شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
كيف تجعلنا الغربة أكثر تعاطفاً؟

كيف تجعلنا الغربة أكثر تعاطفاً؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والمهاجرون العرب

الخميس 3 أغسطس 202302:56 م
Read in English:

How living far from home makes us more compassionate

حين حزمت حقائبي لمغادرة سوريا عام 2016 دسست فيها حصيلة تجارب الثمانية عشر عاماً الأولى من حياتي، التي كانت الحرب هي الغالبة عليها، وخرجت إلى عالمٍ جديد لا يلقي بالاً لحروبنا ودمار بلادنا. كان كلّ ما يتعلّق بالحرب من أسباب ونتائج يثير عاطفتي ويشغل تفكيري، وكنت بعيدة عن تقدير أي نوع آخر من الألم أو فهمه، أو حتى القبول بوجوده.

رسمَت السنوات الأولى في الغربة صورة جديدة للألم امتزجت بصور عديدة من ذكريات الحرب لتشكّل لوحة لا يمكن لغير السوري، المغترب هرباً من الحرب، تفكيكها. داخل تلك اللوحة لاح فراغ لم أعرف كيفية ملئه ولم أستطع تحديد مسمّى واضح له. كان ازدياد تعقيد مشاعري وتجاربي يزيد حاجتي للتعاطف، في عمر لم يكن للتعاطف فيه معنى واضح في رأسي.

قدرتنا على التعاطف تستند إلى نوع التجارب المؤلمة التي نختبرها، فالتعاطف شعور منحاز كغيره لكلّ ما يشبهنا

تتشكّل قدرتنا على التعاطف ببطء منذ بداية وعينا بالألم، فالألم والتعاطف رفيقان متلازمان، يغذّي أحدهما الآخر ويزيد من ضرورة وجوده. ولأن قدرتنا على التعاطف تستند إلى نوع التجارب المؤلمة التي نختبرها، فالتعاطف شعور منحاز كغيره لكلّ ما يشبهنا، منحاز لألم المجتمع الذي ولدنا ونشأنا فيه، لكلّ من يصارع معاناة أصابتنا يوماً ما أو همّاً ما نزال نحمله اليوم.

كي يكون التعاطف صادقاً لا بدّ أن يولد من الوعي العميق بالمعارك الداخلية للآخرين، وبترابطنا الإنساني وتشابه مخاوفنا.

حين وصلت إلى ألمانيا كان عليّ أن أتقبّل أنه من الصعب على الألمان، مهما ازداد عدد السوريين في أرضهم ومهما نقل الإعلام من صور الحرب إلى شاشاتهم، أن يفهموا مشاعر ناتجة عن تجارب لم يعيشوها ولم يقتربوا من قسوتها، وأنه عليّ أن أجد لنفسي دائرة صغيرة من السوريين نتبادل فيها التعاطف الإيجابي، لنتخطّى صدماتنا النفسية أو نستمر بالمحاولة معاً. وأؤكد اليوم أنه كان بإمكان الغربة التهامي فريسة مثقلة بالألم لو لم أحتمِ بظل تلك الدائرة، التي لم يكن من السهل إيجادها في عالم يحاول الجميع فيه أن يظهر بصورة مثالية وإن كان على حساب انهياره الداخلي.

حين وصلت إلى ألمانيا كان عليّ أن أتقبّل أنه من الصعب على الألمان، مهما ازداد عدد السوريين في أرضهم ومهما نقل الإعلام من صور الحرب إلى شاشاتهم، أن يفهموا مشاعر ناتجة عن تجارب لم يعيشوها

غير أن الغربة كان لها أثر مختلف بما يتعلّق بالتعاطف، فاختلاف التجارب والحلقة الاجتماعية التي نحتك بها يوسّع مقدار فهمنا للحياة بالمجمل وللظروف التي قد يعايشها الآخرون حولنا وبعيداً عنا. تجبرنا الغربة على الخوض في تجارب غير نمطية بالنسبة لنا كعرب، وعلى العمل أحياناً في مجالات مختلفة عن اختصاصاتنا، وبناء علاقات اجتماعية مع أشخاص من خلفيات فكرية مختلفة، تفتح أعيننا على نظرة جديدة للحياة.

الغربة لا تقلّل من انحيازنا العاطفي تجاه كلّ ما هو مرتبط بالوطن الذي ولدنا فيه، ولكنها تفسح مجالاً لحركة العاطفة خارج حدود انتماءاتنا.

