لطالما عرف لبنان هجرة أبنائه إلى الخارج، واليوم يتزايد خروح اللبنانيين من بلدهم بسبب الأزمة الاقتصادية والصعوبات المعيشية. يرحل شباب لبنان وشاباته بحثاً عن مستقبل أفضل.
وبيّنت دراسة أجرتها شركة "الدولية للمعلومات" أن "عدد المهاجرين والمسافرين اللبنانيين في عام 2021 بلغ 79 ألفاً و134 شخصاً، مقارنة بـ17 ألفاً و721 شخصاً في عام 2020، أي بنسبة ارتفاع تبلغ 346 بالمئة". هؤلاء هاجروا تاركين خلفهم أهلاً، وأصدقاء، وعلاقات حبّ فرُض عليها البعد عنوةً.
نضال لإنجاح العلاقة عن بُعُد
بعد محاولات عدة للحصول على عمل في الخارج، وجدت رولا (31 عاماً) فرصة للعمل كمسؤولة امتثال في شركة مالية في أمستردام، ما دفعها إلى المغادرة عام 2020 تاركة خطيبها بسام في لبنان، لأنه لم تتسنّ له المغادرة معها بسبب عدم قبول استقالته من عمله في إحدى مؤسسات الدولة اللبنانية.
هكذا، بعد ست سنوات من الحب، تحوّلت علاقتهما إلى علاقة عن بعد. "لم يكن الأمر سهلاً"، يؤكد بسام لرصيف22، "إنما ما يُخفف عنّا، هو أن قرار مغادرة لبنان هو قرارنا نحن الاثنين. وعلى الرغم من أن الظروف أجبرتنا على البعد، إلا أننا في نهاية المطاف سنلتقي من جديد".
ويضيف الشاب أن "عيش علاقة عن بعد لمدة سنتين أو ثلاث سنوات هو بمثابة ثمن ضئيل يجب دفعه والتضحية به من أجل العيش معاً بسعادة خلال الـ40 عاماً المقبلة. ففي اللحظة التي تُقبل استقالتي، سأسافر على أول طائرة لنعيش أنا ورولا معاً".
رولا وبسام مؤمنان بأنهما قادران على تذليل الصعوبات الناجمة عن البعد، ولكن هذا لا ينفي وجود هذه الصعوبات. في بعض الأحيان، يشعر بسام بالوحدة بينما رولا غارقة في عملها، الأمر الذي يزعجه كثيراً ويشعره ببعدها عنه. لمقاومة هذه المشاعر، يستعيد من شريط ذكرياته اللحظات الحلوة بينهما، وكيف كانا يمضيان معظم أوقاتهما سوياً، يضحكان ويتسليان.
سنتان مرّتا، ومنذ ذلك الحين لم تتمكن رولا من زيارة لبنان ولم يتمكن بسام من السفر إليها. لم يكن أمامهما سوى تمضية الوقت افتراضياً. وحتى هذا الحل كان صعباً في بعض الأحيان بسبب كثرة الانشغالات.
يُقال "البعد جفى"، لكنه بالنسبة إلى الثنائي أكثر من ذلك. كل حديث معرض لسوء الفهم. حتى الصمت قد يُساء فهمه في بعض الأحيان. "أذكر أنني فشلت مرة في الانتباه إلى هاتفي، ولم أقرأ رسائل أرسلتها إليّ، فظنت أنني أحاول تجاهلها وغضبت"، يقول بسام ويتابع: "ما يزيد الأمر صعوبة هو أن الحياة بيننا تحوّلت إلى رسائل إلكترونية تلتهم المشاعر والمعاني!".
"في لبنان، عندما كنا نختلف، كانت قبلة تكفي لتبريد الأجواء المشحونة. أما عن بُعُد، فلا نملك هذا الخيار، ما يقلص دور المشاعر في تعزيز العلاقة وتصحيح أي خلل يعتريها. وكلما شعرنا أن الأمر يتجه للتعقيد، نؤكد لأنفسنا أننا سنرى بعضنا البعض قريباً وأن خوض هذه التجربة هو شيء يجب القيام به حالياً لأننا راغبان في الاستمرار رغم كل المعوقات"، يقول بسام.
برأيه، التواجد الجسدي والروحي والعقلي ضروري للغاية ولا شيء يضاهي رؤية مَن تحب أمامك، تغمره بحنان، تقبّله بشغف.
"أشعر بالوحدة في بعض الأحيان"، يتابع، "لكننا راضيان بهذا الوضع". لا يفكّر في الخيانة. يقول: "من غير العادل ولا المقبول أن تكون خطيبتي خارج الوطن تعمل لأجل مستقبلنا وأنا أبحث عن ملذاتي الشخصية هنا".
