في مطعم وبار "أبو الزلف" الشهير في منطقة باب شرقي، قرب كنيسة الزيتون، وخلف المسجد المقابل لبارات أخرى -وهذا تناقض محمود لسكان البلاد القديمة- يتمثل عدم تقيّد السكان والمستثمرين بالقواعد القانونية التي تفرض افتتاح الملاهي على مبعدة من الكنائس والمساجد، ذلك أنّ الشام القديمة هي الشام القديمة، هي حيث يحب الناس بعضهم، وحيث يشترون الفرح حتى في أقسى ليالي الحرب التي مرت على العاصمة، مثل يوم كانت معارك جوبر محتدمةً على بعد كيلومتر واحد من "أبو الزلف"، وعلى بعد قذائف تنهمر على الشام القديمة. الحياة لم تتوقف، رغبة الناس في الحياة لطالما كانت هي الأقوى.
في "أبو الزلف"، تتموضع فوق طاولة، كؤوس المشروبات الكحولية لخمسة أشخاص يتشاركون سهرة ليلة الخميس، وكلّ خميس، إذ صارت "خميسات" البلاد لا تُحتسب في قائمة أيامها، فكدّ وجدّ وليالٍ موصولة بنهار في العمل المضني، حتى أنّ كل "المصالح" صارت مضنيةً تحت وطأة ارتفاع تكلفة المعيشة.
هناك في البار، تقف صبية تبدو في العشرين من عمرها، تتمايل هي وصديقها –أو عشيقها- لا أحد مهتم، على أنغام الموسيقى والأغاني التي لها طابع خاص في بارات دمشق القديمة. هي موسيقى وأغانٍ على شكل مزيج بين القديم والحديث وبلغات عدة عربية وأجنبية وبمختلف اللهجات، وأحياناً يحيي تلك الأمسيات فنانون أو dj.
وكأن العالم اختصر ذاته هنا في هذا المكان، وفي تلك الرقصة، ليس من حيث تنوع الأغاني وميلان الأصدقاء فحسب، بل تعداه الأمر إلى التنوع البشري الزاخر الذي يحضر في مكان السهر، نظراً إلى تمايز الشخصيات في ما بينها واختلاف الأفكار والمعتقدات والانتماء والطموحات والأحلام القريبة والبعيدة.
فلسفة الكأس
"قد نرى مثل هذه الأجواء في الكثير من البارات حول العالم، لكن الطابع الوجودي هنا لا يشبه غيره، دمشق القديمة بقعة جغرافية خارجة بحكايات مرتاديها من آهات الزمن. لا مكان للسلم والحرب هنا، فزيادةً على السهر والبهجة وتشارك القصص الحياتية، تتجلى هنا روح الإنسان بشخصيتها الحقيقة. كؤوس عدة من العرق أو النبيذ المعتق كفيلة بأن تعود بك إلى محور ذاتك، بعيداً عن تفاعلات وتأثيرات المجتمع والظروف الحياتية"؛ هكذا يصف هشام حسون (34 عاماً)، شاب من دمشق، لرصيف22، معنى التواجد الروحي -الطقسي- الاعتيادي في دمشق القديمة وبارات باب شرقي. هشام الذي يعمل استشارياً نفسياً، له طاولة محجوزة دائماً في هذا البار كل ليلة خميس، فبعد أسبوع من العمل والغوص في أعماق شخصيات مرضاه وقصصهم ومشكلاتهم الإنسانية الكثيرة، لا بد له -على ما يقول- من كسر دورة حياته بين العمل والمنزل، فيجد لنفسه مساحةً خاصةً للعودة إلى أعماق ذاته وتصفية ذهنه وشحن طاقته للعودة من جديد إلى نشاطه الاعتيادي الأسبوعي.
لا مكان للسلم والحرب هنا. كؤوس عدة من العرق أو النبيذ المعتق كفيلة بأن تعود بك إلى محور ذاتك، بعيداً عن تفاعلات وتأثيرات المجتمع والظروف الحياتية
هذه المساحة بحسب هشام توفرها الفسحة الليلية هنا في باب شرقي، مع كل ما يرافقها من ممارسات وأنشطة حية واجتماعية تتراوح بين الشرب والرقص والغناء وتبادل الأحاديث مع الأصحاب. هو شعور داخلي بالرضا، يقول هشام ضاحكاً ويضيف: "كما يقول إيمانويل كانت: ‘إني لا أعلّمك فلسفة الفلاسفة، ولكني أعلمك كيف تتفلسف’، وأنا حرفياً أجد نفسي فيلسوفاً بعد سهرة الخميس".
البلد المجنون
على طاولة مجاورة تجلس سعاد رضا (29 عاماً)، من درعا، مع زوجها وأصدقائها، يضربون الكؤوس بالكؤوس في ما بينهم ويلفظون معها كلمة "بصحتك"، تماشياً مع ثقافة الكأس والعرف السائد فيها قبل البدء بالأجواء الاحتفالية، ليقاطع نخبهم صديقهم علاء، الداخل لتوّه إلى سهرته متأخراً على رفاقه. يتناول كأساً عن الطاولة ويصيح بملء صوته: "بصحتكم وصحة هالبلد المجنون"، فيغرق الرفاق وبعض مرتادي الحانة بالضحك.
تتخلّل ذلك المشهد نقاشات وأحاديث عن مواضيع مختلفة، واللافت هنا أن لغة الحوار بينهم ليست العربية، بل الإنكليزية بلهجات متعددة بحسب المرجعية المكانية لكل شخص موجود على هذه الطاولة. اختاروا اللغة الأجنبية هذه المرة كصلة وصل بينهم وبين زوج سعاد، مايكل (36 عاماً)، بريطاني الأصل والجنسية، علّ اللغة تقرّب المسافات البعيدة وتردم الهوة المجتمعية والثقافية والحضارية بين العرب والضيف الأجنبي الجديد. ثم يسكر الجميع مادحين صدفة اللقاء التي جاءت إليهم ببريطاني بدل أن تأخذهم إليه، ذاك أنّ الهجرة حلم الجميع، جميع من على الطاولة، ولربما جميع من ظلّ في البلد.
احتفال سعاد وأصدقائها هذه الليلة عنوانه لمّ الشمل بعد الغربة؛ استقبال شرفي للسورية الزائرة (سعاد)، التي وصلت قبل أيام عدة إلى دمشق قادمةً مع زوجها من بريطانيا في زيارة قصيرة، فبريطانيا الآن أصبحت موطن الاستقرار لها، إذ حالفها الحظ قبل خمسة أعوام وخرجت من دوامة الحرب والهلاك بالسفر إلى هناك، وبدأت حياةً جديدةً وبسيطةً ومريحةً لا هموم جوهريةً فيها ولا خوف من الموت.
تقول: "صحيح أن هناك منغصات حياتية للناس كما في كل بلدان العالم، كارتفاع معدل الضرائب وكلفة المعيشة الكبيرة والضاغطة، فضلاً عن عبء التكيف مع برودة الطقس مقارنةً مع الأجواء المعتدلة في منطقة الشرق الأوسط، لكن تلك المنغصات بالتأكيد لا تقارَن أبداً مع هموم السوريين هنا، فشعور الأمان لمن فقده خلال الحرب أغلى عليه بكثير من أي جنة على الأرض، وأحضان من وجدتهم في الغربة، وأولهم زوجي وعائلته، كفيلة بأن تشعرني بدفء الإنسانية، وتغمرني بالمحبة من جديد، محبة كنت على وشك أن أفقد الأمل بحقيقة وجودها، فمحبتنا نحن السوريين شوّهتها ظروف الحرب وفقدت بريقها الأصلي مع غزارة مشاهد الدم والقتل والدمار في كل شارع وحي ومدينة".
مغارة علي بابا
كانت سعاد، قبل سفرها إلى بريطانيا، تعمل في مركز الصليب الأحمر الدولي وسط دمشق، وهي منظمة عالمية شهيرة يصفها البعض بمغارة علي بابا، بالنظر إلى الميزات الكثيرة التي تقدّمها لمن يحظى بالعمل فيها، وأبرز تلك الميزات هي الراتب العالي، الذي يستمر في الارتفاع والتحليق مع كل صعود لسعر صرف الدولار على الليرة السورية، فضلاً عن البدلات المادية للسكن والطعام وأجور المهمات الخارجية.
هنا شريحة من المجتمع، وبغض النظر عن مصدر أموال أفرادها، يبدو أنها لم ولن تكتوي بنار الأسعار والغلاء، طالما أن المال يزداد عندهم أضعافاً مع كل صعود للدولار، لكن كم تمثّل نسبة هذه الشريحة في سوريا؟
تلك الوفرة المالية انعكست بالطبع رفاهيةً رغيدةً على حياة سعاد. عن ذلك تقول: "طوال عملي في مركز الصليب لم أشعر يوماً بضيق الحال وبالحاجة المادية، وعليه كانت منطقة باب شرقي بباراتها الليلية على رأس الأولويات لأقضي فيها أسعد أوقاتي، مع صحبة تتجدد وتتوسع من أسبوع إلى آخر ومن سهرة إلى أخرى".
وتكمل: "الأشخاص في هذه البارات يجمعهم يُسر الحال وعدم الاكتراث بالفواتير العالية التي نختم بها السهر على جدال من يريد أن يدفع الفاتورة عن الجميع كتعبير عن الكرم، أو من يردّ العزيمة بأفضل منها. حتى صديقاتي اللواتي لا يستطعن تحمّل كلفة ارتياد هذه الأماكن، كنت أتكفل أنا بدعوتهن على حسابي. الغريب والمحزن أن قيمة الليرة مقابل الدولار في سنوات ذروة الحرب كانت معقولةً. والآن، وبعد أكثر من عشر سنوات على اندلاعها، وبدء الحديث الحكومي عن إعادة الإعمار، لم تتحقق الوعود بالانفتاح على بيئة اقتصادية جديدة وسيولة مادية كبيرة تعززها الاستثمارات الداخلية والخارجية".
وتتابع أنّها منذ أن عادت إلى البلاد ومن خلال تجولها في الأسواق، مصدومة بقوائم الأسعار والفواتير العالية، "حتى هنا في هذا البار قفزت الأسعار كثيراً عما كانت عليه في السابق، وبالنظر إلى الأشخاص الجالسين فيه، تبدو الصورة أشد قتامةً بالنسبة لي. هذه شريحة من المجتمع، وبغض النظر عن مصدر أموال أفرادها، يبدو أنها لم ولن تكتوي بنار الأسعار والغلاء، طالما أن المال يزداد عندهم أضعافاً مضاعفةً مع كل صعود للدولار، لكن كم تمثّل نسبة هذه الشريحة في سوريا؟ كان الله في عون الباقين، والحمد لله أن هناك مناطق وأماكن لا تزال تفتح شوارعها وأبوابها لمن لا يستطيع أن يجد في البارات والمطاعم متنفساً ومتعةً وسبيلاً".
Fm بيروتية من دمشق
"راديو بيروت"، بار آخر في شارع باب شرقي يعجّ بالشبّان والفتيات. تلمح أجواءه الصاخبة من بعيد، ذلك أنّ معظم واجهته من الزجاج، وفيه بضع طاولات خشبية صغيرة وكراسٍ مرصوصة. مساحة المكان صغيرة وهذا سبب كافٍ لقرب الطاولات من بعضها البعض، وهو قرب كفيل بخلق جوّ من الألفة بين الحاضرين.
هناك، كلما يقترب منتصف الليل ليخيّم على الشام، تدور رحى الكؤوس وتتبدل حالتها بين الموجودين، فتفرغ تارةً وتمتلئ تارةً أخرى، ومع حالة الدوران تلك، يطفئ الشاب ماروت (27 عاماً)، وهو حلبي الأصل مقيم في دمشق بسبب عمله، سيجارته ويشعل أخرى.
ماروت الذي يمتهن ترجمة الكتب والمقالات باللغتين الإنكليزية والفرنسية، يصبّ كل تركيزه في هذه السهرة على نقاش محموم يدور بينه وبين أصدقائه، ويعبّر بحركة يديه مع الكلام، ثم ينصت إلى فكرة يقولها آخر، فلا يكترث لسماع الأغاني التي لا زال صوتها منخفضاً في بداية السهرة، ولا يلتفت إلى بدء تمايل الحاضرين رقصاً خفيفاً.
ماروت ومجموعته اختاروا العودة في الزمن إلى الوراء لإحياء جلسات المدامة والسكر التي تنبعث منها أعرق الأشعار وأبدع الأفكار وأكثرها صراحةً، فيقول لرصيف22: "هنا طقس ثقافي جليّ تنطق فيه الروح قبل اللسان، بانسيابية مطلقة تخرج جميع الكلمات والأفكار دفعةً واحدةً من العقل والقلب، فكم من شاعر وأديب تغنّى بحالة السكر والنشوة، وهي حالة حضرت فيها بنات الأفكار ومنها تجلت حركات فكرية وثقافية عديدة. نبحر في شجون الدنيا وتاريخها وأصلها، ونتحدث عن كل المجالات، الفن والمجتمع والاقتصاد والسياسة والدين والكثير الكثير، وهل هناك أجمل من أبيات شاعر بني أمية الأخطل في وصف مجالس السكر والخمر، حين قال: وقلنا لساقينا عليك فعُد بنا *** إلى مثلها بالأمس فالعود أحمد / تُميت وتُحيي بعد موت *** وموتها لذيذٌ ومحياها ألذ وأحمدُ".
"أنا بتنفّس حرية"
يتجول رصيف22، في ليلة كانونية قارسة البرودة في شارع باب شرقي المتناثرة على جانبيه بارات تحمل لافتات لأسماء غربية وعربية ولها هيئات مختلفة، فكل مكان هنا له جو سهر خاص يتمايز به عن غيره من الأمكنة، وهناك على الرصيف تجلس مجموعة من الشبّان والفتيات في مقتبل العمر، تطغى ضحكاتهم على أصوات الموسيقى والأغاني المنبعثة من هنا وهناك.
هل هناك أجمل من أبيات شاعر بني أمية الأخطل في وصف مجالس السكر والخمر، حين قال: وقلنا لساقينا عليك فعُد بنا *** إلى مثلها بالأمس فالعود أحمد / تُميت وتُحيي بعد موت *** وموتها لذيذٌ ومحياها ألذ وأحمدُ
"لا شيء غير اعتيادي هنا. نريد أن نعيش ونستمتع بشبابنا، فكل ممنوع خارج هذه الأسوار مباح هنا، حتى فساتين الفتيات القصيرة والمكشوفة الصدر صارت اعتياديةً في هذا الشارع"، تعبّر سلمى مخول (21 عاماً)، القادمة من حمص إلى دمشق بقصد الدراسة الجامعية لرصيف22، عن مدى حبها لهذا المكان وخصوصيته.
وتضيف: "حرة أنا هنا كفراشة تطير بين الأنوار المتلألئة، لا شيء يعبّر عن شعوري ومعنى هذا المكان بالنسبة لي، إلا أغنية جوليا بطرس: أنا بتنفس حرية". تبدأ سلمى بالغناء وتشاركها مجموعتها بدندنة الكلمات. تعلو أصواتهم إلى الأفق البعيد... "أنا بتنفس حرية، ما تقطع عني الهوا، وهالدني بتساع الكل، وحدا الحقيقة بتضل".
المشروب الحلال
رافقتنا أنغام أغنية جوليا بطرس حتى وصلنا إلى مكان آخر، ويبدو أن كلماتها أفسحت لنا مشهداً جديداً لم يكن مألوفاً منذ سنوات عدة؛ شاب وفتاة يجلسان تحت النافذة في بار "ماريونيت": "بالطبع ليس الكوبلز أو ثنائي الحب هو الجديد أو غير المألوف، لكن الجديد وبمجرد النظر إليهما يعبّر عن نفسه"، يشير لرصيف22، رامي (اسم مستعار لشاب من ريف دمشق يعمل في البار، 24 عاماً)، إلى مغزى المشهد.
ويقول: "فتاة محتشمة تضع حجاباً ومعها صديقها، إياد ونسمة، وغيرهما الكثير، أشخاص من خلفيات ومجتمعات محافظة أو من أديان لا تقبل شرب الكحول وأجواء السهر الصاخبة، هؤلاء ليسوا ضيوفاً على هذه البارات، هم من الزبائن الدائمين والأحب إلى قلوبنا، نعيش معهم أجواء السهر والغناء، ويبادلوننا نخب الصحة بمشروبات لا تضاف إليها كحوليات بحسب طلبهم".
صحيح أن المشروب الكحولي محرم في عقيدتهم، لكن هذا الأمر لم يشكل عائقاً لنسمة وإياد وغيرهما، لاختبار فضاءات أخرى لا تشبه بيئة الأجداد، طالما أن احترام العقيدة والديانة حاضرٌ في سلوكهم. عن هذا الأمر يقول رامي لرصيف22: "هذا الاحترام لذاتهم ينعكس بتقدير الآخرين لهم، فمنذ سنوات عدة، ومع صعود جيل جديد، بات عدد هؤلاء الأشخاص يزداد بيننا ليس فقط في هذا البار، بل في أغلب البارات. أحترمهم لأنهم كسروا حاجز الخوف، بتقبّل بيئة الآخر، ويبدو أنهم سعداء في ما يفعلون".
حي القيمرية
مقابل الحديقة الأشهر على امتداد شارع باب شرقي، وفي منتصفه تماماً، ترشدنا الخطى إلى طريق فرعي للوصول إليها، هو طريق باب توما، الواصل بين ساحتها وشارع باب شرقي. شيئاً فشيئاً يضيق الشارع بين البيوت العتيقة، ويزدحم الزقاق بالداخلين إليه والخارجين منه، كأنه ثقب أسود ينقلنا في عالمه الكوني ويسافر بنا في الزمان والمكان إلى بعد آخر.
خلال هذه الرحلة وعلى جنبات الشارع الضيق، تفتح عتبات البيوت القديمة أبوابها للزوار. هي بيوت دمشقية عريقة، رحل عنها أصحابها قبل سنوات بعيدة، فحوّلها أحفادهم، أو مستثمرون، إلى مطاعم وفنادق. استثمارات سياحية تُبقي على أصالة البيوت وعراقة تاريخها، وتستقبل عشاق الأماكن التراثية من داخل البلاد وخارجها، ومنهم من يقصد الإقامة في فندق، ومنهم من يفضل تناول طعامه على أطلال تراثية تراقصها حفلات طربية تقام فيها من حين إلى آخر.
كلما خطرت ببالنا فكرة التنزه، لا نجد أفضل من حي القيمرية وجواره مكاناً نقصده، ففي أي وقت من أوقات السنة يبقى هذا الحي العتيق مكتظاً بالناس وكأن العيد حل فيه على الدوام
أما بيت القصيد، فيبدأ مع اتساع الشارع في كل خطوة إلى الأمام، حيث مطعم جلنار الذي يقابله الفندق الملكي، ويشكلان معاً بوابةً للعبور إلى شارع المأكولات السريعة في حي القيمرية (والقيمرية حيٌّ محافظ في دمشق القديمة بجوار باب توما وباب شرقي).
لا يختلف اثنان في دمشق كلها على أن كرواسون القيمرية بالشوكولا والجبنة لا يضاهيه كرواسون آخر. وجبة خفيفة (عَ الماشي) يستهلّ بها زوار الشارع رحلتهم القصيرة التي يمضون الوقت فيها بالتسكع حيناً والوقوف حيناً آخر، يجوبون الشارع جيئةً وذهاباً، بين محال الأطعمة والتحف الأثرية والفضّيات وقطع الأكسسوار الغنية بالأشكال والألوان.
النكهة الإيطالية والواقع السوري
قطع عدة من البيتزا يوزعها حيدر مرعي (31 عاماً)، الشاب المتحدر من حي الأمين الدمشقي، على زوجته وطفليه، بعد أن حصل على طلبه أخيراً وخرج من بين الجموع المنتظرة دورها أمام المحل. يقول لرصيف22: "أحب هذا المكان أنا وعائلتي، وكلما خطرت ببالنا فكرة التنزه، لا نجد أفضل من حي القيمرية وجواره مكاناً نقصده، ففي أي وقت من أوقات السنة يبقى هذا الحي العتيق مكتظاً بالناس وكأن العيد حل فيه على الدوام، فهنا تجد عائلات بأكملها، الصغير والكبير ومن كل فئات المجتمع، ومن محافظات مختلفة، الجميع لا بد أن يزوروا هذا الشارع".
حيدر وزوجته موظفان في مؤسستين حكوميتين، يتدبران أمر المعيشة ومتطلبات الأسرة، على الرغم من ضآلة حجم الراتب الشهري الذي يتقاضاه موظف القطاع الحكومي، لذلك لا بد لهم من البحث عن مكان مناسب لمصروف الجيب، ووقت ممتع ومأكولات لذيذة، حيث سعر هذه المأكولات أقل بكثير من وجبة شخص واحد في أي مطعم.
نشرات أسعار المأكولات معلقة على الدوام على أبواب المحال، منعاً للإحراج بالسؤال عن الأسعار من جهة، ومن جهة ثانية ترويجاً لاستقبال أكبر عدد من الزوار، ومن فئات مجتمعية معيّنة أو من ذوي الدخل المحدود أو من طلبة المدارس والجامعات المثقلين بأعباء مصاريفهم اليومية والشهرية.
"الدخول إلى مطعم هذه الأيام يكلف راتب شهر بكامله وربما يزيد عليه"، يصف حيدر تأقلمه مع ظروفه الحياتية في ظل لهيب الأسعار، ويضيف: "ولّت أيام الشباب، كنت أنا وزوجتي أيام الخطوبة نتردد إلى المطاعم هنا بشكل دائم، الوضع المادي مختلف الآن، على الأقل لا زلنا نستطيع أن نرسم البهجة على وجوه أطفالنا، شراء وجبة طعام من محل هنا وقطعة حلوى من محل آخر في هذا الشارع، وصلّى الله وبارك، ثم نكمل مسيرنا إلى حد التعب، وهكذا فقط نعود أدراجنا بما تيسر من وسيلة نقل إلى البيت".
فجوة التمنّي
يزن متيني (22 عاماً)، شاب حموي يعيش في دمشق بقصد الدراسة، يعبر شوارع باب توما، وصولاً إلى القيمرية، قاصداً مقهى صغيراً أو كما هو شائع للعموم: كافيه للمشروبات الساخنة والعصائر، يقع على زاوية في منتصف هذا الحي. هناك يلتقي مع أصدقائه من الجامعة، يزن وصديقه عبد يدرسان هندسة العمارة في جامعة دمشق-كلية فنون جميلة، ويتشاركان الجلسة مع ثلاث صديقات، شام من حمص (24 عاماً)، تدرس طب الأسنان، ولور (23 عاماً)، وعلا (22 عاماً)، وكلتاهما من حلب وتدرسان التجارة والاقتصاد.
لا يجب أن أحادث أشخاصاً غرباء، وممنوع أن أخرج مع أصدقائي إلا إلى أماكن محددة، السهرات ليست في قاموسي، أرغب جداً في أن أجرب أشياء جديدةً، وأن أشرب العرق مثلاً وأغني وأرقص كما في أفلام السينما
جزء من الحديث في هذه الجلسة يتناول هموم الدراسة ومستقبل ما بعد التخرج. يقول يزن لرصيف22: "الهم الأكبر لدي الآن هو الخدمة الإلزامية في الجيش، أريد أن أتخرج وأضمن السفر والعمل خارج البلاد، أعلم أن الشباب في عمري يعيشون حياتهم بطولها وعرضها، عائلتي تملك المال والحمد لله، سأعيش حياتي بكل ما فيها بعد أن أجد لنفسي مستقبلاً مضموناً، وكما يقولون كل شيء يأتي في وقته".
أما علا فلديها رأيٌ آخر. فشلت كل محاولتها في إقناع شلة الأصدقاء المجتمعة هنا للخروج من دوامة الروتين بحسب وصفها لنمط الحياة، واقترحت عليهم إما الذهاب في رحلة لبضعة أيام إلى البحر في الصيف الفائت، أو عقد النية للسهر في أحد بارات باب شرقي. تشرح علا أكثر لرصيف22، بالقول: "هناك دعوات كثيرة تأتيني من أشخاص (شبّان وفتيات)، معرفتي بهم محدودة لقضاء سهرة في بار، أتشجع على ذلك ولا مشكلة لدي في شرب الكحول، لكني أفضل الذهاب مع أصدقائي لأني أعرفهم بشكل جيد. بصراحة أخاف من هذه الأجواء وأن يحصل شيء سيئ معي، برغم أن الكثيرين يخالفونني الرأي ويعدّونني محدودة التفكير، خاصةً أن العالم يتغير ويتطور، وهذا صحيح بالفعل".
تتنهد شام، وتضع رأسها بين يديها، ثم تنظر إلى أصدقائها وتسخر من عبارة محدودة التفكير التي قالتها علا، فشام تعدّ نفسها من أكثر المظلومين في الحياة. تقسو بالحكم على نفسها، لكن بيئة عائلتها وقوانينها تضغط على حياتها وخصوصيتها بحسب ما تروي لرصيف22، وتضيف: "كل شيء ممنوع، بالمعنى الحرفي للكلمة، لا يجب أن أحادث أشخاصاً غرباء، وممنوع أن أخرج مع أصدقائي إلا إلى أماكن محددة، السهرات والعودة في وقت متأخر ليست في قاموسي، أرغب جداً في أن أجرب أشياء جديدةً في حياتي، وأن أشرب العرق مثلاً وأغني وأرقص كما في أفلام السينما. أما اختياري لملابسي فهذا أمر شديد التعقيد أيضاً، فأمي تتدخل في لباسي؛ هذا عيب وذلك حرام والآخر مغرٍ".
وتتابع: "همّهم الأكبر حالياً، أن أتخرّج وأٌنهي مرحلة الدراسة، وبعدها يجب علي أن أقبل بخاطب مناسب لي ولعائلتي، تقول أمي إنني أستطيع أن أفعل ما أريد فقط عندما أتزوج، أشك في ذلك، فالزوج المستقبلي يجب أن يحظى بموافقتهم قبل موافقتي، وما الضمانة في أن تكون بيئة هذا الزوج لا تشبه بيئة عائلتي بالعادات والتقاليد ذاتها والإطار المجتمعي عينه؟ إذاً ليس في الإمكان أكثر مما كان".
بين باب توما، والقيمرية، والقشلة، وباب شرقي، روايات وحكايات لا حصر لها، روايات حفظتها شوارع الطرقات ذات الأحجار السود، التي حفظت أسماء من مرّوا، أسماء من قال محمود درويش عنهم، في شهيرته الملحمية:
في دمشق، تسير السماء على الطرقات القديمة، حافية... حافية
فما حاجة الشعراء إلى الوحي والوزن والقافية
في دمشق، ينام الغريب على ظله واقفاً مثل مئذنة في سرير الأبد...
لا يحنّ إلى بلد، أو أحد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...