شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
المنازل الدمشقية القديمة... حين كانت شجرة النارنج فرداً من العائلة

المنازل الدمشقية القديمة... حين كانت شجرة النارنج فرداً من العائلة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والتنوّع

الخميس 9 مارس 202310:43 ص

ماذا يعني السفر عبر الزمن؟ هل هو أمر خيالي أم بالإمكان تجربته؟أسئلة يبدو العقل حاسماً بالإجابة عليها، لكن ماذا لو عاد الزمن بنا إلى الوراء حقاً. تلك تجربة عشتها وأنا أمشي في أزقة باب توما الحي الدمشقي القديم، قبل عدة سنوات، حين طالعتُ شباكاً لمنزل دمشقي مطلاً على الشارع.
أنظر إلى الشباك فيخيّل إليّ، كما لو أن فتاة حالمة في السابعة عشرة من عمرها، تطلّ برأسها من خلف ستارة بيضاء في يوم تموزي، تسترق النظر إلى الحياة في الخارج، ربما ترمق ابن الجيران بنظرة عابرة، أو تشاهد الأطفال يلعبون، هناك ألف احتمال واحتمال، تنتهي كلها في مشهد واحد ربما شاهدته قبلاً في أحد الأعمال الدرامية الشامية.
على مقربة من الشباك الذي أخذني في رحلة عبر الزمن، كان المطعم الذي سندخل إليه، عبارة عن بيت دمشقي قديم تم تحويله إلى مطعم، كما الكثير من البيوت القديمة في هذا الحي وفي حي باب شرقي.
بعيداً عن رومانسية البيوت الدمشقية والشغف الكبير الذي تزرعه في روح زائرها العابر، أو زائرتها العابرة كما في حالتي، فإنها تمتلك خصوصية كبيرة، وكأن مهندسها أو مبتكرها فصّلها على مقاس عادات وتقاليد ذلك الزمن، خصوصاً من ناحية النساء. لقد كانت سجناً محكم الإغلاق على خصوصياتهنّ من جهة، وفي الوقت ذاته كانت مسرحاً كبيراً لأحلامهنّ وحياتهنّ الكبيرة المسجونة بين جدران واسعة وسقف مرتفع حتى السماء كما في باحة المنزل الدمشقي، أو الليوان كما تسمى.

الانفتاح نحو الداخل 

يتمتع المنزل الدمشقي بنظرية الانفتاح نحو الداخل، كما تقول المهندسة المعمارية رهف غزالي لرصيف22 وتضيف: "المنزل الدمشقي طبّق تلك النظرية من خلال المدخل الطويل المنكسر نحو الداخل بزاوية قائمة، فهو لا يفتح مباشرة على أرض الديار، إنما على ممر ضيق منخفض السطح، يسمى الدهليز، ويتصل بأرض الديار أو الليوان".
الفناء الداخلي للبيت الدمشقي حقق قاعدة التضاد العضوي والبيئي بالمسكن، فالمنازل الدمشقية القديمة كانت تسمى البيوت العطرة لكثرة النباتات والأزهار، والأشجار الطبيعية داخلها

بعد الانتهاء من الدهليز، نصل إلى أرض الديار أو الفناء الداخلي، الذي يتوسط المنزل، بينما تتوزع غرف المعيشة حوله، لتحقيق خصوصية تامة من أجل النساء، مراعاة للحالة الاجتماعية التي كنّ يتمتعنّ بها في ذلك الوقت، والعادات والتقاليد السائدة حينها لناحية عدم انكشاف النساء على الرجال.

البيوت العطرة 

مهندسو وبناة المنازل الدمشقية، لم يراعوا خصوصية النساء والحالة الاجتماعية فحسب، إنما راعوا أيضاً تبدل الفصول وتغير المناخ. تقول غزالي: "الفناء الداخلي للبيت الدمشقي حقق قاعدة التضاد العضوي والبيئي بالمسكن، من خلال التغلب على تقلبات المناخ وتحقيق التكييف الطبيعي الذاتي بالخضرة والنباتات. فالمنازل الدمشقية القديمة كانت تسمى البيوت العطرة لكثرة النباتات والأزهار، والأشجار الطبيعية داخلها، والتي ساعدت على وجودها المساحات الواسعة. فقلما كان يوجد منزل دمشقي بدون شجرة نارنج مثلاً، وحتى ياسمينة وغيرها من أنواع النباتات الأخرى مثل العريشة أو دالية العنب".
كان دور الفناء الداخلي في المنزل تأمين الإنارة من جهة، والتهوية للغرف المحيطة به من جهة أخرى.
قلّما كان يوجد منزل دمشقي بدون شجرة نارنج مثلاً أو ياسمينة أو غيرها من أنواع النباتات الأخرى مثل العريشة أو دالية العنب

الحديث عن المنازل الدمشقية ونظامها العمراني وخصوصيتها الفريدة في مراعاة العادات الاجتماعية السائدة قديماً في العاصمة السورية، ليس كأي حديث يمضي والسلام، هو حديث يجعلنا نعيش تفاصيل اللحظة ذاتها، تكتنز مخيلتنا بالكلمات وتحولها مباشرة إلى مشاهد حية، تعيش أمامنا، أو ربما نعيش داخلها. مرة أخرى لا يبدو السفر عبر الزمن مجرد حالة مجازية يستحضرها العقل البشري الذي يمتلك شراهة كبيرة نحو المستقبل، تقابلها أخرى مشابهة نحو الماضي السحيق.

تفاصيل البيت الدمشقي 

يتألف المنزل الدمشقي الكبير من عناصر رئيسية عامة، وأخرى داخلية تفصيلية، وبحسب غزالي، لدى الحديث عن التوزيع العام، تظهر لدينا ثلاثة أجزاء رئيسية هي:
الجزء الأول هو السلاملك، إي الجناح المخصص للاستقبال الخارجي، ويحتل الجزء المباشر والقريب من المدخل العام الدلهيز.
أما الثاني فهو الحرملك، أي جناح المعيشة الداخلي المخصص للأسرة.
والجزء الثالث والأخير يدعى الخدملك، المخصص للخدم وأعمال التدبير المنزلي. يغيب هذا الجزء عن منازل الدمشقيين العاديين، ويحضر في المنازل الكبيرة التي كانت مخصصة للأغنياء أو لرجالات الدولة، والمقتدرين مادياً.
أما العناصر التفصيلية، فتتألف من زقاق بباب كبير واسع، لإدخال الأغراض الضخمة، وهو يضم أيضاً باباً صغيراً يدعى الخوخة، تعلوه قوس صغيرة لمرور الأشخاص داخل المنزل.
للمنزل الدمشقي التقليدي ثلاثة أجزاء: السلاملك للاستقبال، والحرملك المخصص للأسرة والنساء، والخدملك الخاص بالخدم ونجده في منازل كبار التجار وعلية القوم
وهناك أرض الديار، وهي عبارة عن باحة سماوية كبيرة، تتوسطها "بحيرة" أو بركة رخامية، وتتوزع حوله ثلاث غرف.
ثم يأتي المندلون، وهو عبارة عن نافذة صغيرة في الجدار المشترك مع البيت المجاور، ومن خلال هذه الفتحة تستطيع الجارات التحدث دون الاضطلجار للخروج من المنزل، وكانت للمندلون وظيفة ثانية مهمة لتبادل "السكبة" وهي عبارة عن صحن من الطعام يتبادله الجيران، خصوصاً في المناسبات وشهر رمضان.
وكالكثير من تفاصيل البيت الدمشقي، فإن المندلون متممٌ لعادات الدمشقيين الاجتماعية.

طابقان اثنان 

للمنزل الشامي طابقان اثنان، الأول يحوي غرف الاستقبال التي تطل على الفناء الداخلي أو أرض الديار، والثاني مخصص للمعيشة وغرف النوم. في داخل غرف المعيشة قسمان، الأول يحتل مساحة ثلاثة أرباع الغرفة وهو مرتفع بمقدار 50 سم، عن الربع الأخير المنخفض الذي يسمى العتبة.
لا تختلف منازل الدمشقيين المقتدرين مادياً عن منازل الأشخاص العاديين من حيث التسميات، تختلف فقط من حيث المساحات، كما تقول غزالي، وتعطي مثالاً على وحدة التقسيم كما في قصر العظم وهو أقدم منزل دمشقي يضم مساحات واسعة لدرجة أنه قد يكون عدة منازل في منزل واحد.
ترى غزالي أن الطراز المعماري للبيت الدمشقي كان ناجحاً جداً، فهو يحقق الاستقلالية التامة والخصوصية الكاملة لسكانه وضيوفه، ويمنح مرتاديه راحة نفسية كبيرة لوجود مساحات واسعة ونباتات خضراء متنوعة، إضافة إلى بحيرة المياه التي تلطف الأجواء صيفاً.
وتلفت إلى تنوع الزخارف في المنزل، واستخدام الخشب الملون والرخام والحجر والموزاييك، تقول: "إن الزخرفة تعتمد بالدرجة الأولى على العناصر الهندسية الكبيرة الرقيقة المتناظرة، وحتى النباتات تخضع لتنسيق هندسي جميل ودقيق، كالذي انتشر استخدامه بالعمارة الإسلامية. كل شيء في تصميم المنزل الدمشقي كان ناجحاً جداً، والنجاح كان من ناحية البناء والطبيعة العازلة، عبر استخدام الحجر الذي يحفظ الدفء شتاء، ويمنح الرطوبة والبرودة صيفاً".

مفهوم الاستدامة 

أعطى البيت الدمشقي مثالاً قوياً عن مفهوم الاستدامة من خلال بناء مدروس بيئياً ومناخياً واقتصادياً واجتماعياً.  فقد ساعد على خفض الحرارة صيفاً من خلال النباتات ومياه البحيرة، والفناء الواسع الذي تنكسر فيه أشعة الشمس فتمنح الظلال، واستخدام الطلاء الأبيض لمنع تخزين أشعة الشمس.

هذا بالإضافة إلى الارتفاع الكبير للغرف، والإنارة الطبيعية، والتهوية المستمرة، واستخدام الخشب والطوب واللبن كمواد إنشائية، إذ كانت تعمل كعازل للحرارة صيفاً وشتاء، وهو ما منح المنزل عناصر مستدامة.
بحسب المهندسة غزالي، فإن العمارة الدمشقية القديمة، تجسد الاستخدام الأمثل للاستدامة، التي تقوم عليها العمارة الحديثة حالياً.

تساعد هندستها على خفض الحرارة صيفاً من خلال النباتات ومياه البحيرة، والفناء الواسع الذي تنكسر فيه أشعة الشمس فتمنح الظلال 

ماذا تبقى من البيوت الدمشقية؟

شهدت المنازل الدمشقية مع بداية تسعينيات القرن الماضي مرحلة جديدة مختلفة، فالبيوت التي كانت حتى الأمس القريب مغلقة بإحكام على خصوصيات نسائها، باتت مفتوحة أمام الجميع، تغص بالبشر والتفاصيل الجديدة، مع تحويلها إلى مطاعم لاجتذاب السياح العرب والأجانب.
ففي عام 1992، تم افتتاح أول مطعم في بيت دمشقي في حي باب توما، وتبعه لاحقاً افتتاح المزيد من المنازل الدمشقية المتروكة، لتصبح مطاعم، أو فنادق خمس نجوم، وقد لاقت رواجاً كبيراً.
قسم آخر منها تم تحويله إلى معارض للفنون التشكيلية، وإقامة الأمسيات الأدبية، مثل "دار تمر حنة" وصالة "عالبال" وغيرهما.
أما القصور الدمشقية، مثل قصر خالد العظم في حي ساروجة، فقد تحول منذ العام 1980، إلى متحف، ومثله بيت أسعد باشا العظم، الذي بات متحفاً للتقاليد الشعبية.

بينما لا تزال بعض تلك المنازل مأهولة بسكانها، وبعضها الآخر مغلقاً، والكثير منها هُدم وأشيدت مبان جديدة.
للحجر ذاكرة قوية جداً، وقدرة هائلة على التعبير، وحدها الـ"بلاليع" التي كانت النساء يهددن بالـ"شخت" فوقها، كما نسمع في بعض مسلسلات البيئة الشامية، تشعر بالخجل اليوم، بينما تطأها أحذيتهنّ ذات الكعب العالي. ربما كانت المنازل الدمشقية سجناً محكم الإغلاق على نسائها، إلا أن جزءاً كبيراً منها في الزمن الراهن بات مسرحاً للرقص، وربما لتبادل قبلات عابرة دون اكتراث لما مضى.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard