اقتلعت من جذوري مرّة ولم أكن أُمًّا حينذاك. وحالما بدأت أمد جذوري في أرض أخرى، اجتثتها الغربة المرّة تلو المرة، ثم صرت أُماً بلا جذور.
هاجرت صديقتي زهرة قبل سنوات وما زلت أتذكر ذلك اليوم جيداً، عندما حزمت معها حقائب السفر. اشترت زهرة حقائب حمراً لامعة تستمد منها الدفء في بلاد الثلج، وضعت فيها كل شيء كان في منزلها، أحكمت إغلاقها بشدة غير مبررة- على الأقل بالنسبة لي- ولمّا لمحتْ في عيني تساؤلاً، قالت: "علّ الذكريات لا تنفرط في الهواء". وفي تلك اللحظة بالتحديد انفطرت زهرة في البكاء حتى ذبلت تماماً وهي تنظر لطفلتيها الرضيعتين.
ماذا تفعل الغربة بالأمهات المهاجرات المسافرات دوماً؟ اللواتي يُقتلعن من جذورهن رغبة منهن أو رغماً عنهن؟
تشكلهن الغربة من جديد، تطبعهن بطابع الوحدة وأحياناً التيه، مهما كان الزوج داعماً ومسانداً. حكاية زهرة هي حكاية آلاف الأمهات التي طحنتهن الغربة مع أطفالهن، طحنهن الحنين والتعب والتحمل ومحاولات التكيف والاندماج المستمرة.
ماذا تفعل الغربة بالأمهات المهاجرات المسافرات دوماً؟ اللواتي يُقتلعن من جذورهن رغبة منهن أو رغماً عنهن؟
لدى زهرة طفلتان، حملتهما وهاجرت وزوجها من بلد لبلد سعياً وراء لقمة العيش، وفي كل مرة تلملم ذكرياتهما وتوضب سنوات عمريهما في حقائب السفر.
تحاول غرس بذور ذكريات أخرى في بلد جديدة، وبينما يفلح ذلك مرة يفشل عشرات المرات. لا يمكنك أن تضمن خصوبة التربة لتزهر في كل أرض تطأها قدماك… لا يمكنك أبداً.
معارك يومية لا تنتهي
وقع على عاتق زهرة طبخ ذكريات طفلتيها مثلما تطبخ طعامهما كل يوم ولم يكن ذلك سهلاً على الإطلاق، لم يكن لدى زوجها الوقت سوى للبحث والركض خلف فرص العمل وكسب العيش.
في الغربة أنت تقاتل دائماً لتحافظ على ثباتك، ما بالك أيضاً لو لم يكن لديك وطن حقيقي لتعود إليه؟!
في الغربة أنت تقاتل دائماً لتحافظ على ثباتك، ما بالك أيضاً لو لم يكن لديك وطن حقيقي لتعود إليه؟!
لم تعرف طفلتا زهرة معنى الجذور وكان ذلك أكثر ما أوجعها، هي حاولت مراراً، أرتهما الصور، حدثتهما عن الذكريات، حكت لهما حكايات الجدات، بحثت عن تجمعات عربية من نفس وطنها، ولكن ماذا بعد؟ كانت الصغيرتان تهزان رأسيهما وتركضان بحثاً عن ثقب إبرة أو متسع لهما في المجتمعات الجديدة التي تنتقلان إليها واحداً تلو الآخر.
عندما سافرت زهرة كانت ابنتاها دون 40 يوماً، وبمجرد أن حطت الطائرة، بكتا فبكت ونظرت إليهما بحيرة وهي تتساءل، ماذا الآن؟ ماذا أفعل؟ إنه الشعور بالتيه والعجز.
في الغربة لا وقت للتعب، لا وقت للضعف، ولا بديل للأم، لا يمكنها أن تسقط لأن هناك من يتكئ عليها كل يوم، كان عليها أن تجتر القوة كما تجتر الذكريات، وهكذا كان.
خاضت زهرة معاركها اليومية ليتقبل المجتمع طفلتيها ويدمجهما، معارك مع أساليب التربية ومعارك مع اللغة المختلفة ومعارك مع الهوية. ومعارك مع الوصم والخزي ومعارك مع الرفض ومعارك أخرى مع القبول والانفتاح، معارك لا تنتهي كل يوم وكل صباح ومساء.
في الغربة لا وقت للتعب، لا وقت للضعف، ولا بديل للأم، لا يمكنها أن تسقط لأن هناك من يتكئ عليها كل يوم
أخبرتني زهرة في محادثتنا مرّة أنه صار لديها ثماني أذرع كالأخطبوط وصارت ممثلة بارعة، ضحكت وتنهدت قائلة: "الأم في الغربة ليست أُماً فقط بل هي عائلة بأكملها، هي أم وجدة وعمة وخالة وصديقة، وكمْ يبدو ذلك مرهقاً عندما يُعاد من أول وجديد في كل اغتراب"، ولكن عليها أن تضع على قلبها حجراً لتستمر.
محاولات صنع الذكريات
الأمهات في الغربة هن وحدهن مصنع الذكريات، حقيقة لا مفر منها، أخبرتني زهرة أن الأم المغتربة تعيش كل اللحظات الأولى بمفردها مع طفلها وإذا لم توثق هي هذه اللحظة فلن يفعل أحد ذلك! لذا فهي مهووسة بتوثيق كل ما يخص طفلتيها في ألبومات مصورة ومذكرات وحقائب صغيرة.
ذات يوم استيقظت زهرة هلعة، حدثتني وهي تبكي لكابوس يطاردها منذ عدة أيام ترى فيه أن حقائب الذكريات تلك تنفرط في الهواء وهي تركض لاهثة بغية أن تلحق بطائرة ما قبل أن تقلع.
بعد هذه المحادثة بعدة أيام مرضت زهرة وحُجزت بالعناية الحرجة بأحد المستشفيات، لم أعرف ذلك إلا بعدما تعافت جُزْئِيًّا وراسلتني، تحجرت الدموع في عيني عندما أخبرتني أنّه في الغربة تمرض وحدك وتشفى إذا قدر الله وحدك، تتألم وحدك وتفرح وحدك. في الغربة لن يطرق أحد بابك صباحاً ليسأل كيف حالك وإن فعلها مرّة فلن يفعلها ثانية.
في الغربة تمرض وحدك وتشفى وحدك، تتألم وحدك وتفرح وحدك. في الغربة لن يطرق أحد بابك صباحاً ليسأل كيف حالك
مرت الأيام والسنوات وجاءت زهرة في زيارة سريعة وخاطفة، تحدثنا وصنعنا المزيد من الذكريات التي ستجترها عندما تعود لغربتها، لكنها كانت فد تغيرت كثيراً، هناك وهج ما أنطفئ ودفء تسرب نقطة نقطة من قلبها حتى تجمد، لم تعد تبكي! أخبرتني أن مخزون الدموع لديها نفد بالكامل.
تحول مدهش وموجع بشخصيتها، ولكن هكذا تفعل الغربة بالأمهات كما أخبرتني، تشكلهن من جديد بعجين قاس وتضع مكان قلوبهن حجارة.
همست لي زهرة في صالة المطار إنها صارت تحمل الغربة بداخلها أينما حلّت، لذلك لا داعي للبكاء. فقد اعتادت برودة صالات السفر ولم تعد رائحة الحنين تبكيها، ثم نظرت بعينين زجاجيتين إلى طفلتيها وقالت، ربما من الجيد ألا يكون لهما جذور حقيقية، علّهما لا تشقيان مثلي باجتثاثها منهما يوماً بعد يوم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.