واسع، يضم فئات مختلفةً، يجتمع على قاسم مشترك أساسي ألا وهو: تحويل الموارد العامة إلى غنائم، أي استغلالها هي والأملاك العامة لخدمة المصالح الخاصة وتراكم الثروات

عداء الطبقات الحاكمة في لبنان لفكرة "المدينة الصديقة للمشاة"، هو في وجهه الآخر عداء لفكرة "المدينة الصديقة للبيئة". وهذا ما يفسر أيضاً امتناع السلطة السياسية عن وضع إستراتيجية وطنية لإعادة ترتيب كل المساحات العامة والأرصفة وفق رؤية بيئية تشمل عمليات التشجير وزيادة المساحات النباتية في كل مكان.

في ظل مخاطر التغيرات المناخية في العالم، تُعدّ رؤية كهذه ضروريةً، لأن الأشجار والنباتات في المساحات العامة تساهم، وفق إحدى الدراسات، في مكافحة التلوث والغازات المسببة للاحتباس الحراري والتخفيف من حدة الطقس الحار خلال الصيف، فضلاً عن الحفاظ على التنوع البيولوجي.

"الرصيف للأقوى"

الرصيف في لبنان ليس لكل الناس، كما هو مألوف في العالم، بل هو للأقوى. تعاطي السلطة السياسية والسلطات المحلية مع المساحات العامة والأرصفة في لبنان يتّسم بالتمييز لصالح الأقوى. والأقوى في لبنان هم التجار والمستثمرون الذين تربطهم بالحكام والسياسيين صلات نفعية وزبائنية.

ثمة تحالف اجتماعي واسع، يضم فئات مختلفةً، يجتمع على قاسم مشترك أساسي ألا وهو: تحويل الموارد العامة إلى غنائم، أي استغلالها هي والأملاك العامة لخدمة المصالح الخاصة وتراكم الثروات. إذا كان كبار الرأسماليين يستأثرون بالمغانم الكبرى، فإن صغار التجار والحرفيين والصناعيين وبعض مالكي المقاهي والمطاعم "ينعمون" بالمغانم المفصلة على قياسهم.

هكذا، يستبيح هؤلاء المساحات العامة والأرصفة في شوارع المدن وضواحيها تحت غطاء من النافذين في السلطة، وذلك على حساب المصلحة العامة. بالطبع، من فضائل الأرصفة أنها توفّر فرصاً استثماريةً لبعض المحال التجارية والمطاعم والمقاهي، لكن هذه الاستفادة يجب أن تخضع لآليات وقيود، بحيث لا تحصل على حساب حركة المشاة، أو من دون فرض ضرائب على استخدام المساحات العامة لغايات ربحية خاصة. بالطبع، يمكن لبعض المعترضين أن يحتجوا على فكرة "تسعير الأماكن العامة" تحت ذريعة أن المساحة العامة يجب أن تبقى "مجانيةً لمستخدميها"، وهي ملاحظة تشير إليها إحدى المقالات البحثية. لكن ذريعةً كهذه، لا تصحّ في حالة أولئك الذين يستخدمون الأماكن العامة في تجارتهم واستثماراتهم وتحقيق الأرباح.


الرصيف للأقوى، كما يبدو واضحاً

أهمية "الشوارع المشتركة"

الحرب ضد المساحات العامة تتجسد أيضاً في انعدام التخطيط أو في عدم تنفيذ الخطط الحضرية إنْ وُجِدَت، من أجل إنشاء أو زيادة نسبة ما تُسمّى بـ"الشوارع المشتركة" (Shared Streets) في لبنان. وبحسب الدليل الذي أصدرته الإدارة الفدرالية الأمريكية للطرقات، في تشرين الأول/ أكتوبر 2017 ، فإن "الشوارع المشتركة" هي مساحة تتداخل فيها حركة المشاة مع المركبات الميكانيكية والدراجات الهوائية وغيرها من الآليات، لكن ضمن منظور إنساني-اجتماعي يقوم على خفض سرعات المركبات، وخفض حجم السيارات التي تسلك هذه الشوارع، وإعطاء الأولوية للمشاة وتسهيل حركة ذوي الاحتياجات الخاصة والإعاقات البصرية.

احتقار الطبقات الغنية للطبقات الشعبية والفقيرة يدفعها إلى عدم الاكتراث بكل ما يضمن لها عيشاً هنيئاً، فتحرمها من حق التنزه بأمان، والجلوس تحت شجرة أو قرب حديقة

والأهم من ذلك أن فكرة "الشوارع المشتركة" ترتبط بـ"وظيفة الشارع كمكان للتبادل الاجتماعي والاقتصادي والثقافي"، وفق الدليل الأمريكي. وهي تمثّل ابتكاراً وحلاً لأي مكان لا توجد فيه مساحات كافية لتشييد الأرصفة، فيتحول هذا المكان برمته إلى "شارع مشترك"، ملائم لحركة المشاة وسلامتهم.

فوائد الشوارع المشتركة مضاعفة. فهي تتحول إلى مسرح للأنشطة الترفيهية والثقافية والموسيقية والفنية المختلفة، والمهرجانات والاحتفالات. وهي مجدية للبيئة، لأنها تفسح المجال أمام زيادة التشجير. كما أنها تعزز الازدهار الاقتصادي، لأنها مصممة بشكل من شأنه أن يزيد من جذب الناس إلى هذه الأماكن الملائمة للمشاة، فينعكس ذلك إيجاباً على التجار والنشاط الاقتصادي فيها.

كم تحتاج كل الأحياء السكنية الشعبية في مدن لبنان وضواحيها إلى شوارع مشتركة وأرصفة واسعة! لكن احتقار الطبقات الغنية للطبقات الشعبية والفقيرة يدفعها إلى عدم الاكتراث بكل ما يفيد تلك الأخيرة ويضمن لها عيشاً هنيئاً، فتحرمها من حق التنزه بأمان، ومن حق الجلوس تحت شجرة أو قرب حديقة أزهار وورود ونباتات. والأهم من ذلك، لا توفر لها مساحات عامةً لتفوّت عليها فرص اللقاء والتبادل والحوار، أي التواصل الاجتماعي، لأن من شأن ذلك أن يمهد ربما لحركات احتجاجية ولإدراك الطبقات الشعبية لنفسها بوصفها فاعلاً قوياً في الصراع الاجتماعي.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

ما زلنا في عين العاصفة، والمعركة في أوجها

كيف تقاس العدالة في المجتمعات؟ أبقدرة الأفراد على التعبير عن أنفسهم/ نّ، وعيش حياتهم/ نّ بحريّةٍ مطلقة، والتماس السلامة والأمن من طيف الأذى والعقاب المجحف؟

للأسف، أوضاع حقوق الإنسان اليوم لا تزال متردّيةً في منطقتنا، إذ تُكرّس على مزاج من يعتلي سدّة الحكم. إلّا أنّ الأمر متروك لنا لإحداث فارق، ومراكمة وعينا لحقوقنا.

Website by WhiteBeard