كثيراً ما تضعنا الغربة في مواجهة اضطرارية مع أنفسنا، تدعونا للجلوس على طاولة واحدة مع مشاعرنا ومخاوفنا ومع صورة الأنا الغير واضحة، وكلما استجبنا لدعواتها أصبحنا أكثر جاهزية للاعتراف بضعفنا الذي نتشاركه كبشر. لا يمكن أن نصل إلى التعاطف مع الآخرين إلّا عن طريق قبول الألم كجزء من التجارب الإنسانية لا كحالة فردية موجّهة ضدّنا، ومن خلال الاعتراف بعدم تفوقنا على الآخرين، إلّا بالحظوظ أحياناً.

للتعاطف عدوّ لدود وصديق زائف "العنصرية والشفقة"

لا تخلو حياة أيّ سوري من موقف عنصري واحد على الأقل، وإن كان على شكل خبر عابر يقرأه صباحاً وهو يتصفح المستجدات على الإنستغرام.

تطفئ العنصرية لهيب التعاطف وتحوّل مأساة الآخرين إلى فرصة للاستهزاء بمشاعرهم وتعزيز فكرة التفوق عليهم.

في السنوات الأولى من الغربة اعتدنا تبادل عبارات عديدة للتخفيف من أثر العنصرية التي نواجهها بسبب اللّغة الألمانية، "خليهم يجربوا يتعلموا عربي!" لا أذكر عدد المرات التي سمعت فيها هذه العبارة، كنا نقولها بغضب وحزن وسخرية بسبب عدم تفهّم الألمان صعوبة العيش في بلد غريب ولغة جديدة، وجعلهم لهذه التجربة أكثر قسوة بتعليقاتهم ونظراتهم المتعالية.

تطفئ العنصرية لهيب التعاطف وتحوّل مأساة الآخرين إلى فرصة للاستهزاء بمشاعرهم وتعزيز فكرة التفوق عليهم. لا تختلف الشفقة كثيراً عن العنصرية بما تنطلق عنه من أفكار، وفي الوقت الذي يجعلنا فيه الألم نشكّك بذواتنا وقدراتنا وحقنا بظروف أفضل، يكون آخر ما نحتاجه هو من يؤكد على تفوقه علينا بالإشفاق.

معك حق تتعب

يشبه التعاطف التربيت على كتف صديق بعد خيبة، ويشبه يداً تمتد لنا بلطف وترفعنا بعد السقوط، عناقاً طويلاً صامت.

التعاطف لا يقلّل من أهمية أو قيمة أيّ طرف إنمّا يكوّن العلاقات الحقيقية والصادقة. رغم أن هذه العاطفة قد تبدو للبعض ردّ فعل طبيعي في بعض المواقف، فإن قلّة من الناس قادرون على منحها وكثراً من هم بحاجة لها. لا تستخفّوا بحاجة الإنسان للحديث عن مشاعره دون خوف من نظرات الشفقة أو التقليل من قيمته، إلى من يعطيه الحق بعيش ألمه، إلى من يخبره بأنه: "معك حق تتعب" دون مزايدات.

هل كثير على الإنسان أن يجد من يحدّثه عن ألمه؟ وإن كان كلّ ما بإمكانه أن يقدمه له كلمتي"معك حق" تجعل من مشاعره مرئية يمكن التعامل معها ومن ألمه قيداً ضعيفاً يمكن التحرّر منه.

ندرك حجم المخاوف والصراعات التي يخوضها الإنسان يومياً مع ذاته، وأننا جميعاً نحاول النجاة، كلّ منّا بطرقه الخاصة التي قادته إليها الحياة

في الحياة أوجه عديدة للألم، قد تختلف الأوجه التي نصادفها في تجاربنا، لكننا جميعاً ندرك كيف يمكن للظروف أن تبني الإنسان أو تحطّمه، ندرك حجم المخاوف والصراعات التي يخوضها الإنسان يومياً مع ذاته، وأننا جميعاً نحاول النجاة، كلّ منّا بطرقه الخاصة التي قادته لها الحياة. إن كنّا عاجزين عن تعطيل مسبّبات الألم، فلسنا عاجزين عن تهدئة الوحوش الداخلية للإنسان بالإنصات والتعاطف.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard