أسواق دمشق القديمة، بعددها البالغ 55 سوقاً، وبسقوفها المعدنية المقنطرة والمحدبة والهرمية، هي عالم عابر للأزمنة ولمواسم التسوق، عالم لا يشبه سوى رواده بتعدد أزيائهم، وأمزجتهم، ومقاصدهم.
تبدو دمشق وكأنها بلا نهاية، كلما كشف الزمن عن طبقة وشت بوجود طبقة سابقة لها، وتبدو وكأن قدرها هو التنوع، ومهما تعددت محاولات صبغها باللون الواحد إلا أنها ستعود لتنوعها الساحر والذي يرحب بأي غريب، فالغريب ليس غريباً في دمشق.
رصيف22 تجوّل في أسواق دمشق القديمة ورصد التنوع والسحر والطرافة والعراقة، وعاد بهذا التقرير.
باب شرقي
تقول لينا (35عاماً) إن شغفها بأسواق دمشق القديمة، غير مرتبط برائحة الماضي، وإنما نابع من تمرد الحاضر على الماضي: "أنا ابنة الشمال السوري، وصلت إلى دمشق مع عائلتي قبل ثماني سنوات، واتخذنا من حي الدويلعة الشعبي دار هجرة لنا، هذا الحي يبعد عن الباب الشرقي للمدينة القديمة مسافة عشر دقائق مشياً، من هذا الباب عبرت لأتعرف على سوريا من جديد".أسواق دمشق القديمة، بعددها البالغ 55 سوقاً، وبسقوفها المعدنية المقنطرة والمحدبة والهرمية، هي عالم عابر للأزمنة ولمواسم التسوق، عالم لا يشبه سوى رواده بتعدد أزيائهم، وأمزجتهم، ومقاصدهم
وتضيف: "لم تدهشني معروضات أسواق دمشق القديمة المغرية للتسوق، أكثر من العروض الإنسانية المتنوعة التي تمثل روح سوريا الحقيقية، هذه البانوراما اللامعقولة في زمن الحروب الأهلية،كشفت لي بأن الاختلاف هو الجوهر الحقيقي لبناء مجتمع إنساني موحد، كالذي تراه في هذه الأسواق على مدار الساعة".
النوفرة
بهذه الرؤية تختم لينا بعد أن شربت قهوتها في مقهى" النوفرة" الذي لا يفصله عن نهاية "سوق الحميدية" من جهة الشرق سوى جدران الجامع الأموي. على طاولة أخرى من نفس المقهى التقينا أحد تجار دمشق، الحاج مدحت "أبو يوسف" ( 65 عاماً)، يقول: "نحن تجار دمشق الأبناء الشرعيين لهذا التاريخ، لا نستطيع التخلي عن أصغر تفاصيله، فعلى سبيل المثال لن نستغني عن وجبة الغداء اليومية التي نتناولها في المحل مع كادر العمل مجتمعين، والتي لا بد أن تكون من سوق الأكل المشهور بجودة أطعمته وحلوياته الشامية، فهو درة حي القيمرية والامتداد الطبيعي للأسواق من جهة الشمال الشرقي من هنا".
تاجر دمشقي: "لا نستغني عن وجبة الغداء اليومية التي نتناولها في المحل من "سوق الأكل" المشهور بجودة أطعمته وحلوياته، فهو درة "حي القيمرية"
ويضيف: "كما لا أستطيع الاستغناء عن فنجان قهوة بعد صلاة الظهر في مقهى النوفرة، ولا بد أن أحضر إلى هنا كل مساء خميس للاستماع إلى حكواتي المقهى، توارثنا نحن الدمشقيون، هذه التقاليد، مثلما توارثت الأسواق أسماءها من انسجام معروضتها ضمن لون واحد لكل سوق، وتوارثنا نحن المهن، وألقابنا العائلية المعبرة عن مهنة كلّ منا أباً عن جد، وأيضاً توارثنا ملكية المحلات التجارية وكيفية التعامل مع الزبائن، واسترضاء أذواقهم، مما جعل من المهن في حالة من التجدد الدائم".
سوق الحميدية
ويضرب الحاج مثالاً "سوق الحميدية" الذي تباع فيه كل أنواع البضائع الحديثة من الألبسة الرجالية والنسائية والأحذية والبياضات، ومواد التجميل، أما المعروضات التراثية التي تُعرض في متاجره من المصنوعات النحاسية، والأربيسك، والمصدفات، والتحف والهدايا ومحلات البوظة الدمشقية ، فيقول إنها حافظت على الطريقة التقليدية اليدوية، التي اعتمدها الأجداد عند تصنيعها في الماضي.كثير من أسواق دمشق خرجت من تخصصها، ومن ضمنها سوق الحميدية، سألنا الحاج أبو يوسف عن السبب، فقال: "هناك عدة أسباب، منها الفضاء المكاني الذي لا يتمتع به سواه من الأسواق القديمة الضيقة، لأن طوله البالغ 600 متر ، وعرضه 15 متراً، يسمح للزوار بقضاء نزهة حقيقية متنوعة في ربوعه، فليس كل من يأتي إليه هو بقصد التسوق، ونحن التجار ندرك هذا، ولكننا نتعامل مع الجميع كزبائن، ونجيب أي شخص على أي سؤال، ونعرض لهم أية عينة يريدون مشاهدتها حتى لو كنا على ثقة بأن السائل لا يريد شراءها".
المناخلية والسروجية والقيشاني
أما السبب الآخر بحسب الحاج أبو يوسف فيعود يعود إلى أن المدخل الغربي للسوق هو البوابة التي يعبر منها الزائر إلى 21 سوقاً من الأسواق الاختصاصية الأخرى والتي هي بمثابة فروع له، منها: سوق المناخليه الذي يبيع مستلزمات البنائين والمعماريين والحدادين، والمناخل، وقد أخذ اسمه من مهنة صناعة غرابيل الرمل،والقمح، ومناخل الطحين. فأسواق دمشق تختلط فيها التجارة مع التصنيع، لهذا تُعتبر مدينة صناعية تجارية متكاملة.
كذلك سوق السروجية الذي يصنّع سروج الخيل، ومستلزمات زينتها ومعظم زبائنه من الرجال. وسوق القيشاني حيث تباع الكلف والأزرار والصوف المصنع وسواها، وأيضاً سوق العصرونية وهناك تباع مستلزمات المطابخ.
السبب في شهرة سوق الحميدية وخروجه من الاختصاص على غرار بقية الأسواق هو أن المدخل الغربي للسوق هو البوابة التي يعبر منها الزائر إلى 21 سوقاً من الأسواق والتي هي بمثابة فروع له
الحديث مع الحاج أبو يوسف الشغوف بمدينته وتاريخها لدرجة التطرف، يأخذنا إلى قصيدة للشاعر نزار قباني يقول فيها:
أنا الدمشقي لو شرحتم جسدي
لسال منه عناقيد، وتفاح
ولو فتحتم شراييني بمديتكم
سمعتم في دمي أصوات من راحوا
سوق العرائس
ودعنا الحاج أبو يوسف بابتسامته الهادئة، قاصدين "سوق العرائس" الذي يمكن الاستدلال عليه أيضاً بعيون النساء الدمشقيات، ولكن برؤيا أخرى، تقول الدمشقية ميرفت (40 عاماً): "نأتي إلى هذا السوق في مجموعات عائلية، ونصطحب بناتنا، كما تعودنا مذ كانت أمهاتنا وجداتنا يأتين بنا إلى هنا، ليس بقصد التسوق فقط، وإنما بقصد التعرف وجهاً لوجه على أناقتنا الأنثوية والارتقاء بها دائماً، نحن الدمشقيات نهتم بأنوثتنا لدرجة الهوس، ونعتبرها ميزة لا تشاركنا بها بقية النساء". خلال هذا الحديث يعلو صوت صاحب متجر مقابل لبيع الـ"لانجوري"، وهو يدعوهن للدخول: "تفضلوا يا ستات"، هذا السوق يعرف بسوق "تفضلي يا ست" وكأنه يستهجن وجود رجال هنا.
يعرف "سوق العرائس" الذي يبيع الملابس النسائية الداخلية والجهازات باسم آخر هو "تفضلي يا ست" كناية عن عدم ترحيبه بالرجال من بين زبائنهيقول محمد وهو مالك المحل فيه: "كما كل اسواق دمشق القديمة ، تراجعت القوة الشرائية لدى زبائننا بسبب الغلاء الذي لا يطاق،كما أن هناك سبباً آخر في تراجع المبيعات يعود إلى تراجع كبير في عدد السواح الأجانب بعد اندلاع الحرب، علماً أن أسواق دمشق القديمة بالكامل كانت بعيدة هي وزوارها، عن هذه الحرب التي أودت بمدن أخرى".
قبل أن نغادر هذا السوق نلتقي بسلوى (23 عاماً) وهي طالبة جامعية، تقول لرصيف22: "تتطور معروضات هذا السوق سنة عن سنة، الماضي هنا محصور بالبناء، أنا دمشقية ما زلت محافظة على الحجاب، ولكن بشكل يختلف عن خمار أمي، فالعصر يفرض ذوقه، لهذا يختلف ذوقي عن ذوق أمي في اختيار الألبسة، قد تكون معظم المعروضات الآن مأخوذة عن أزياء الغرب، لكنها ترضينا. في نفس الوقت فالتجار، ومصممو الأزياء يحاولون إرضاء أذواق الجيل الشاب، لكنهم لا يتجاهلوا أذواق أمهاتنا وجداتنا، وبهذا يكون التنوع والاختلاف ثمة أصيلة في السوق".
سوق مدحت باشا
في اليوم التالي ندخل إلى أسواق دمشق من الباب الشرقي، لنتعرف على سوق"مدحت باشا" بمعروضاته ذات الطابع الريفي فنجد فيه التمور، والزيوت، وصابون صناعة يدوية، ومنتجات الألبان، والسمن العربي، وجلود لأغنام بعد تأهيلها للاقتناء في البيوت الريفية، وأزياء شعبية نسائية ورجالية، وأحذية شعبية، وأخرى مصنوعة من البلاستيك، وعباءات صوفية وحريرية، وجلابيات، وغطاء الرأس العربي من مختلف الماركات والأنواع.الكثير من الرواد هنا يظهر على أزيائهم الطابع الريفي سواء كانوا رجالاً أو نساء، وتُسمع أصوات التجار وهم ينادون على بضائعهم، ويدعونك للدخول إلى متاجرهم، مذيلين نداءاتهم تلك بعبارة "تغطي يا بنت" كدعوة صريحة لارتداء الحجاب، حتى بات يعرف هذا السوق بسوق" تغطي يا بنت" ولكن هذه الدعوة، تبدو على سبيل المداعبة، أو الظرافة، وربما للتغزل بالنساء، فبائعي السوق، وكما بائعي الأسواق الأخرى في المدينة القديمة، لا يفرقون في تعاملهم مع النساء.
البزورية، سوق الحرير، سوق الصوف والخياطين
تتفرع عن هذا السوق أسواق تخصصية، هي بمثابة شرايين تصل الأسواق الأخرى ببعضها، منها سوق الحرير، سوق الصوف، سوق الخياطين، وأهمها سوق البزورية، وهناك تختلط أقدام الناس، وأزياء الزوار ولهجاتهم المختلفة مع رائحة التوابل، وصابون الغار، والأزهار والفواكه المجففة والأعشاب التي تستخدم للطب الشعبي.
يشتهر "مدحت باشا" بمعروضاته الريفية فنجد فيه التمور، والزيوت، وصابون صناعة يدوية، ومنتجات الألبان، والسمن العربي، والعباءات الصوفية والحريرية، والجلابيات، وغطاء الرأس العربي
يلتقي رصيف22 في "خان أسعد باشا" الذي يتوسط السوق، مديره السابق الدكتور والباحث التاريخي عبد الوهاب أبو صالح، الذي يزودنا بالمادة التاريخية الموثقة لأسواق دمشق القديمة: "يمتد سوق البزورية بين قصر العظم الذي بني عام 1749م، وبين سوق مدحت باشا، ويعود بناؤه إلى العهد الأيوبي، حيث كان يدعى سوق القمح، نظراً لتجارة القمح التي كانت تزاول فيه، ومع بداية العهد المملوكي تحول إلى اسمه الذي يُعرف به الآن".
ويضيف: "أما سوق مدحت باشا فقد شيد في العام 1878 في عهد الوالي العثماني الذي يحمل اسمه، ويمتد من باب الجابية إلى باب شرقي ومن المعروف بأن تاريخه الأقدم يعود بنا الشارع المستقيم العائد للعصر الروماني، وهناك دلائل كشفت عنها التنقيبات الأثرية، تشير إلى أنه يعود إلى تخطيط المدينة الأقدم في العصر الهلينستي. وسوق الحميدية، يعود بناؤه إلى العام 1780، وأخذ اسمه من السلطان العثماني عبد الحميد الأول".
حوريات الماء
يقع الجزء الغربي من سوق الحميدية على الخندق الجنوبي لـ"قلعة دمشق الأيوبية". أما الأعمدة التي تلامس نهايته من الجهة الشرقية، فتعود إلى معبد "الإله جوبيتر" الروماني، من النصف الأول للقرن الثاني الميلادي. أما" سوق الصاغة" وهو سوق المجوهرات الدمشقية فيعود تاريخه بنائه إلى العهد الأيوبي (1176-1260 م) وله أهمية أثرية أخرى، إذ تحت بلاطه البازلتي، يخفي سويات أثرية تعود إلى عصور وعهود متعددة. ومن المعتقد أن "قصر الخضراء: قصر الخليفة الأول معاوية ابن أبي سفيان" كان يمتد إلى هذا السوق، وقد كشفت التحريات الأثرية عن بقايا "النمفيوم" وهو معبد كان مكرساً لحوريات الماء خلال العصر الروماني.النساء اللواتي التقين بهن يشكلن الغالبية العظمى من رواد الأسواق الدمشقية القديمة، هنَّ الاستمرار المعاصر لأرواح حوريات الماء في دمشق، من هنا يستمد التاريخ أصالته ليكون حافزاً لحاضر ومستقبل أفضل، وتظل حوريات الماء هنّ مَن يعول عليهن لبناء مجتمع ما بعد الحرب في سوريا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 21 ساعةمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع