شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
زمن إسماعيل الكبير والبلاد التي أدركها الفساد (2)

زمن إسماعيل الكبير والبلاد التي أدركها الفساد (2)

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والحريات العامة

الخميس 27 يوليو 202312:25 م

كان يُفترض، بعد حالة التعبئة الحربية ضد الخطر القادم من الجنوب، أن ينعم سكّان القاهرة والأقاليم بالأمن التام الذي وعدهم به إسماعيل بيك الكبير، لكن انتشار العساكر في ربوع البلاد لم يترافق فقط مع جرائم مفزعة، مثل نهب سوق إمبابة، بل أطلق سراح بعض المتنفذين لارتكاب جرائم شنيعة، كتلك التي ارتكبها حمزة كاشف، المعروف بالدويدار، بعد أن شك في وجود علاقة بين زوجته وصائغ رومي مسيحي، فقرّر أن يثأر لنفسه بنفسه، واستأذن حسن بيك الجداوي في القبض على الصائغ، وبعد أن منحه حسن بيك الإذن بالثأر، انتهز البيك بدوره الفرصة وأرسل رجاله لينهبوا ما في حانوت الصائغ من مجوهرات ومصاغ، في الوقت الذي كان حمزة كاشف مشغولاً فيه بتعذيب الصائغ لمدة أيام، حيث قلع عينيه وأسنانه وقطع أنفه وشفتيه وأطرافه حتى مات، وقبل أن يقتل حمزة زوجته التي لم يكتف بتطليقها، نفدت بجلدها وهربت عند الست نفيسة زوجة مراد بيك.

في السياق نفسه، يروي الجبرتي تفاصيل واقعة عنف أخرى ‑ بضم الألف أو فتحها إن شئت ‑ بطلها شاب من أولاد البلد يقال له ابن البسطى، ومهنته بيع الأطباق الصيني.

تشاجر مع رجل نطروني، فقرّر النطروني التصعيد، ولجأ إلى محمد كاشف، أحد تابعي أحمد كتخدا، الذي أكسبته أفعاله اسم شهرة يليق به: "المجنون"، فأرسل رجاله مرتين إلى ابن البسطي لكي يقبضوا عليه، فتغلب عليهم وضربهم وطردهم في المرتين، فذهب الكاشف والنطروني إلى الوالي إسماعيل بيك، ودفعوا له رشوة معتبرة، واصطحبوا معهم شهود زور قالوا إنه فاجر وقاطع طريق ومؤذ لجيرانه، فذهب إليه الوالي بجنود كثيرين، "وقبض عليه وقتله تحت شباك داره وأمه تنظر إليه"، وفي اليوم التالي، اجتمع أهل حارة الشاب محتجين، وخرجوا إلى الأزهر مطالبين بالقصاص لقتيلهم، فقرّر الوالي أن "يتمسكن حتى يتمكّن".

استمر إسماعيل بيك الكبير في فرض الرسوم والفِردة والضرائب على الناس متجاهلاً احتجاجاتهم، ربما لأنه أدرك قابليتهم للانفضاض السريع بعد الغضب المفاجئ، لكنه في الوقت نفسه حرص على استرضاء السلطة الدينية، بتفريق مكافآت على الشيوخ والمجاورين وطلبة العلم بالأزهر 

ويختم الجبرتي رواية الواقعة بتنبيه مليء بالأسى إلى عواقب انفضاض الجموع الغاضبة قبل تحقق كامل مطالبها، قائلاً: "فأظهر إسماعيل بيك الغيظ والتأسف وأخذ بخاطرهم ووعدهم بأخذ الثأر ممن تسبب في قتله، وأمر بإحضار النطروني فتغيّب فأمر بالتفتيش عليه، وانفض الجمع وبردت القضية وراحت على من راح والأمر لله وحده".

استمر إسماعيل بيك الكبير في فرض الرسوم والفِردة والضرائب على الناس متجاهلاً احتجاجاتهم، ربما لأنه أدرك قابليتهم للانفضاض السريع بعد الغضب المفاجئ، لكنه في الوقت نفسه حرص على استرضاء السلطة الدينية، بتفريق مكافآت على الشيوخ والمجاورين وطلبة العلم بالأزهر لكي يقرؤوا له صحيح البخاري ويدعوا له بالنصر على أعدائه، وحين طالبه رئيس عسكره بزيادة نفقات العسكر لكيلا يهربوا إلى الأمراء القادمين من الصعيد، شمّ في طلبه رائحة انقلاب قادم، يمكن أن يتمّ بسهولة بسبب زيادة سطوة رئيس العسكر، لذلك قرّر الباشا الكبير أن يتبع مع رئيس عسكره وصفته المعهودة التي يرويها الجبرتي، قائلاً: "فلاطفه وأكرمه ثم اختلى به واغتاله وقطع رأسه وألقاها من الشباك لعساكره"، ثم قام بعدها بأيام بضرب أعناق خمسة من البصاصين التابعين للشرطة، لأنهم "أخذوا عملة وأخفوها عنه ولم يشركوه معهم"، ليرسل رسالة واضحة إلى كل من يفكر في "الهبر" الانفرادي بعيداً عن سياسة "أبو قَسَم" المتبعة منذ أن تولى الحكم.

في ظل انتشار الشائعات المتضاربة عن أحوال الحرب والأخطار المحدقة بالبلاد، ساد الناس الخوف من غضب الله وعلاماته المتمثلة في وقوع كسوف الشمس وانتشار الرياح والأعاصير والفيضانات، وحين جاء شهر رمضان، لم يحمل لهم الأمن والاستقرار الذي تعودوا عليه في الشهر الكريم، حيث تمّ نهب قافلة للتجار والحجاج خلال قدومها من السويس، وتمّ أسر نساء القافلة وبيعهن عرايا، وبعد تلك الواقعة المروّعة بيوم، وقعت مشادّة بين حجاج مغاربة وبين بعض العسكر الذين كان معهم "نساء يتعاطون المنكرات الشرعية"، واستنكر العسكر استنكار الحجاج لوقوع مثل هذا الفعل "في رمضان"، وبدلاً من أن ينتهي ذلك الخلاف حول المنكر بحوار بنّاء أو حتى غاضب، انتهى بذبح متبادل راح ضحيته العشرات من القتلى والجرحى، وكان يمكن أن يرتفع عدد الضحايا أكثر لو لا تدخّل الوالي لتهدئة الأمور في أسرع وقت.

بعد أيام من عيد الفطر، فوجئ تجار المحروسة بلقاء جمع الباشا ببعض العربان الذين نهبوا قافلة السويس، وصدم الناس حين عرفوا أن الوالي صالحهم، بل ومنحهم بعض العطايا، فذهب الأكابر والتجار إليه شاكين ما نزل بهم، وبدلاً من أن يتضامن معهم أو يخبرهم عن سوء فهم دفع به إلى ما فعله، فوجئوا بأنه "يوبخهم ويظهر الشماتة فيهم"، ويتهمهم بعدم الانتظام في دفع ما يطلبه من جمرك وعشور، ولذلك وقع لهم النهب على حد تعبيره "قصاصاً ببركة جدي لأني شريف وأنتم أكلتم حقي"، وحين استفزّ تبريره تاجراً اسمه السيد باكير، فقرّر ألا يصمت وأن يردّ عليه بأدب، اغتاظ الباشا الكبير وقال: "انظروا هذا كيف يجاوبني ويشافهني ويرد عليّ الكلام والخطاب، ما رأيت مثل أهل هذه البلدة ولا أقل حياء منهم"، وبالطبع لم يرد أحد على تلك الإهانة بعد أن رأوا يد الباشا ترتعش من الغيظ وهو يقول: "كيف أن مثل هذا العامي السوقي يرد عليّ هذا الجواب، ولولا خوفي من الله لفعلت به وفعلت"، فخرجوا من بين يديه "آيسين"، تاركين حضور مجلسه وهم "يأخذون بخاطره وهو لا ينجلي عنه الغيظ".

في الشهور التالية، تواصل حصد الأمراض المعدية لأهالي البلاد، وانتشرت الكوارث والاضطرابات والأزمات المترتبة على اختلال الأمن وغلاء الأسعار ووقف الحال بسبب الحرب المنتظرة مع أمراء الصعيد، ومع ذلك استمرّ الباشا الكبير في تمويل تحصيناته للحرب القادمة من عوائد الجباية والإتاوات والتفريدات، في نفس الوقت الذي تواصلت محاولاته المضنية للوصول إلى صلح مع أمراء الصعيد، ربما لأنه كان يعلم أن عسكره المشغول بزيادة ارتفاع الأجور لن يشرّفه إذا وقعت الحرب، وبالتالي ارتبطت أحوال الناس المعيشية بتطورات مساعي الصلح، لتتوفر السلع وتنخفض الأسعار مع تقدم المفاوضات، وتنتكس الحالة الاقتصادية حين تفشل المفاوضات وتعود المناوشات العسكرية والتهديدات المتبادلة.

بعد سلسلة من القرارات التي اتخذها إسماعيل بيك الكبير لتحسين أوضاع الناس وتمتين الجبهة الداخلية التي هدأت بعض الشيء بفعل تقدم مساعي الصلح، أعلن حزمة إجراءات مالية تهدف إلى ضبط أسواق الصرافة وإبطال التعامل بالعملات المغشوشة، فلم يمتثل الناس لأوامره، واستمرّوا على التعامل بطريقتهم القديمة، "ومشوا على ما هم عليه مصطلحون فيما بينهم"، ليس فقط لأنهم فقدوا الثقة في كفاءته، بل لأنهم رأوا أيضاً أن إجراءات الوالي ستزيد حياتهم صعوبة، ويبدو أن ذلك أغضب الباشا، لأنه قام بعدها بإجراء تغييرات في سعر صرف العملات، "فخسر الناس حصة من أموالهم"، وبعد أن عادت المناوشات بينه وبين أمراء الصعيد عاد لفرض المزيد من الضرائب والفِرَد، وكلف من يصفهم الجبرتي بـ "قباح الناس" بجمعها بالقوة ودون أن يتعرّضوا لأي رقابة تقيد قيامهم بهذه المهمة.

يصف الجبرتي مشاهد جمع رجال الباشا للضرائب بالقوّة من المصريين قائلاً: "يدهمون الإنسان ويدخلون عليه في بيته مثل التجريدة الخمسة والعشرة، بأيديهم البنادق والأسلحة بوجوه عابسة، فيشاغلهم ويلاطفهم ويلين خواطرهم بالإكرام، فلا يزدادون إلا قوة وفظاظة فيعدهم على وقت آخر، فيسمعونه قبيح القول، ويشتطون في أجرة طريقهم وربما لم يجدوا صاحب الدار أو يكون مسافراً، فيدخلون الدار وليس فيها إلا النساء ويحصل منهم ما لا خير فيه من الهجوم عليهن، وربما نططن من الحيطان أو هربن إلى بيوت الجيران"، كما يروي كيف أطلق الباشا الكبير أيدي كبار معاونيه لكي يعيثوا في الأرض الفساد بحجّة دعم الدولة مالياً، وكان من أبرز هؤلاء مصطفى كاشف، الذي كان يقوم بتفتيش السفن المتجهة إلى الوجه القبلي أو الآتية منه، فينهب أموال ركابها وينكل بهم ويحبسهم بدعوى دعمهم لأمراء الصعيد المتمردين، ولا يطلقهم إلا بعد أن يأخذ منهم المال، فقرّر الناس اتقاء شرّه، فكانوا يذهبون إليه قبل السفر بالرشاوى والأموال لكي يمروا بسلام، واستغلت نساء أمراء الصعيد الموقف فقمن بدفع الرشاوى له لكي يسمح لهن بإرسال الملابس والأمتعة في السر للأمراء الذين يحاربون سيده وولي نعمته.

يصف الجبرتي مشاهد جمع رجال الباشا للضرائب بالقوّة من المصريين، قائلاً: "يدهمون الإنسان ويدخلون عليه في بيته مثل التجريدة الخمسة والعشرة، بأيديهم البنادق والأسلحة بوجوه عابسة، فيشاغلهم ويلاطفهم ويلين خواطرهم بالإكرام، فلا يزدادون إلا قوة وفظاظة"

في مطلع عام 1205 هجرية، اندلعت انتفاضة شعبية جديدة احتجاجاً على تكرّر اعتداءات أحمد آغا الوالي على أهل الحسينية، وتكرّر قبضه وإيذائه لهم بالحبس والضرب وأخذ المال ونهب بعض البيوت، وبدأت الانتفاضة بثورة أتباع طائفة "البيومية" بعد محاولة الآغا القبض على شيخهم أحمد سالم الجزار، وانضم لهم جمع كثير من الناس، فأغلقوا الأسواق والدكاكين، وحضروا إلى الجامع الأزهر بالطبول، فأقفلوا أبوابه وأبطلوا الدروس فيه وصعدوا على مناراته وهم يصرخون ويصيحون ويضربون بالطبول، ليحاول شيخ الأزهر تهدئتهم ويقول لهم إنه سيذهب إلى الباشا الكبير ليطلب مه عزل الوالي، وحين ذهب إليه فوجئ بأن الباشا الكبير يعتذر له عن عدم قدرته على التدخّل السريع، قائلاً بأن ذلك الآغا من جماعة حسن بيك الجداوي الذي لا يريد الباشا أن يدخل في أزمات معه، لأن الأوضاع الداخلية لا تتحمّل حدوث انشقاق كبير يمكن أن يقوم به الجداوي، لكنه وعد بمحاولة التفاهم مع الجداوي بالحسنى لكي يعزل تابعه المثير لغضب الناس، وحين حاول فعل ذلك فوجئ برفض الجداوي الذي قال لحامل الرسالة: "إن كان أنا أعزل الوالي تابعي، يعزل هو الآخر الآغا تابعه، ويعزل رضوان كتخدا المجنون من المقاطعة، ويرفع مصطفى كاشف من طرة ويطرد عسكر القليونجية والأرنؤود".

لم يكتف حسن بيك بطلباته التعجيزية، بل قام باستعراض سريع للقوة هو وتابعه أحمد آغا، فمشوا في قلب المدينة بسلاحهم وخيولهم، وحين حدثت مناوشات بينهم وبين الناس، قاموا بالاعتداء عليهم فقُتل شخصان وجُرح آخرون، فزاد غضب الناس واشتعل الموقف، ليلجأ الباشا الكبير كعادته إلى التفاوض والتمسكن حتى استطاع حل الأزمة، بالاتفاق مع حسن بيك على تغيير الوالي والآغا اللذين أغضبا الناس، ويتم تعيين اثنين آخرين مكانهما، الآغا من طرف إسماعيل بيك والوالي من طرف حسن بيك، وينزل الوالي الجديد للأزهر ليسترضي الغاضبين الذين سرعان ما انفضّ جمعهم، على حد تعبير الجبرتي، "وكأنها طلعت بأيديهم والذي كان راكب حمار ركب فرساً"، في إشارة مريرة إلى بقاء الحال على ما هو عليه بعد التغيير الصوري الذي لم تصاحبه عدالة حقيقية أو تغيير جذري.

لم يهنأ الناس بخلاصهم من الوالي الجديد، فبعدها بيومين فقط "غيّمت السماء غيماً مطبقاً وسحّت أمطار غزيرة كأفواه القِرَب، مع رعد شديد الصوت وبرق متتابع متصل قوي اللمعان، واستمر ذلك يوماً وليلة والأمطار نازلة حتى سقطت الدور القديمة على الناس، ونزلت السيول من الجبل حتى ملأت الصحراء وخارج باب النصر، وهدمت التُرَب وخسفت القبور، وصادف ذلك اليوم دخول الحجاج إلى المدينة فحصل لهم غاية المشقة، وسالت السيول من باب النصر ودخلت الوكائل وجامع الحاكم وقتلت أناساً في حواصل الخانات، وصار خارج باب النصر بركة عظيمة متلاطمة الأمواج، وانهدم من دور الحسينية أكثر من النصف، وكان أمراً مهولاً جداً".

برغم تتابع الكوارث والأزمات، انشغل إسماعيل بيك الكبير ببناء قصره الجديد وتزيينه حتى "أتمّه على هيئة متقنة وترتيب في الوضع، ونقل إليه قطع الأعمدة العظام التي كانت ملقاة في مكان الجامع الناصري الذي عند فم الخليج وجعلها في جدرانه، وبنى به مقعداً عظيماً متسعاً ليس له مثيل في مقاعد بيوت الأمراء في ضخامته وعظمه، هو في جهة البركة، وغرس بجانبه بستاناً عظيماً"، وهو ما استفز الجبرتي الذي تعجب من ظن الوالي أن الوقت قد صفا له، لذلك أراد أن يهيّئ القارئ لما هو قادم من مفاجآت الدهر بتذكيره بقول الشاعر:

هذي المنازل قبلنا كم ذا تداولها أناس

كم مُدعٍ ملكاً وكم من مُدعٍ وضع الأساس

غرسوا وغيرهم اجتنى من بعدهم ثمر الغراس

دولٌ تمُرُّ كأنها أضغاثُ حلم في نعاس

كانت روح اليأس من العدالة الناجزة والتعلّق بعدالة السماء، والتي أشار إليها الجبرتي في أبياته، سائدة في تفكير عموم المصريين، الذين شعروا أن ما يعيشونه طيلة السنوات الماضية من ظلم وفساد ينذر بكارثة محققة، ولذلك لم يكن غريباً أن تسري بينهم إشاعة في شهر جمادى الأولى، أن البلاد ستشهد زلزلة عظيمة، بالتحديد في ليلة السابع والعشرين، وأنها ستستمرّ سبع ساعات مدمّرة، قائلين إن هذا هو رأي بعض الفلكيين العالمين ببواطن الأمور، "فلما كانت تلك الليلة، خرج غالب الناس إلى الصحراء وإلى الأماكن المتسعة، مثل بركة الأزبكية والفيل، ونزلوا في المراكب ولم يبق في بيته إلا من ثبته الله، وباتوا ينتظرون ذلك إلى الصباح فلم يحصل شيء، وأصبحوا يتضاحكون على بعضهم كما قيل: وكم ذا بمصر من المضحكات ولكنه ضحك كالبكا".

يلخّص الجبرتي عهد عثمان بيك بعبارات قصيرة، قال فيها: "ولم يفلح بعدها خليفته عثمان بيك، فأضاع مملكته وسلّمها لأخصامه وأخصام سيده"، ليبدأ المصريون رحلة جديدة مع الظلم الذي لم تفلح في صده هبّات الغضب التي سرعان ما تقوم لتنفضّ

بعدها بوقت قليل وقعت الكارثة المرتقبة، لكن بطلها كان الطاعون، الذي يروي الجبرتي وقائع حصده لأرواح المصريين قائلاً: "قوي عمله وخرج عن حد الكثرة ومات به ما لا يحصى من الأطفال والشبان والجواري والعبيد والمماليك والأجناد والكشاف وأمراء وعسكر، حتى كانوا يحفرون حفراً لمن بالجيزة بالقرب من مسجد أبي هريرة ويلقونهم فيها، وكان يخرج من بيت الأمير في المشهد الواحد الخمسة والستة والعشرة، وازدحم الناس على الحوانيت في طلب العدد والمغسّلين والحمالين، ويقف في انتظار المغسل أو المغسلة الخمسة أو العشرة، ويتضاربون على ذلك، ولم يبق للناس شغل إلا الموت وأسبابه، فلا تجد إلا مريضاً أو ميتاً أو عائداً أو معزياً أو مشيعاً أو راجعاً من صلاة جنازة أو دفن، أو مشغولاً في تجهيز ميت، أو باكياً على نفسه موهوماً، ولا تبطل صلاة الجنائز من المساجد والمصليات، ولا يصلى إلا على أربعة أو خمسة أو ثلاثة، وندر جداً من يشتكي ولا يموت، وندر أيضاً ظهور الطعن، ولم يكن بحمّى بل يكون الإنسان جالساً فيرتعش من البرد، فيدثر فلا يفيق إلا مخلطاً أو يموت من نهاره أو ثاني يوم".

لم يخطر على أهل مصر في وسط كل هذا البلاء العظيم الذي عاشوه أن الطاعون وحده سيكون سبب خلاصهم من إسماعيل بيك الكبير الذي أرهقهم زمانه وأذلّهم حكمه، خاصة أن محاولة خلعه من منصبه وتعيين والٍ جديد بأوامر من "الدولة العلية" لم تكن سهلة، ومع أن الطاعون كان قد حصد قبله أرواح عدد من الولاة والأغوات الذين كان يتم تعيين خلفاء لهم، فيصيبهم الطاعون ويموتون خلال يومين أو ثلاثة، لكن روح الباشا الكبير بدت للكثيرين محصّنة ضد الموت، مثلما كانت محصّنة ضد العزل والتقويم، لذلك لم يصدقوا خبر إجهاز الطاعون عليه، إلا حين رأوا كيف تنازع رجلاه القويان، حسن بيك الجداوي وعلى بيك الدفتردار، على الرئاسة، ولأن أحوال البلاد المتهالكة لم تكن تسمح باستمرار النزاع، فقد اتفق الاثنان على تأمير عثمان بيك طبل، تابع إسماعيل بيك، الذي أحدث فور توليه سلسلة من التغييرات والتعيينات الجدية، ولكي يطمئن حكام العهد الجديد الناس إلى صدق نواياهم في التغيير والإصلاح، "أظهروا الخوف والتوبة والإقلاع وإبطال الحوادث والمظالم وزيادات المكوس".

استبشر الناس خيراً وصدقوا الوعود التي قطعها الوالي الجديد ورجاله لهم، وأمدّهم التغيير بقوة جعلتهم يصرّون على عدم السماح لوالي العاصمة القديم إلا بعد حسابه وإجباره على أن يسدّد ما هبره من الدولة وما أخذه من الناس ظلماً وعدواناً، لدرجة أنهم "حجروا عليه ونكتوا عزاله من المراكب"، ولم يتركوه حتى سدّد ما عليه على داير مليم، لتتسع أحلامهم في التغيير القادم الذي سيحمله لهم عثمان بيك طبل، لكنهم نسوا أن من تربّى في ظل دولة الظلم، وتغذّى على الفساد، وترعرع في ظل انعدام الكفاءة، يصعب أن تتوقع منه التغيير والإصلاح، لذلك لم يطل صمود دولة طبل بيك المتهرّئة في وجه أمراء الصعيد الطامعين في القاهرة، فتزايدت الانشقاقات بين أمرائه الذين انخرطوا في مؤامرات مع أمراء الصعيد، ليلخّص الجبرتي عهد عثمان بيك بعبارات قصيرة، كتبها في ختام ترجمته لإسماعيل بيك الكبير، قال فيها: "ولم يفلح بعدها خليفته عثمان بيك، فأضاع مملكته وسلّمها لأخصامه وأخصام سيده"، ليبدأ المصريون رحلة جديدة مع الظلم الذي لم تفلح في صده هبّات الغضب التي سرعان ما تقوم لتنفضّ، فيعود الناس لانتظار الخلاص من السماء بعد عجزهم عن تحقيقه على أرض البلاد التي أدركها الفساد.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

شكل حياتنا اليومية سيتغيّر، وتفاصيل ما نعيشه كل يوم ستختلف، لو كنّا لا نساوم على قضايا الحريات. "ثقافة المساومة" هذه هي ما يساعد الحكام على حرماننا من حريات وحقوق كثيرة، ولذلك نرفضها، ونكرّس يومياً جهوداً للتعبير عن رفضنا لها، والدعوة إلى التكاتف لانتزاع ما لنا من قبضة المتسلّطين. لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا مسيرتنا/ رحلتنا في إحداث الفرق. اكتبوا قصصكم. أخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا.

Website by WhiteBeard
Popup Image