شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
في مونديال 1986 كنا نحن

في مونديال 1986 كنا نحن "بين سبورت"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والحقوق الأساسية

الأربعاء 23 نوفمبر 202202:42 م

كنا، أنا وصديقي الأنغولي ميغيل، فقيرَين جداً قبل نسخة كأس العالم 1986. وفقر الطلاب في الدول الاشتراكية، خلال تلك الأيام، كان يتميز بثلاث صفات غير موجودة في الفقر المعروف، وهي: أولاً، هذا الفقر مؤقت ويعتمد على طرف خارجي هو الأهل؛ إن أرسل لك أهلك مصروفاً فأنت غني، وإن لم يرسلوا فأنت فقير. ثانياً، هذا الفقر لا يمكن الخجل منه، وتالياً لا محاولات لدى الفقير لإخفائه. وثالثاً، المسافة بينه وبين الغنى ضيقة إلى الحد الذي لا يتعدى المئة دولار سنوياً. إن كنت تملك هذا المبلغ في بلد مثل بلغاريا الاشتراكية فأنت غني، وإن لم تكن تملك إلا المنحة التي تقدّمها لك الجامعة فأنت فقير.

"تلفزيوننا"... هكذا كنا نسميه كنوع من الدلال، وكطريقة للفخر أمام الطلاب الأغنياء الذين لا يملكون تلفزيوناً.

ولأن نظام الحوالات المالية لم يكن متطوراً وسهلاً مثلما هو الآن، فقد كان على أم ميغيل أن تسافر مئات الكيلومترات من قريتها في شرق البلاد إلى العاصمة لواندا، من أجل أن ترسل لابنها مئة دولار. كان ميغيل يحسدني كلما أشرت له إلى اسم قريتي على خريطة فلسطين، ويقول: ما أقربها من عاصمتكم! لكنه مع الأيام فهم أن لا بنوك لدينا لأن لا عاصمة حقيقية لنا ولا دولة، وأن على أمي أن تسافر إلى الأردن، أو تجد مسافراً ما إلى هذا البلد المجاور، لترسل لي النقود.

أنا وميغيل كنا فقيرين، على الأقل منذ بداية تلك السنة، وفي حالتنا هذه كان لا بد أن نبيع، من ممتلكاتنا، ما نستطيع أن نؤمّن بسعره حاجتنا من السجائر والفودكا.

كلمة "ممتلكاتنا" يتم استخدامها هنا جزافاً للدلالة على طنجرتين وأربعة صحون ومقلاة. وعلى رأس هذه الممتلكات يتربع تلفزيون صغير، أقل من 30 بوصةً "أسود وأبيض".

كان ميغيل يحسدني كلما أشرت له إلى اسم قريتي على خريطة فلسطين، ويقول: ما أقربها من عاصمتكم! لكنه مع الأيام فهم أن لا بنوك لدينا لأن لا عاصمة حقيقية لنا ولا دولة

"تلفزيوننا"... هكذا كنا نسميه كنوع من الدلال، وكطريقة للفخر أمام الطلاب الأغنياء الذين لا يملكون تلفزيوناً. هذه الكلمة لم تعد لائقةً في أيامنا الحالية، فلا أحد يجرؤ على إطلاقها على شاشة ذكية بقياس ستين بوصةً، ووزن أقل من ربع وزن ذلك التلفزيون. كما أن لا أحد يتخيل، حالياً، مدى صعوبة أن تكون طالباً في دولة اشتراكية في أواسط ثمانينيات القرن الماضي، وأن تمتلك تلفزيوناً. فقد كان في بلغاريا مصنع واحد لأجهزة التلفاز، وكان على العائلة البلغارية التي ترغب في اقتناء واحد من هذه الأجهزة، أن تسجل بياناتها وتدفع السعر، ثم تنتظر إلى أن يحين دورها، وقد يطول هذا الانتظار سنةً أو خمس سنوات حسب عدد المتقدمين، وتالياً لم نكن، نحن الطلاب، نملك لا المال ولا الوقت الكافي لهذا الانتظار.

حظنا، أنا وميغيل، كان جيداً بأن رسب حمّود في الدراسة، وحظ التلفاز كان سيئاً بأن صار من ممتلكات شخصين لا يملكان ثمن السجائر.

أما كيف نملك نحن هذا الاختراع ولا يملك مثله الآخرون؟ فببساطة لأننا ورثناه عن زميلنا الكويتي حمّود، الذي أحضره من اليونان وهو قادم لدراسة الطب في بلغاريا. لكن حمّود رسب في سنة اللغة، وعاد إلى بلده تاركاً لنا هذه القطعة النادرة.

حظنا، أنا وميغيل، كان جيداً بأن رسب حمّود في الدراسة، وحظ التلفاز كان سيئاً بأن صار من ممتلكات شخصين لا يملكان ثمن السجائر. سنبيعه إذاً، هكذا قررنا بعد تفكير طويل، وهكذا صار. وبعد إعلاننا عن ذلك بين الأصدقاء والمعارف، جاء إلى غرفتنا شاب هزيل البنية، وعرّف بنفسه على أنه محمد عبد الرحمن من اليمن، وأنه يدرس الصحافة ويسكن في مبنى رقم 16، وأن لديه الرغبة في شراء "تلفزيوننا". وبعد نقاش ومفاصلة استمرت ساعتين، قبضنا عشرين دولاراً وودّعنا التلفزيون إلى مدخل البناية.

انتقلنا، أنا وميغيل، بمساعدة هذا المبلغ، من فئة الفقراء إلى شريحة الطبقة الوسطى العليا، التي تدخن الـ"كانساس" وتشرب الـ"ستوليشنايا"، وعشنا في هذه البحبوحة المدروسة بعناية مدة شهرين كاملين، إلى أن وصل مصروفنا السنوي من عائلتينا في أنغولا وفلسطين.

في 31 من شهر أيار/ مايو 1986، صحونا غنيَّين، لكننا لا نملك تلفازاً نشاهد من خلاله مباراة الافتتاح، والتي كانت، للصدفة، بين بطل العالم، أيامها، المنتخب الإيطالي، ومنتخب الدولة التي ندرس فيها، بلغاريا. كان كل شخص في بلغاريا قد أمّن مكاناً له لمشاهدة المباراة إلا أنا وميغيل، وبعد أن استنفدنا كل الخيارات الصعبة أو غير المتاحة، صمت ميغيل مطولاً ثم قال: "سنشاهد المباراة عند محمد اليمني".

حزنت على "تلفزيوننا" وأحسست بأنه منتهَك، وفجأةً ندمت على بيعه بهذه السهولة، فأخذت محمد "على جنب" وقلت له: "اسمع يا صديقي، نحن بعناك هذا التلفزيون لك أنت، وليس من أجل أن يشاهده نصف سكان اليمن"

أجبت: "هل أنت مجنون يا ميغيل؟ هذا اقتراح غير منطقي، فنحن لا نعرف محمد أبداً، ولا توجد بيننا أية علاقة تسمح بزيارته".

لكن ميغيل أقنعني بفكرته، أو بأن فكرته كانت الخيار الوحيد المطروح والممكن. توجهنا عصراً إلى بناية رقم 16، وسألنا عن محمد فأرشدنا البواب إلى غرفته في الطابق الثاني، وهناك وقفنا نصف ساعة ونحن نضحك و "نتعازم" من سيطرق الباب.

طرقت الباب أخيراً، ففتح محمد، ويا لهول ما رأينا؛ كان هناك ما يفوق الخمسين شخصاً يتزاحمون فوق الأسرة والكراسي وعلى الأرض، في انتظار صفّارة الحكم ليعلن انطلاقة الشوط الأول من المباراة.

فجأةً، حزنت على "تلفزيوننا" وأحسست بأنه منتهَك، وفجأةً ندمت على بيعه بهذه السهولة، فأخذت محمد "على جنب" وقلت له: "اسمع يا صديقي، نحن بعناك هذا التلفزيون لك أنت، وليس من أجل أن يشاهده نصف سكان اليمن. بصراحة ومن دون زعل، نحن تسرّعنا ولم نكن نعرف أن هذا سيكون مصيره". في هذه اللحظة كان ميغيل يسحب من محفظته ثلاثين دولاراً، أي بزيادة عشرة دولارات عن السعر السابق، ويضعها في يد محمد، ثم توجه نحو التلفزيون وحمله وخرج. كان الجميع في الغرفة يشتمون ويصرخون، إلا محمد نفسه، وفيما بعد فهمنا أنه كان يعاني من فقر مؤقت، مثل الذي عانيناه قبل ستة شهور، وأن هذه الدولارات ستنتشله من الفقر ومن تراكم اليمنيين في غرفته مع كل مباراة.

عدنا ومعنا "تلفزيوننا" وشاهدنا المباراة. ثم قررنا أن نفرض رسوماً على كل غريب يريد أن يأتي لزيارتنا من أجل مشاهدة المباريات. هذه الرسوم لم تكن مالاً بالطبع، بل قنينة زيت أو فودكا، أو علبة سجائر أو علبة شوكولاتة

عدنا ومعنا "تلفزيوننا" وشاهدنا المباراة. ثم قررنا أن نفرض رسوماً على كل غريب يريد أن يأتي لزيارتنا من أجل مشاهدة المباريات. هذه الرسوم لم تكن مالاً بالطبع، بل قنينة زيت أو فودكا، أو علبة سجائر أو علبة شوكولاتة.

هل كنا، أنا وميغيل، من دون أن ندري، النقطة التي انطلقت منها فكرة الرسوم مقابل البث؟ هل سمعتْ "بين سبورت" عن جشعنا فقررت تطويره بهذا الشكل؟ ربما. لكن حتى ممارسات البرجوازية الجشعة التي قمنا بها أنا وميغيل، لم تتجاوز، في حينها، ثمن صحن المعكرونة في مقابل مشاهدة مارادونا وهو يراوغ ويتوغل. لم نكن نتخيل، لا نحن ولا غيرنا، أننا سنضطر في 2022، إلى دفع خمسمئة دولار من أجل أن نشاهد ميسي أو لوكا مودريتش. في مونديال 1986، كنا نحن "بين سبورت"، وتلفزيوننا المهلهل كان مركز البث، بلا تقطيع وبلا قنوات مفتوحة وأخرى مغلقة. صحيح أن كأس العالم يزن خمسة كيلوغرامات من الذهب، لكنه كان صديقاً للفقراء الذين لا يملكون خمسة دولارات.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ما زلنا في عين العاصفة، والمعركة في أوجها

كيف تقاس العدالة في المجتمعات؟ أبقدرة الأفراد على التعبير عن أنفسهم/ نّ، وعيش حياتهم/ نّ بحريّةٍ مطلقة، والتماس السلامة والأمن من طيف الأذى والعقاب المجحف؟

للأسف، أوضاع حقوق الإنسان اليوم لا تزال متردّيةً في منطقتنا، إذ تُكرّس على مزاج من يعتلي سدّة الحكم. إلّا أنّ الأمر متروك لنا لإحداث فارق، ومراكمة وعينا لحقوقنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image