ما حدث للمنتخب النسوي المغربي في مونديال أستراليا، بعد هزيمته في مباراته الأولى مع ألمانيا بستة أهداف مقابل صفر، وما تعرضن له من تنمّر وتحقير وتنقيص من قيمتهن، يختزل بشكل من الأشكال ما تتعرض له المرأة المغربية من عنف معنوي ورمزي ومادي وذكورية، ويجعل مسألة المناصفة والمساواة وكل المطالب الحقوقية بعيدة المنال في غياب تربية تحترم الإنسان. لكن نجاحهن في العودة إلى الأمام وتحقيق تأهل تاريخي ثانٍ إلى دور ثمن النهائي، جعلهن ينتصرن انتصاراً رمزياً ثانياً لأول منتخب في المنطقة المغاربية والعربية، يصل إلى نهائيات كأس العالم للكرة النسائية.
كبوة أولى... ثم عودة
لم يقتصر التنمر والتحقير المنتشر في وسائل التواصل الاجتماعي، وفي بعض وسائل الإعلام، على المغاربة فحسب، بل هناك بلدان جارة وأخرى صديقة تلذذت بهذه الهزيمة الساحقة، وعلى رأسها بعض وسائل الإعلام الفرنسية التي انتقدت بعض برامجها اللاعبة المغربية نهيلة بنزينة، كونها أول لاعبة كرة قدم تشارك بالحجاب في كأس العالم للسيدات المقامة حالياً في نيوزيلندا وأستراليا، حيث رأت فيها "تراجعاً لا يصدق"، خلافاً لوسائل الإعلام العالمية و"فيفا" التي رأت فيها "لحظةً تاريخيةً" تضمن التنوّع وحقوق النساء في اختيار مساراتهن، وهو ما تمثل في منشور لرئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم جياني إنفانتينو الذي أشاد باللاعبة وبالتنوع الذي تأتي به إلى الملاعب.
بعد الهزيمة انتفضت "لبؤات الأطلس"، وحقّق منتخب سيّدات المغرب انتصارين متتاليَين على كوريا الجنوبية وكولومبيا، وتأهلهن إلى الدور الثاني من المونديال في أول مشاركة لهن في المنافسة الكروية العالمية، ومع هذا الإنجاز التاريخي أمام منتخبات أقوى في تصنيف الاتحاد الدولي لكرة القدم "فيفا"، غيّر كثيرون آراءهم، وصارت الأغلبية تفتخر بهنّ وبانتصاراتهن، ولم يعد المطبخ أو "الكوزينة" كما يقال له بالعامية المغربية، هو المكان الذي يجب أن تعود إليه اللاعبات، كما ردّد المتنمرون، وهذا ما يدل على أن النفاق المجتمعي وغياب الأخلاق والقيم في التعامل مع المرأة والرجل على حد سواء، وتبخيس عمل المرأة في كل المجالات، وعلى رأسها الرياضة والسياسة، ما زالت قائمةً في المجتمع المغربي ومجتمعات المنطقة.
غيّر كثيرون آراءهم بعد تأهل منتخب السيدات المغربي إلى دور ثمن النهائي، وصارت الأغلبية تفتخر بهنّ وبانتصاراتهن، ولم يعد المطبخ أو "الكوزينة" هو المكان الذي يجب أن تعود إليه اللاعبات، كما ردّد المتنمرون
لا يمكن أن ننسى ما تعرضت له النساء المترشحات في الانتخابات التشريعية الأخيرة في المغرب، من استهزاء وتنمر، وما تعرضت له المشجعات خلال مونديال قطر بعد مزاحمتهن للذكور في المقاهي والملاعب لتشجيع المنتخب المغربي، وقد قلّل من حدّته احتفال لاعبي المنتخب المغربي بأمهاتهم وزوجاتهم وأخواتهم في كل محطات المونديال، واستقبال الملك محمد السادس للّاعبين المغاربة برفقة أمهاتهم، انتصاراً لقيم الاحترام والتقدير الواجب للمرأة.
تمثلات نمطية وتصورات جنسانية
تقول الباحثة المغربية المتخصصة في علم الاجتماع أمينة زوجي، في تصريح لرصيف22، إن النساء كلما حاولن اختراق مجالات جديدة كانت محتكرةً من طرف الرجال، كبرت دائرة المقاومة والرفض، وتُعدّ رياضة كرة القدم النسائية من أهم المجالات التي شهدت مقاومةً مجتمعيةً شديدةً، فبرغم أن تاريخ هذه الرياضة يعود تقريباً إلى أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، إلا أنها ما زالت تعرف بعض أشكال المعارضة في بعض الثقافات على المستوى الشعبي، بسبب التحيز للرجال والصور النمطية الجنسانية.
تضيف زوجي: "لاحظنا من خلال متابعتنا لمجريات كأس العالم الخاص بالسيدات في أستراليا، كمَّ التنمر الذي تعرضت له اللاعبات المغربيات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، سواء من خلال تبخيس أدائهن كلاعبات خصوصاً بعد خسارتهن أمام ألمانيا في المباراة الأولى، وعدّ البيت والمطبخ مكانهنّ الطبيعي، أو من خلال تشبيههن بالرجال ونفي الأنوثة عنهن، أو من خلال مراقبة لباسهن وسلوكياتهن في علاقتهن بالمدرب والطاقم الطبي والتقني المرافق لهن (من الرجال)، واستحضار التحريم الديني، وهو ما لا نجده في حالة اللاعبين الرجال".
تم تبخيس أداء اللاعبات خصوصاً بعد خسارتهن أمام ألمانيا في المباراة الأولى، وعدّ البيت والمطبخ مكانهنّ الطبيعي، ونفيت الأنوثة عنهن لكنهن استعدن هيبتهم بالزئير في بقية في المباريات
توضح الباحثة أن هذا التنمر هو شكل من أشكال المقاومة، سواء الواعية أو غير الواعية، الرامية إلى رفض التغيير والمساواة بين الجنسين، فمنافسات كأس العالم تتمتع بشعبية كبيرة وتستقطب أنظار الجميع واهتمامهم، وتالياً فهي ليست مجرد منصة للتنافس واستعراض القوة والمهارات، بل هي أيضاً منصة لترسيخ قيم جديدة تقدّم النساء كفاعلات في الفضاء العام، وقادرات على أخذ زمام المبادرة وصناعة الحدث، أي أنها منافسات لها تأثير إيجابي في تعزيز المساواة وكسر القوالب النمطية التي تختزل النساء في البيت والمطبخ والدور الإنجابي والجنسي.
فضلاً عن ذلك، فإن هذا التنمر لم يطل اللاعبات في منافسات كأس العالم في أستراليا فحسب، بل طال أيضاً النساء المشجعات خلال بطولة كأس العالم في قطر، إذ لم يتقبل الرجال في البداية تقاسم مساحة التشجيع في المقاهي مع النساء، نظراً إلى كونهم يرونها مساحةً ذكوريةً بامتياز.
تنمر ورفض للمساواة
تخلص أمينة زوجي، إلى أن الأسباب الكامنة خلف هذا التنمر "ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالطريقة التي ينظر بها الرجل المغربي إلى المرأة المغربية، وهي نظرة تشكلت عبر قنوات التنشئة الاجتماعية المبنية على اللا مساواة، سواء داخل الأسرة أو مضامين المناهج الدراسية أو الإعلام أو الشارع. وهي قنوات يتم من خلالها تقديم بعض التمثلات المرتبطة بأدوار الجنسين والنماذج المتعلقة بالنوع الاجتماعي (الجندر)، وهي نماذج نمطية تضع الرجال دائماً في قلب الفضاء العام وفي مرتبة الريادة، بينما تحصر النساء في الفضاء الخاص كتابعات وكمقدمات للخدمات، وأي محاولة لتجاوز هذا التقسيم الجنسي للفضاء قد تعرّض النساء لبعض أشكال المضايقة والتنمر أو التحرش، كما أن تميّز النساء في مجالات عدة كانت محتكرةً من طرف الرجال، ولدّ لديهم إحساساً بالتهديد والخوف من فقدان المكانة والامتيازات التي لطالما انفردوا في الاستفادة منها، وهو ما يمكن ملاحظته عند تفوق النساء في مباريات التوظيف والولوج إلى بعض المهن والمعاهد، وهنا يمكن القول بأن التنمر على اللاعبات المغربيات في مجال الرياضة هو مجرد تصريف لمشاعر الغضب ورفض المساواة في الحياة الاجتماعية بشكل عام، ومقاومة التميز النسائي الآخذ في التوسع، وفي هذا الإطار يتم استعمال الخطاب الديني كمبرر لوصم النساء اللواتي يحاولن الخروج عن الصور النمطية".
أسباب الكامنة خلف هذا التنمر ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالطريقة التي ينظر بها الرجل المغربي إلى المرأة المغربية، وهي نظرة تشكلت عبر قنوات التنشئة الاجتماعية المبنية على اللا مساواة
من جهته، يرى الباحث المغربي عمر حلي، في تصريح لرصيف22، أن ما حدث ويحدث في قضية التعامل مع لبؤات الأطلس في رحلتهن الأخيرة في مونديال أستراليا يطرح أكثر من سؤال، فقد بسطت هزيمتهن فضاءً مفتوحاً ملأه اللغط الذي ذهب مذهباً بعيداً في التنمر، وتحول إلى ساحة نشر فيها 'أبطال بلا مجد' ترّهات من معجم موروث ينتمي إلى عهود ما قبل الفكر والتنوير، ولذلك اختلط الحديث عن الحجاب بالحديث عن أدوار المرأة إلى أن سقط في كليشيهات عفّى عليها الزمن، مثل أن دور المرأة يقع في المطبخ والطبخ.
تركيبة سكيزوفرينية معقدة وذكورية طافحة
يستغرب المتحدث كل هذا اللغط الذي رافق الهزيمة وفائض التعليقات الذكورية، خاصةً أننا أمام "عالم تتقلد فيه المرأة دوراً ريادياً في الحياة، وتتبوأ فيه التلميذات مركز الصدارة في نتائج الباكالوريا، وتحتل الفتيات حيزاً مهماً في مدارس المهندسين وفي كليات الطب وفي معاهد الفنون والاقتصاد".
وبعدها، كما يقول: "يأتي الموقف المضاد بعد الانتصار، فتملأ التهاني الصفحات والجدران، وكأننا أمام تركيبة سكيزوفرينية معقدة. ما يدعونا إلى طرح السؤال الأول الذي هو: هل من كانوا يتنمرون هم أنفسهم من يقدمون التهاني وينشرون صور الفائزات؟ أم إن الفيالق الأولى تتوارى وتفضل الصمت عندما يحين وقت الفرح؟"
ويوضح الباحث الأكاديمي أن "الجهل وضعف مواصلة التحسيس والترسبات النفسية والاجتماعية تشجع كلها على توسيع رقعة السكيزوفرينية هذه. وأن لا محيد من الإكثار من فتح نوافذ النقاش والمواجهة لكيلا يتلذذ الجاهلون بجهلهم كثيراً. وأما الصمت، فهو جمر المتاهة. صمت المثقفين والهيئات. وإلا فكيف نصمت في المعارك ونعيد السيوف إلى غمدها ونتحول إلى متفرجين سلبيين، في وقت تتراكم فيه خطابات الكراهية والتمييز وتملأ رفوف الكلام؟
ولهذا يدعو حلي إلى مواصلة المعارك في سبيل حقوق النساء، والتي لا سبيل فيها للحياد والصمت في العوالم الزرقاء وفي الإبداعات الفنية وفي النقاشات الخاصة والعامة. وسيكون كل انتصار لفريق النساء فرصةً لكي يوسع العقل دائرة التنوير.
ضرورة تغيير الصور النمطية
أما الحقوقية سميرة موحيا، رئيسة فدرالية رابطة حقوق النساء في المغرب، فتؤكد في تصريح لرصيف22، أن ما تعرضت له لبؤات الأطلس منذ الاستعداد للمونديال ومجرياته يعكس جزءاً من المعاناة التي تعيشها المرأة المغربية ومقاومتها من أجل فرض وجودها في العديد من المجالات، التي أثبتت فيها أهليتها لها عن جدارة واستحقاق، ومن ضمنها المجال الرياضي الذي ليس حكراً على الرجال فحسب.
وتوضح أن "التنمر الذي تعرضت له اللاعبات والتدخل في لباسهن وذواتهن واختيار إحداهن ارتداء الحجاب عن قناعة واختيار، برغم بلائها الحسن في اللعب، كله يحط من قيمة المرأة، وهو أمر مرفوض وندينه باستمرار، وقد سبق وتعرضت له حتى النساء في المجال السياسي في الانتخابات التشريعية في 2021، حيث سُخر من النساء المرشحات وتم إذلالهن وممارسة العنف السياسي عليهن. ففي كل مجال تظهر فيه النساء ويحققن إنجازات مهمةً تبرز ممانعة ومعارضة لهن من طرف الذكور".
هل من كانوا يتنمرون هم أنفسهم من يقدمون التهاني وينشرون صور الفائزات؟ أم إن الفيالق الأولى تتوارى وتفضل الصمت عندما يحين وقت الفرح؟
وتقول موحيا، إن السؤال الأهم هو هل اللاعبات المغربيات يتمتعن بالحقوق والامتيازات نفسها التي يتمتع بها اللاعبون الذكور؟ وهل تُصرف لهنّ التعويضات عينها؟ وتوفَّر لهن الظروف الملائمة للعمل؟ وهل تحظى المرأة بمراكز القرار في الجامعة الملكية لكرة القدم وفي الجمعيات الرياضية، أم لا؟
تخلص الحقوقية إلى أن المغرب حقّق مكتسبات مهمةً وقطع أشواطاً في مناهضة العنف وإصدار قوانين في هذا الاتجاه، ولكن تفعيلها على أرض الواقع لم يتحقق بعد بشكل ملموس. ولهذا تدعو إلى أن يواكب الورشات الإصلاحية المفتوحة في المغرب، عمل حقيقي لمحاربة العنف المبني على النوع الاجتماعي (الجندر)، والقضاء على الصور النمطية وتمثلات المخيال الجمعي للشعب المغربي، نساءً ورجالاً، وهو ما لن يتأتى إذا لم يتم الاهتمام بالتربية في البيت والمدرسة والشارع، لأن هناك كثيرات من النساء حاملات للفكر الذكوري، للأسف، ويمارسن العنف بأشكاله المختلفة على بنات جلدتهن.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.