"كنا ملتزمين ببعضنا البعض وملتزمين بما يجمعنا، وكنا معاً خلال السنوات الست الماضية، ولديها ثقتي الكاملة! لن يعطيني أحد المشاعر التي تمنحني إياها"، يضيف، مؤكداً: "لو كانت الغيرة قائمة والثقة مهزوزة لما كنت تحمّلت فكرة وجودها لوحدها في بلد غريب".
حتى الآن، نجحت محاولات بسام ورولا لإبقاء علاقتهما على قيد الحياة، لكن لا يمكن القول إن الامتحان انتهى قبل أن يلتقيا في مكان واحد، ولا تزال أمامهما تحديات كثيرة.
المسافات البعيدة تقتل العلاقات
الحب عابر للأوطان وقادر على اجتياز المسافات. هكذا نشاهد في الأفلام. لكن ما حصل مع محمد وميساء كان غير ذلك، وقد يُعطينا صورة واضحة عن الصعوبات التي تواجه العلاقة العاطفية عن بعد.
"كنا في علاقة لمدة ست سنوات، سنتان منها عن بعد وهي التي كانت كفيلة بأن نتحول من أحباب إلى أعداء". هكذا يلخّص محمد ما جرى مع حبيبته السابقة ميساء.
"قضينا أربع سنوات في البلد نفسه"، يروي لرصيف22، "أمضينا فيها أجمل أيام، لحظات مفعمة بالحب، التفاهم، والشجار. لكن حتى المشاكل التي كانت نادراً ما تحدث، كان لها طعم آخر وكانت وسيلة لتعزيز الحب. كل هذا تغير في تاريخ 14 آب/ أغسطس 2018 عندما قررتُ حمل باسبوري الفلسطيني ومغادرة لبنان بعد حصولي على عقد عمل بحثاً عن مستقبل أفضل في ألمانيا".
"عيش علاقة عن بعد لمدة سنتين أو ثلاث سنوات هو بمثابة ثمن ضئيل يجب دفعه والتضحية به من أجل العيش معاً بسعادة خلال الـ40 عاماً المقبلة"
ودّع محمد حبيبته اللبنانية فرحاً بمغادرته لبنان، وحزيناً لاضطراره للبعد عنها. يقول: "كنت أعرف صعوبة المغادرة، ولكنني لم أتخيل الوضع. عشتُ متوتراً جداً حائراً بين تعلم اللغة، ومحاولة تدبر أموري بمفردي، في بلد غريب لا أعرف فيه أحداً ولا أحد يعرفني. كانت تجربة صعبة".
في بداية الرحلة، كان الحبيبان يتحادثان بشكل شبه دائم، حتى أنهما كانا يخصصان عطلة نهاية الأسبوع للتحدث سوية، لكن مع الوقت بدأت الأمور تتغير.
"الروتين الافتراضي كان قاتلاً"، يشرح. "قلّ التواصل بيننا كثيراً إذ لم نكن نجد شيئاً لنتكلم عنه، وأصبح كل منّا يفضّل تمضية وقته مع أصدقاء غير افتراضيين مما زاد شعور الغيرة لدينا نحن الاثنين. صرتُ أنا أغار من وقتها الذي تمضيه مع أصدقائها بدلاً من التحدث معي وهي أيضاً تشعر بالمثل، فبدأت شرارة الحبّ تتلاشى تدريجياً، ولم تنفع محاولات إحيائه من خلال زيادة التواصل، ولا محاولة إرسال الهدايا إلى مكان عملها لمفاجأتها، ولا حتى الجنس الافتراضي".
كان البعد كارثياً على الثنائي، وارتفعت وتيرة المشاكل بينهما حتى وصلت الرحلة إلى النهاية. في ليلة الانفصال، يروي محمد، "اتصلت بي ميساء باكية، ضائعة وحائرة، وقالت لا أعرف ما إذا كان بإمكاني المواصلة، لا أعرف لماذا قلت إننا سنحاول ذلك، لا أستطيع، أنا لا أستطيع، أنا لا أعرف حتى ما أريد".
شعر الشاب بأن الكون يضيق عليه، بحسب تعبيره. أخبرها أنه يحبها، ودموع غزيرة تنهمر من عينيه لشعوره بأن هذه النهاية، لكنه لم يتمكن من الخروج من العلاقة برقيّ. يعترف: "تفوهت في هذه اللحظة بكلمات جارحة، واتهمتها بأنها لا تعرف طبيعة علاقتنا ما هي، وبأنني لم أعد أعني لها شيئاً، وهي قالت إنها بحاجة إلى وقت تمضيه مع حبيبها، وتحتاج لأن تشعر بكيانه ووجوده قربها، فلم يكن يكفيها الحب عن بُعُد". انتهت العلاقة.
زواج رغم السفر
عاش شادي وريم علاقة حب لمدة تسع سنوات. بدأت علاقتهما عام 2013 حين كان شادي في السعودية، وبعدها بعام اجتمعا لمدة سنة في لبنان، من ثم، قررت ريم متابعة دراسة الماجيستر في فرنسا، فسافرت.
"واجهنا مصاعب كثيرة. البعد لم يكن سهلاً ولكن قناعتنا ببعضنا، مشاعرنا وحبنا، لم يتأثروا أو يتغيروا"، يقول شادي لرصيف22، معتبراً أن "البعد لم يكن سبباً للافتراق، لكنه أثار تساؤلات عديدة حول قدرتنا على الاستمرار".
"صرتُ أغار من وقتها الذي تمضيه مع أصدقائها بدلاً من التحدث معي وهي أيضاً تشعر بالمثل، فبدأت شرارة الحبّ تتلاشى تدريجياً، ولم تنفع محاولات إحيائه من خلال زيادة التواصل، ولا محاولة إرسال الهدايا إلى مكان عملها لمفاجأتها، ولا حتى الجنس الافتراضي"
سنوات ريم الست في فرنسا قضتها بين الدراسة لعامين وأربعة أعوام في العمل. لم تتردد ثانية في زيارة لبنان كلما تسنت لها الفرصة، وكانت تحجز موعد العودة مع بطاقة الرحيل، ما خلق شعوراً بالارتياح كون موعد اللقاء كان محدداً.
في زمن الكورونا وإقفال المطارات، تبدّلت خطط ريم المستقبلية. تقول لرصيف22: "كانت الجائحة نقطة تحوّل في حياتي، فبعد أن سُجنت في منزلي في فرنسا لمدة عام كامل، قررتُ البحث عن عمل في لبنان والعودة إلى بلدي وأهلي وخطيبي، ورغم صعوبة هذا الأمر في زمن الانهيار الذي نعيشه، كان الأمل أكبر".
عادت ريم إلى لبنان بعد ست سنوات من البُعُد عن شادي، وقررا الزواج وسيتزوجان قريباً.
رغم البُعُد والمسافات والطموحات، يمكن للحب أن يصمد، متى توفرّت إرادة البقاء معاً، والتواصل الدائم والمفيد، وابتعد الشريكان عن كل ما يمكن أن يخلق صراعات قد لا يكون حلها ممكناً عن بُعُد. وبحسب الثنائي، "فرض علينا البعد جسدياً وجهدنا لمنع ابتعاد الروح، وهذا سبب نجاح علاقتنا".
تحديات كثيرة
صعبة هي العلاقات عن بعد، لأن عدم تواجد الطرفين في مكان جغرافي واحد يمنعهما من العيش سوية وإبقاء شعلة الشغف مشتعلة.
تحديات كثيرة يواجهها هذا النوع من العلاقات، بحسب الاستشاري ومدرب العلاقات الدكتور جيروم ضاهر. يقول لرصيف22: "التواصل ليس لفظياً فقط، بل جسدي أيضاً وهذا الجزء غير موجود في العلاقة عن بعد، ما يتسبب بسوء فهم ومشاكل كثيرة".
ويشير إلى تحديات أخرى مثل "معرفة الآخر، أي فهم ردات فعله، حالاته النفسية، تعامله مع عائلته، أصدقائه"، وغياب "الحميمية أي التقارب الجسدي والفكري".
وبحسب ضاهر، قد تسبب العلاقة عن بعد قلة ثقة، وشكوكاً كثيرة وتخيلات تخلق الكثير من المشاكل، ولو كانت عارية من الصحة، "فالثقة أساسية جداً للاستمرار".
ويلفت ضاهر إلى أن "التعامل مع علاقة عن بعد يتطلب مجهودات كبيرة وتأقلماً وتنظيماً، أي تحديد أوقات يتواصل فيها الطرفان، والاتفاق على مواضيع للتحدث بها، وليس فقط ‘كيفك وكيف نهارك؟’، بل فتح مواضيع عميقة ونقاشات تعزز التواصل، كما تحديد أوقات للمرح الذي يقرّب الثنائي من بعضه، مثلاً اللعب أونلاين، مشاهدة فيلم أو حتى الطبخ سوياً وأكل الطعام افتراضياً لأن الطعام يُشعر الإنسان بالراحة مما يدفعه إلى فتح مواضيع يتجنب عادة فتحها".
عادة ما يكون الإنسان أسير عاداته. وبحسب ضاهر، فإن "الاعتياد على التواصل عبر الهاتف، أو أونلاين، والقيام بالأعمال بنفس الطريقة، يسهّل على الشخص الدخول في علاقة عن بُعُد، وهذا الأمر قد يكون أسهل لمَن خاض تجربة مشابهة مع أحد والديه على سبيل المثال، وقد يكون أصعب لمَن يختبر هذا النوع من العلاقات للمرة الأولى، إذ سيصيبه الملل، ولن يكون قادراً على مجاراة ما تتطلبه هذه العلاقة، أو إذا كانت طبيعة الإنسان ترفض البعد".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ اسبوعينلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...