لا محلّ للالتباس في ظلّ الهجمة الكبيرة التي شنّها العنصريون في لبنان على اللاجئين السوريين. فالكلمة المناسبة لوصف موجة الحقد والكراهية هي الفاشية. وهذه الحالة ليست محصورةً في المكوّن التمييزي والعنصري، بل تضمّ أيضاً بيئةً متكاملةً نرى شروطها في لبنان: أزمة اقتصادية وطبقة محصورة من الأثرياء النافذين تتهرّب من كلفة الانهيار، بالإضافة إلى عقود من العنف السياسي دفاعاً عن نظامَين: النظام السوري المسؤول عن تهجير الملايين من السوريين وقتلهم، والنظام اللبناني المسؤول عن نموذج اقتصادي قائم على تهجير الشباب وخلق الأزمات البنيوية المستمرة.
في ظل هذه الأزمات، أصبحت مروحة تأثير خطاب الشيطنة والعنف واسعةً، تضم عدداً كبيراً من اللبنانيين في الخارج والداخل من الذين عبّروا عن استيائهم من أداء النظام، مطالبين بالحلول "الفورية". لكن قبل طرح المعالجة، علينا الإجابة عن السؤال التالي: كيف نشخّص دور النظام في تعزيز الفاشية كبديل من الممارسة السياسية الواقعية؟
أصبحت مروحة تأثير خطاب الشيطنة والعنف واسعةً، تضم عدداً كبيراً من اللبنانيين في الخارج والداخل
في هذا السياق، يواجه لبنان أيضاً صراعاً مفتوحاً حول انتخاب رئيس للجمهورية. فالقوى التي تخطط لإيصال حليف حزب الله والنظام السوري سليمان فرنجية إلى الرئاسة، تستخدم علاقته ببشار الأسد وغضب الشارع كي تُقنع المشاهدين بأنه يملكُ الحل السحري لأزمة اللجوء. من جهةٍ أخرى، تستمر الملاحقات القضائية الأوروبية التي تدور حول الشبهات المتعلقة بثروة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، واحتمال ارتكابه جرائم ماليةً. أصحاب المصالح المالية والاقتصادية التي تموّل حملات التحريض وتدعمها، شعرت بخطرِ المحاكم الفرنسية، وتالياً بدأت بالعثور على كبش فداء.
كان الردّ على هذه الحملات في مكانٍ ما خجولاً، لأنه في معظم الأوقات يبدأ بـ"الاعتراف بالأزمة"، أي بأزمة تواجد اللاجئين والعمّال السوريين في لبنان و"المخاطر الديموغرافية" التي ترافقه. ولكن الأحرى، كان أن يبدأ هذا النقد أيضاً بالاعتراف بفاشية القوى التي تنتج هذه المواد وتنشرها. إذ نشهدُ اليوم صراعاً على الخطاب العام في ظلّ مناورات سياسية محلية وإقليمية خارج قدرات الحركة الاعتراضية وشبكاتها، فنحن لا نملكُ مال أصحاب المصارف ولا جيوش الأنظمة والميليشيات التي تفاوض على الترحيل. أوراقنا مكشوفة، والهدف واضح: خلق جبهة تواجه خطاب الكراهية وتزيد الكلفة على المرتكبين في السلطة والإعلام -الدرس الأول الذي نتعلمه من 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019 هو أن علينا قلب الطاولة، في لحظاتٍ سياسية محددة، لا التفاوض عليها- وهذا عبر خلق رأي عام مضاد قائم على رفض العنف وتحميل السلطات المسؤولية كاملةً ومقاومة عجزها القاتل.
الفاشية بين الخطاب والممارسة
التمييز العرقي، حب العسكرة، الموافقة على القمع، تقديس الزعامات، والتعصب العنصري؛ بعض سمات الفاشية. تاريخياً، لعبت النزعة الفاشية دوراً أساسياً في حماية الطبقة المسيطرة والحفاظ على امتيازاتها، وذلك عبر تكريس مجتمعٍ عامودي بامتياز قائم على السلطوية والتبعية. ترتكز هذه السلطات على عسكرة مؤسساته ونظامه ومجتمعه، فيما يرى في الحروب والاحتلال والعنف العسكري حاجةً ماسة إلى إظهار عظمتها. النظام النازي في ألمانيا، والنظامان الفاشيان في إسبانيا وإيطاليا، والأسد في سوريا، وصدام حسين في العراق... أصبح هؤلاء أساتذة الفاشيين الجدد في العالم.
في الأسابيع الأخيرة، شهد لبنان عنفاً لفظياً وجسدياً ونفسياً على اللاجئين السوريين وكلّ من تضامن معهم. بدأت هذه الموجة على مواقع التواصل الاجتماعي، وكانت ترافقها اتهامات التخوين حول "ارتباطات" الناشطين بـ"أجندات خارجية"، ومنظّمات دولية تموّل مبادرات إنسانيةً مختلفةً. واستمرّت في الاعتداء المباشر على الضحايا: اجتياح المخيمات، مداهمة المنازل في وسط المدن والقرى، توقيف الأفراد على الحواجز، ومن ثمّ سياسة الترحيل القسري المخبّأة خلف ما يُسمّى بـ"العودة الآمنة".
الفاشية هي ردّ على النظام، أي على نظامٍ تسبب في انهيارٍ اجتماعي كبير من أهم تداعياته تهجير اللبنانيين، وخنق الذي لا يستطيع الخروج من بلدٍ خسر مقومات الحياة كلها
كذلك، تلعب البلديات دوراً أساسياً في تفعيل هذه الممارسات على النطاق المحلي، ولكن من دون خطة متكاملة تدرس تداعياتها، وتالياً اعتمدت على إجراءات وتدابير اعتباطية انتقامية وشعبوية تعيد إنتاج العنف الممنهج، من فرض حظر تجوّل، إلى تصنيف "اللاجئين غير الشرعيين" تمهيداً لترحيلهم. وبينما اشتدت هذه الحملات في لبنان، بادر مناصرو التيار الوطني الحر في الخارج، وفي فرنسا تحديداً، إلى تنظيم مظاهرة تطالب بالترحيل الفوري.
اللا مساواة والفقر والشلل
الفاشية هي ردّ على النظام، أي على نظامٍ تسبب في انهيارٍ اجتماعي كبير من أهم تداعياته تهجير اللبنانيين، وخنق الذي لا يستطيع الخروج من بلدٍ خسر مقومات الحياة كلها. وقد ترافقت مع ثنائيّة التهجير والتفقير نسبة خيالية من اللا مساواة الاقتصادية. في تقرير سنوي أصدرته غرفة كتاب العدل في باريس، تبيّن أن في سنة 2022 فقط، 12% من الشقق المشتراة من قبل الأجانب غير المقيمين في فرنسا يملكها اللبنانيون، وهم في المرتبة الثانية مقارنةً بكلّ الجنسيات الأخرى التي تتعامل مع القطاع العقاري في فرنسا. هذا مؤشر بسيط حول طبيعة التفاوت الاجتماعي في المجتمع، خاصةً عندما يعيش أكثر من 80% من الشعب اللبناني تحت خط الفقر.
هذه الفروقات والتناقضات الطبقية أدت في حقبات مختلفة إلى انفجارات شعبية كبيرة، ولكن اليوم يصب هذا الغضب المشروع في تعريف الخصم، ليس بناءً على أسس طبقية داخل الوطن الواحد، بل على أساس عرقي ووطني بين شعبَين متضررَين. لذلك، أصبحت الفاشية رداً تبسيطياً على أزمات النظام البنيوية، خاصةً على المستوى الاقتصادي.
بالتوازي، نرى أنّ نسبةً كبيرةً من التعليقات العنصرية والدعوات للعنف نابعة من مواطنين لا يمارسون العمل السياسي التنظيمي، خاصةً بعد الانتخابات النيابية الأخيرة. بعد الاستحقاق، استطاعت أحزاب الطوائف تكريس اصطفاف مباشر حول ملفات عدة حتى أصبح الجو المعارض خارجها بشكل كلّي، ومن هذه الملفات؛ الانتخابات الرئاسية، التي أنتجت خيارَين بين محورَين (سليمان فرنجية وميشال معوض المدعوم من أحزاب طائفية أخرى)، وخنقت تشكيل أي تيار ثالث. بالإضافة إلى ذلك، أتى تأجيل الانتخابات البلدية كمحاولة للهروب من معارك قد تطرح بدائل جديةً عن الممارسات الطاغية اليوم في موضوع اللاجئين.
الممارسة السياسية غيّبت خطاباً منتجاً مبنيّاً على قراءة مدروسة لأزمة اللجوء، وتالياً شجّعت خطاب الكراهية كبديلٍ لهذا الغياب
فقدان الممارسة السياسية الفعلية، غيّب خطاباً منتجاً مبنيّاً على قراءة مدروسة لأزمة اللجوء، وتالياً يشجّع خطاب الكراهية كبديلٍ من "السياسة" بمعناها الفعلي. لذلك، الشلل السياسي والتنظيمي الذي أنتجته السلطة ومعارضوها هو شرط من شروط اللغة التي تحرّض على "الآخر"، في ظلّ غياب المؤسسات المسؤولة عن معالجة الأزمات بطرق علمية.
التطبيع مع الاستبداد
هذه ليست المرة الأولى التي نشهدُ فيها الاستخدام الممنهج للعسكرة والعنف والخوف من الآخر بهدف تطبيع العلاقات مع نظام الأسد. من هنا، نستذكر الحقبة الأولى من شيطنة السوريين المعارضين في لبنان بعد سنة 2011، خاصةً مع ظهور تيّار إسلاموي معارض تلقّى دعم شرائح واسعة من الشعب السوري.
ومع تدخّل حزب الله في الحرب السورية، وظهور تيارات إسلامية سنّية جديدة تحلّ محلّ المعارضة الحريرية الخجولة، أصبح اللاجئ إرهابياً حتى إثبات العكس. وأصبحت القومية اللبنانية وثقافة حبّ الجيش وسياسة "مكافحة الإرهاب"، ملوّثةً بخطاب طائفي ومناطقي وعنصري قد تصل تداعياته إلى تعذيب السوريين الأطفال المقيمين في شمال لبنان، غير أن المعارك التي وقعت بين الجيش و"داعش" في المناطق الحدودية كرّست التنسيق الأمني المباشر بين النظام السوري والمؤسسات العسكرية اللبنانية.
في تلك الفترة، مثّلت العنصرية إحدى الأدوات الأساسية عند جمهور التيار العوني، حيث اعتمد جبران باسيل على التحريض المباشر ضد السوريين لتبرير مخاوف "أقلوية" من الثورة السورية، وتالياً قدّم غطاءً سياسياً-طائفياً لتدخّل حزب الله إلى جانب نظام الأسد واستفاد سياسياً وانتخابياً.
واليوم، يعود إلى الموّال نفسه لشدّ العصب الطائفي حوله، كما تفعل الأحزاب الطائفية كلها. في السياق الحالي، الدعوات المعلنة وراء التطبيع تؤكّد أن في عودة اللاجئين السوريين إلى "المناطق الآمنة" في سوريا مشروطةً بإنهاء الثورة السورية والاعتراف بشرعية الأسد، وتالياً إلغاء مبادرة الشعوب, لصالح الأنظمة الفاقدة للشرعية.
المعرفة والتضامن
اللاجئون ليسوا الأعداء. العدو هو النظام الذي زرع من خلال قواعده ومؤسساته وشبكاته وإعلامه خطاباً يشوّش الواقع لصالح من دمّر حياة اللبنانيين. اللاجئون لم يسببوا الانهيار الاقتصادي ولا غيره من الأزمات الصحية والتعليمية والمالية الضخمة التي هجّرت الناس وتسببت في "الأزمة الديموغرافية". هذا الواقع لم يمنع معظم الأحزاب والمجموعات المعارضة والنواب التغييريين من التزام الصمت في ما يخص ملف اللاجئين، خوفاً من خسارة جديدة أمام رأي عام اعتراضي يتفاعل مع هذا الخطاب.
نقيض الفاشية هي المعرفة التي تواجه الأساطير العنفية وتبحث في مكوّنات المجتمع وحاجاته... فهل لا يزال هذا الفعل ممكناً؟
اليوم، بديل الصمت هو التضامن الذي يعاقب العنصري المتواطئ مع النظام وسردياته، ويخلق شبكة حماية جدية تجمع بين المتضررين ولا تفرّقهم. ونقيض الفاشية هي المعرفة التي تواجه الأساطير العنفية وتحاول البحث في مكوّنات المجتمع وحاجاته، خاصةً في ما يخصّ سوق العمل. تتطلب هذه العملية استثماراً في مسح كامل للمقيمين والعاملين. في الواقع، "الحلول السريعة" ليست حلولاً، وطرد الآلاف من اللاجئين لن يخفف من الضغط المعيشي الهائل، والذي يبحث عن هذا النوع من الحلول لن ينتِج شيئاً غير دوامة العنف المجتمعي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه