تعيش الشعوب العربية حالة نادرة من الحماس الكروي تجاه منتخب عربي، مع وصول المنتخب المغربي إلى نصف نهائي بطولة كأس العالم لكرة القدم، في إنجاز مغربي و(عربي) وأفريقي يُعدّ تاريخياً بالفعل بالنظر إلى تاريخ مشاركات الدول العربية والأفريقية في البطولة، إذ بلغ أكبر إنجاز أفريقي الوصول إلى ربع نهائي المونديال، فيما نجح العرب بالوصول إلى دور الـ16 في ثلاث مناسبات ضمن ما يعرف بـ"المشاركة المشرّفة" (المغرب والسعودية والجزائر وصلوا إلى هذا الدور في أعوام 1986- 1994- 2014 على التوالي).
ربّما لم يكن أكثر المتفائلين يتوقّع للمنتخب المغربي الوصول إلى ما وصل إليه، فمجموعته في الدول الأول ضمّت منتخبَين مرشّحين للوصول بعيداً في البطولة (كرواتيا وبلجيكا) ومنتخب ثالث "مجهول"، كندا الذي شارك للمرة الثانية لكأس العالم، لكن نجح المغاربة في تصدر المجموعة وصنع المفاجأة بالفعل ليصطدموا بإسبانيا في دور الـ16 وبقيّة الحكاية، تعرفونها جيداً.
يُعطي النجاح المغربي إشارات متعددة وهامة تكسر أوهاماً خُلقت وزُرعت على مدى عقود لمجتمعات هذه المنطقة من العالم، سواء كان يعنيها هذا النجاح أم لا، أهمها على الإطلاق الإجابة على السؤال الذي لطالما اصطدم بالواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي لهذه المنطقة: "لم نحلم؟ هل نستطيع؟" وتأتي الإجابة بسيطة اليوم: "نعم نستطيع!"
أذكر جيداً أن مدرب المنتخب الجزائري جمال بالماضي قال في تصريحات أثارت جدلاً كبيراً بأن الجزائر قادرة على تحقيق كأس العالم. سخر منه الكثيرون حينها، وتساءلوا كيف ومتى؟ هل من الحكمة أن تزرع في عقول لاعبيك وهْمَ إمكانية مقارعة ألمانيا والبرازيل وبلجيكا والأرجنتين وفرنسا وإنجلترا وغيرها من الدول التي تملك تاريخاً كروياً حافلاً؟ ومن هنا أقول بأن أول ما كُسر هو "عقدة الخواجة"!
يُعطي النجاح المغربي إشارات متعددة وهامة تكسر أوهاماً خُلقت وزُرعت على مدى عقود لمجتمعات هذه المنطقة من العالم... وأول ما كسر "عقدة الخواجة"
لكي ننجح يجب أن يكون المسؤول أجنبياً، هو وحده القادر والعالم صاحب الاستطاعة للوصول بنا بعيداً في أحلامنا، ويثبت مدرب المنتخب المغربي وليد الركراكي تفاهة هذه المقولة من خلال الوصول إلى نصف نهائي أكبر بطولة لكرة القدم في العالم، وهنا تكمن الإجابة عبر كسر هذه "العقدة"، وهذه الإجابة بدورها تنعكس على جميع المجالات بما فيها الفنية والسياسية والاقتصادية طالما وُضِع الشخص الصحيح في المكان الصحيح وتوفرت له الإمكانيات التي يحتاجها، وأنا هنا لا أحلل أسباب نجاح الركراكي بقدر ما أشير إلى نقطة نعاني منها جميعاً.
أما الإجابة الثانية التي منحها لنا المنتخب المغربي فهي عملية النجاح بشكل جماعي، نعم يمكن لسكان هذه المنطقة أن ينجحوا بشكل جماعي لا فردي، بالفعل لدينا مئات النماذج الفردية التي نجحت خارج بلادها عندما عملت ضمن تجمّعات غريبة ومختلفة عنها ثم تفشل عندما تجتمع مع أبناء وطنها، وسرعان ما تُقال الجمل الهزيلة ذاتها التي تحولت إلى مجرد أقاويل مكرّرة وسخيفة "لن ننجح لأننا لا نحب بعضنا وأنانيون" وغيرها من جمل جلد الذات والشمّاعات التي يعلق المهزومون أخطاءهم وعثراتهم عليها، بينما تأتي الإجابة اليوم من المنتخب المغربي الذي يضم خلفيات متنوعة للاعبيه عرباً وأمازيغ يلعبون في الدوريات الأوروبية أو في الدوري المغربي، بأن الأمر يمكن أن يكون ونستطيع المضي بعيداً في أحلامنا وطموحاتنا.
أعود بالذاكرة إلى ثلاثية كأس أمم أفريقيا التي حققتها مصر بين عامي 2006 و2010 مع مدرب محليّ هو حسن شحاتة وأتساءل: هل كان لها دور في شحن الناس إيجابياً ودفعهم للإيمان بأنفسهم أكثر وبالتالي كانت بشكل ما سبباً لنزول الناس إلى الشوارع في 25 يناير 2011؟ قد يبدو السؤال بعيداً عن الواقع وأترك إجابته لأساتذة علم الاجتماع والباحثين القادرين على الإجابة عنه ضمن أبحاث أراها مطلوبة للغاية في فترة زمنية عصيبة.
الإجابة الثانية التي منحها لنا المنتخب المغربي فهي عملية النجاح بشكل جماعي، نعم يمكن لسكان هذه المنطقة أن ينجحوا بشكل جماعي لا فردي
هذا النجاح الذي يحققه المغرب اليوم فجّر بدوره جدلاً كبيراً على وسائل التواصل الاجتماعي، يتصل بشكل مباشر بالهوية والانتماء، وبقدر ما يبدو هذا الجدل فجّاً وعنصرياً أحياناً، ويأخذ أبعاداً إيديولوجية، إلا أنه في المقابل في غاية الأهمية، لأن التفاعل معه بين الشعوب والمجتمعات في "العالم العربي"، على اعتبار أنها التسمية الرسمية للدول من المحيط إلى الخليج إلا في بعض الاستثناءات، يؤدي إلى تفاعل كبير بدأ في نهاية 2010 مع اندلاع الثورة التونسية ثم ثورة يناير وثورات الربيع العربي التي أعادت تعاطفاً وشغفاً بين الشعوب وتفاعلاً غير مسبوق منذ عقود، الأمر نفسه يتكرر اليوم بشكل مختلف.
بالطبع لا يعني ذلك الكلام الحلم بـ"وحدة عربية" وإعادة "القومية العربية" إلى الواجهة من جديد، لكن شرارة الأمل تنتقل أيضاً وأثبت ذلك سابقاً.
هذا التفاعل نفسه مطلوب بين أبناء المملكة المغربية أنفسهم وبين المغرب وجيرانه في شمال أفريقيا، وتالياً مع الدول العربية بينها وبين نفسها، إعادة فهم الشعوب العربية لذاتها أمر غاية في الأهمية للمضي قدماً والتخلص من الكوابيس المفروضة عليها.
عندما شاهدت مباريات المنتخب المغربي في البطولة شعرت للحظة بأننا أيضاً نمتلك أبطالاً خارقين لديهم القدرة على صنع المعجزات في مواجهة من سيتم تصنيفهم بعد أعوام قليلة وبعد اعتزالهم بالأساطير (مودريتش ودي بروين ورونالدو وغيرهم) لكن الأسطورة المغربية التي تكتب بأقدام أبنائها أسطورة جمعية تمتلك أهميتها من تلك الرسائل والإجابات التي منحوها للناس.
يبدو كلامي عاطفياً؟ ليكن طالما أنه ينتصر للأمل في وسط الخيبات، أمل جاء مع اندلاع الربيع العربي ثم خنقته قوى الظلام والشرّ من تونس إلى العراق، ربّما يعود!
لم يعدّ من حق المنتخب المغربي أن يحلم، بل تحول الأمر لواجب، لأن حلمه هذا سيمنح أملاً للملايين في المغرب وغيرها من الدول الجارة القريبة والبعيدة، كما فعله يوماً محمد صلاح وقبله رابح ماجر وغيرهما.
يبدو كلامي عاطفياً؟ ليكن طالما أنه ينتصر للأمل في وسط الخيبات، أمل جاء مع اندلاع الربيع العربي ثم خنقته قوى الظلام والشرّ من تونس إلى العراق، ربّما يعود!
أكتب هذا المقال عشية المباراة التي لا أعرف نتيجتها (ربما الفيفا تعلم)، وكمحبّ للمنتخب المغربي أقول شكراً لمن رسموا ابتسامة على وجوه ملايين الناس الغارقين في فوضى خلقتها ديكتاتورية الحكومات العربية وعنجهيّتها. شكرا لأنكم زرعتم الثقة في صدور مئات آلاف الأشخاص، ومنحتم حلماً لأطفال يعيشون حياة صعبة بأنهم يستطيعون صنع المعجزات!
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع