ألمانيا دولة باردة في تفاصيلها قبل مناخها، في تحرُّك الأحداث وإنهاء المعاملات وتفاعل الشعب والعواطف.
يأتي عيد الميلاد "الكريسماس" ليحرّك الماكينات الألمانية خارج روتينها المعتاد، ويضفي هيئة الحياة على المدن.
يُعطى هذا العيد حجماً وقيمةً كبيرين في هذا البلد، ويبدأ التجهُّز له في وقت مبكّر مقارنة مع الدول الأوروبية الأخرى، مما قد يجعل من الشهر الذي يسبق ليلة الميلاد الشهر الأكثر دفئاً من كلّ عام، معنوياً لا أكثر.
يجعلك الازدحام في الشوارع الممزوج بروائح الحلويات والنبيذ والمزيّن بالأضواء واللون الأحمر تشعر بحرارة عالية تدفئ روحك، رغم إدراكك بأن معظم المشاركين فيه يكادون لا يذكروا السبب الأساسي والمعنى الروحي خلف هذه المظاهر.
كان قضاء الميلاد في ألمانيا للمرّة الأولى كجميع الأحداث الأخرى الأولى في الغربة، تجد نفسك في وسط الحدث غير مدرك تماماً لما يجري حولك ولحقيقة مشاعرك، تُؤخذ بالتوهّج والاختلاف وتغمرك رغبة خادعة بتأجيل وتجاهل آثار الصدمة.
تزيين شجرة الميلاد كان حدثاً عائلياً عاطفياً لم أكن أتخيل إنجازه يوماً وحيدة
هذا التميّز الذي يحظى به عيد الميلاد عن بقيّة الأعياد ليس أمراً خاصّاً بألمانيا، بل لطالما كان عيداً منتظراً لدينا منذ الطفولة، مع اختلاف التفاصيل والمظاهر والمشاعر التي كانت ترافقنا. تزيين شجرة الميلاد كان حدثاً عائلياً عاطفياً لم أكن أتخيل إنجازه يوماً وحيدة.
كذبة بابا نويل التي كشفناها في سن مبكّرة وبقينا متعلّقين بها على أمل الحصول على هدايا أكثر وأكبر قيمة، ومغارة الميلاد وأغانيه المبهجة وأفلامه، وزيارات الأقارب، وغيرها الكثير من التفاصيل العالقة في ذاكرتنا التي تمثّل ما تبقّى لنا من الوطن، وما يشكّل ثقلاً علينا في الغربة.
يصعب التعامل مع الأحداث التي تثير ذكريات مرتبطة بالوطن دون الشعور بالحسرة والفقدان، وربما تجعلنا أسعد الذكريات نتحول إلى أتعس حالاتنا بسبب فقدانها بلا عودة. لكن كل هذا لا يحدث إلّا بعد استيقاظنا من الصدمة.
تحضيرات الميلاد في الغربة
أصررت هذا العام على شراء بعض القطع الجديدة لزينة الميلاد، رغم أن غرفتي الجامعية تكاد تنفجر من كمية الأغراض الزائدة عن استيعابها.
أعبّئ زينة الميلاد بعد انتهاء العيد في علب وأضعها تحت الفراش، فأنام على أحلامي غير المحقّقة.
لدي شجرة صغيرة وبضع كرات أضعها على طاولتي الصغيرة منذ ثلاث سنوات. في المرّة الأولى التي وضعت فيها شجرة الميلاد تلك، انتابني شعور بالارتباك، فقد كانت المرّة الأولى ليس منذ وصولي ألمانيا فحسب، إنمّا منذ مغادرتي منزلنا في حلب، مدينتي السورية.
سنوات الحرب والتنقّل من مدينة إلى أخرى قضيناها جميعها بلا أعياد حقيقية، أعيادنا كانت منتقصة الزينة والأقارب والأمان والراحة النفسية.
تعلمت أشياء كثيرة من السكن وحدي في ألمانيا وأعجبت بها، كتركيب وإصلاح كلّ قطعة في المنزل دون طلب المساعدة، كإمكانية اختيار الأغنية المناسبة لمزاجي لتصحب فنجان قهوتي، كأن أضيء شمعة في صمت لا يمكن لأحد أن يخترقه سواي، وكأن أعبّئ زينة الميلاد بعد انتهاء العيد في علب وأضعها تحت الفراش، فأنام على أحلامي غير المحقّقة، حتّى أعيد إفراغها في العام اللاحق مضيفةً إليها قطعاً وأحلاماً جديدة، على حسب ميزانيتي وخيباتي.
اليوم الأول لبابا نويل
قبل كتابتي هذه الأسطر التقطت صورتي الأولى مع بابا نويل، إحدى القطع الجديدة لهذا العام. يختلف معنى العيد داخل جدران غرفتي عمّا هو خارجها. هنا لست إلّا فتاة سورية تحاول إيجاد مساحة تشبهها وتحاول التصالح مع مشاعر الغربة والإخفاق والوحدة.
أنا كائن لا يُجيد التعامل مع الذاكرة، لذا أجد نفسي أُقحم الوطن في كلّ شيء، ولا أستطيع العيش خارج حدود جنسيتي وما ورطتني به من مشاعر، ولا أملك ما أحتمي به منها سوى الكتابة.
على ما يبدو، لست الوحيدة غير القادرة على تجاوز عادات الوطن، فرغم محاولة معظم السوريين الاندماج مع الألمان، لا يقضي الكثيرون أعيادهم إلّا ضمن التجمّعات السورية المشابهة لما اعتدنا عليه. تقام الحفلات العربية في جميع المناسبات في مدن عدّة من ألمانيا. داخل صالة الحفل تنسى لساعات أنك تعيش في ألمانيا، تعود في الزمن إلى سوريا القديمة، تقابل الكثير من المعارف، ترقص وتشرب وتغني.
ربما تذكّرك إحدى الأغنيات التي تُحيّي بكلماتها الرئيس، أو باجتهاد شخصي من المطرب بالسياسة والحرب، فتقرع كأساً أخرى تظن أنك تنتصر به على جميع الخلافات السياسية، وكأساً إضافية لتكون لليلة واحدة بلا قضية وبوطن زائف بحجم صالة الحفلات.
إن كان لي القدرة على طلب أمنية في ليلة الميلاد، فسأرجو من المجتمعات الموشكة على خوض الحروب ألّا تبني عادات سعيدة لأبنائها
أحب أعياد الميلاد في ألمانيا، لكن أشياء كثيرة تقف أمام اكتمال سعادتي بها، ربما يكون القسم الأكبر منها متعلّقاً بعدم تقبّلي ما أصاب حياتنا وما أُجبرنا عليه، وبشعوري بالانفصال عمّا يحدث خارج جدران منزلي. الحرب والغربة صنعتا منّا مزيجاً من القوة والضعف، مزيجاً يدعو للفخر والبكاء في آن واحد. إن كان لي القدرة على طلب أمنية أو رجاء في ليلة الميلاد، فسأرجو من المجتمعات الموشكة على خوض الحروب ألّا تبني عادات سعيدة لأبنائها، ألّا تبني العادات مطلقاً، فمن قال أننا نشتاق فقط إلى اللحظات السعيدة. نحن مخلوقات تحنُّ لكلّ شيء، وإن كانت اللحظات الأكثر قسوة. المهم أن نكون قد اعتدناها.
أذكر لحظة انتهاء الأعياد بالنسبة لي، حين قرّر والدي الامتناع عن استقبال الأقارب في بداية الحرب: "العالم عم يموتوا، أنا ما رح أعيّد ولا رح أستقبل حدا".
لا أعلم إذا كانت الأعياد في سوريا اليوم تشبه ما كانت عليه قبل بدء الحرب، لكنني أذكر لحظة انتهاء تلك الأعياد بالنسبة لي، حين قرّر والدي الامتناع عن استقبال الأقارب في بداية الحرب بقوله: "العالم عم يموتوا ببلدنا، أنا ما رح أعيّد ولا رح أستقبل حدا".
وما زلت إلى اليوم أبحث عن توازن بين سعادتي وحزن كلّ إنسان آخر، في بلدي أو خارجه، وكأنني أحمل جميع القضايا على كاهلي. وأشعر أن آثار الحرب حين تبدأ بداخل الإنسان لن تصل إلى نهايتها يوماً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 10 ساعاتمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Tester WhiteBeard -
منذ يومtester.whitebeard@gmail.com
Ahmed Adel -
منذ 3 أياممقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ أسبوععزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ أسبوعلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعاخيرا مقال مهم يمس هموم حقيقيه للإنسان العربي ، شكرا جزيلا للكاتبه.