شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
زمن إسماعيل الكبير والبلاد التي أدركها الفساد (1)

زمن إسماعيل الكبير والبلاد التي أدركها الفساد (1)

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والتاريخ

الخميس 20 يوليو 202312:08 م

""صنعة بلا أستاذ يدركها الفساد"، يقولها لك الجبرتي في ثنايا تأريخه لتلك الأيام السوداء من تاريخ مصر، ليزيل بحروفه القليلة حواجز الزمن المتباعدة، فترى حاضر البلاد وتتخيّل مستقبلها، وأنت تقرأ معه ما جرى لها حين أكلت من "أوَنطَة" الحكام وأسندت أمرها إلى غير أهلها.

في الجزء الثاني من تاريخه العظيم "عجائب الآثار في التراجم والأخبار"، يروي لنا المؤرخ المصري عبد الرحمن الجبرتي، سيرة إسماعيل بك الكبير الذي انفرد بإمارة مصر في مطلع شهر المحرم من عام 1202 هجرية‑ 13 أكتوبر 1787 ميلادية ـ

وبعد أن "صار بيده العقد والحلّ والإبرام والنقض"، قرّر بعد خمسة أيام فقط من بداية حكمه، أن يتخذ قراراً جريئاً كان غيره من الحكام ينتظرون في العادة فترة أطول قبل اتخاذه، حيث فرض مبلغاً مالياً ضخماً تقرّر أن يشترك في دفعه تجار مصر وكافة طوائفها، وقام مع وزيره محمد أغا البارودي، بتوزيع المبلغ على تجار البن والبهار وبائعي القطن والبطانة والقماش والمنجدين والذين يتخذون من الغلال سبوبة للرزق، فضلاً عن نصارى القبط والأروام والشوام وطوائف المغاربة واليهود وغيرهم، وربما شجّعه على اتخاذ القرار أنه لم يصادف أي تذمّر أو سخط بعد قرارات التعيين والعزل التي اتخذها فور توليه، أو بعد قيامه بالقبض على التاجر الكبير الحاج سليمان بن سامي، وحبسه ومصادرة خمسين كيساً من تجارته.

سرعان ما اتضح أن إسماعيل بك حسبها غلط، لأن أهالي المحروسة انزعجوا من المصيبة التي وقعت عليهم من حيث لا يحتسبون، فقاموا بإغلاق الوكالات والدكاكين احتجاجاً، ثم قرّروا بعد عشرة أيام من صدور القرار أن يجمعوا مندوبين عن كل الطوائف والمهن، ويذهبوا إلى الجامع الأزهر، معترضين على القرار ومطالبين شيخ الأزهر أحمد موسى العروسي، بأن يرفع اعتراضهم إلى الوالي الجديد، ويطالبه بالعدول عن القرار كي يفتح الناس الدكاكين ويتوقفوا عن شلّ حركة التجارة في البلاد.

وحين حاول الشيخ العروسي تهدئتهم ونصحهم بالتوقف عن التجمهر، باءت محاولته بالفشل، بل وتحوّل سريعاً إلى هدف لغضبهم، "فصاحوا عليه وسبوه وسحبوه بينهم إلى جهة رواق الشوام"، لكن تلاميذه من مجاوري الأزهر أنقذوه من أيدي الغاضبين الذين كادوا أن يمسحوا بمقامه الرفيع بلاط الأزهر.

كتب بعض من الحكماء الراغبين في عدم تصاعد الأمور خطاباً إلى إسماعيل بيك يخبرونه بطبيعة الأزمة التي تمر بها البلاد، وينبهونه إلى خطر استمرار الغضب الذي بات يجتذب العامة كل يوم، فتتسع دائرة المتجمهرين الساخطين، وأرسلوا الخطاب مع الشيخ سليمان الفيومي، الذي يبدو أنه أوصل الرسالة إلى السلطان جيداً، فعاد إليهم سريعاً بقرار يمنح الأمان والعفو لكل الطوائف التي شاركت في "سبت الغضب"، قائلاً لمجموعة المندوبين الذين قادوا حركة الاعتراض على القرار، إن الوالي يؤكد لهم أنهم فهموا القرار خطأ، لأن المبلغ المطلوب ليس "فِردة" أو حتى ضريبة، بل هو "على سبيل القرض والسلفة من القادر على ذلك".

 يروي لنا المؤرخ المصري عبد الرحمن الجبرتي، سيرة إسماعيل بك الكبير الذي انفرد بإمارة مصر، وقرّر بعد خمسة أيام فقط، أن يفرض مبلغاً مالياً ضخماً تقرّر أن يشترك في دفعه تجار مصر وكافة طوائفها

لكن احتماء الغاضبين ببعضهم قوى قلوبهم، فلم يصدّقوا كلمة مما قاله الشيخ الفيومي، وتذكّروا صحيفة سوابق الأمراء معهم، فقالوا لبعضهم بنص كلمات الجبرتي: "هذه مخادعة وعندما ينفض الجمع ونفتح الدكاكين يأخذونا واحداً بعد واحد"، وبدأوا يصيحون على الشيخ الذي حمل لهم كلمات الأمير "ويسمعونه الكلام غير اللائق"، ومرة أخرى أنجاه المجاورون من بطشهم، وحين لعن الشيخ "سنسفيل" الظروف التي أدخلته بين البصلة وقشرتها ورمته على هذه البهدلة، قرر أن يصارح الأمير باستحالة إقناع الناس بالهدوء، فحنق إسماعيل بيك ولم يصدق تكذيب الناس له، وهو البطل صاحب السمعة العسكرية الذي خاض الكثير من المعارك دفاعاً عنهم في الماضي القريب، وظنّ أن ما جرى مفتعل من الشيخ الفيومي الذي أغرى الناس على الغضب، لكن عيونه المندسّة وسط الناس حلفت له ببراءة الشيخ من تهمة التحريض على الغضب الذي لا يحتاج إلى من يشعله أكثر.

كانت الهزّة أكبر مما توقعه الوالي حديث العهد بالكرسي، لذلك أدرك أهمية الرجوع المؤقت إلى الوراء، فأعلن إلغاء فرض المبلغ المالي، وأرسل إلى الناس يمنحهم الأمان، قائلاً لعسكره وعسسه بصريح العبارة: "دعوهم ينفضوا وما أحد يطالبهم بشيء"، فابتهج الناس لخلاصهم من الفِردة، لكنهم نسوا أهمية الحذر وضرورة الاستمرار في توحيد المواقف وتنسيقها، فانفضّوا وتفرّقوا وانصرف كل منهم إلى مصالحه، وبعد يومين لا أكثر كما يروي الجبرتي، بدأ إسماعيل بك تغيير تكتيكه في الجباية بعد أن أدرك خطأ فتح صدره أكثر من اللازم، لذلك بدأ حملة الجباية الجديدة بأهل الصاغة والجواهرجية والنحاسين، وأرسل "يطالبهم بدفع المقرّر والموزّع عليهم، فلم يجدوا بدّاً من الدفع" بعد أن تم عزلهم عن جموع الغاضبين الذين لم يمانعوا فرض المزيد من الأموال على هؤلاء الأغنياء.

وبعد أن نجحت عملية الجباية الأولى، تحوّل الوالي إلى هدف جديد هو وكالة الجلابة التي يباع تجارها الرقيق والبضائع القادمة من السودان، ثم كما يروي الجبرتي: "تطرق الحال إلى باقي الناس حتى بياعين الفسيخ، ومجموع ذلك نحو اثنين وسبعين حرفة"، فدفع الناس جميعاً وهم متفرّقون أكثر مما فشل الأمير في أخذه منهم وهم متجمّعون على الرفض والغضب.

قرّر إسماعيل بيك أن يظهر للناس رغبته في عمل مشروعات جديدة تساهم في تحسين حياتهم كالتي فعلها الأمراء من قبله، وكان أول هذه المشاريع إنشاء سوق القيسارية الكبير الذي ضم إحدى وعشرين حانوتاً وقهوة، وقرّر أن ينقل إليه سوق درب الجماميز القديم، بما فيه من دلالين وقماشين وتجار، وهو قرار لاقى استحسان الكثيرين، حتى إن الجبرتي يعلّق عليه قائلاً: "وليس لإسماعيل بيك من المحاسن إلا نقل هذا السوق من تلك الجهة ووضعه في هذه الجهة كما لا يخفى"، لكن البيك لم يهنأ بآثار افتتاح سوقه الجديد بسبب تدهور الأوضاع الاقتصادية التي أدت إلى "اشتداد العنف في الرعية بسبب طلب السلفة، حتى تعدّى الحال إلى بياعين المخلل والصوفان وتضرّر الفقراء من ذلك"، فقرّر إسماعيل بيك البدء في حل المشكلة الاقتصادية بعيداً عن العاصمة التي دفع أهلها ما يكفي، فصنع "حصراً بالبلاد التي تأخر ملتزموها في دفع الضرائب والرسوم"، وقرّر أن يطرحها للبيع، ولم يستغرب أحد حين تصدر وزيره محمد أغا البارودي لشراء نحو سبعين بلداً تعثر في سداد ديونه وضرائبه، في صفقة ينبهنا الجبرتي إلى أن البارودي كان فيها مجرّد "واجهة" يتخفى خلفها البيك، الذي لم يكتفِ بشراء المساحات الشاسعة من الأراضي التي تحتويها تلك البلدات، بل أخذ يواصل تعجيز التجار كباراً وصغاراً بطلباته المالية المستمرّة، ويصادر ممتلكاتهم حين يعجزون عن الدفع.

لم يهنأ إسماعيل بيك طويلاً بما "استخلصه" من أموال وممتلكات، فقد داهمته أخبار زحف عسكري يقوده أمراء الوجه القبلي الذين كانوا أكبر مصادر الخطر على حكام المحروسة، منذ أن أعلنوا تمردهم على السلطان العثماني ومندوبيه في حكم مصر، وكان البيك نفسه قبل توليه الإمارة قد اشترك في حروب سادته السابقين ضدهم، وبنى سمعته العسكرية في تلك المعارك، فقرّر جمع أعيان البلاد ووجهائها ومشايخها في مشهد درامي يروي الجبرتي أنه بدأ بدخول إسماعيل‑ الذي أصبح الجبرتي يلقبه فجأة بالباشا‑ في الموضوع، حين أخبر الحضور ببدء زحف ناقضي عهد السلطان على البلاد ووجوب قتالهم لدفع هذا الخطر، وحين اكتفى الحاضرون بأن يقولوا له: "نعم" دون أن يصاحب تلك الـ "نعم" إجابة قاطعة تلزمهم بشيء، ربما لأنهم كانوا بحكم التجربة، ينتظرون ظهور الخازوق الذي سرعان ما بانت معالمه، حين قال لهم الباشا إن قتال هؤلاء المتمرّدين سيُصرف عليه من خزينة السلطان، ولأن خزينة السلطان خاوية، لذلك على كل منهم أن يقاتل عن نفسه بالمساهمة في تمويل الخزينة، فانبرى وجيه غاضب اسمه إسماعيل أفندي الخلوتي، وقال بنص ما يرويه الجبرتي: "ونحن أي شيء تبقى عندنا حتى نصرفه، وقد صرنا كلنا شحاتين لا نملك شيئاً"، وقبل أن يثير كلامه الغاضب تعاطف الحاضرين فتعود روح الغضب الجماعي القديمة، قال له الباشا ساخطاً: "هذا الكلام لا يناسب ولا ينبغي أنك تكسر قلوب العسكر بمثل هذا الكلام، والأولى أن تقول لهم أنا وأنتم شيء واحد، إن جعت جوعوا معي وإن شبعت اشبعوا معي".

هل نجحت كلمات الباشا العاطفية في التأثير على الحاضرين الذين لم يرضهم "كسر قلوب العسكر"، أم أنها مثلت بالنسبة للعقلاء منهم رسالة تهديد تفيد أن مجيئهم لن يقبل منه أقل من تأييد ما يريده الباشا؟ لا نعلم، لكن ما نعلمه أن مجرى الاجتماع تغير بعد ما قاله الباشا، لذلك اقترح الحاضرون كتابة "عرض بما جرى" إلى عاصمة الخلافة أو إلى "الدولة"، كما يسميها الجبرتي في تاريخه، ثم كتابة فرمانات لأفراد الجيش من غُزّ وأجناد غائبين بالأرياف لكي يحضروا استعداداً للقتال ضد الخطر.

قرّر إسماعيل بيك البدء في حل المشكلة الاقتصادية بعيداً عن العاصمة التي دفع أهلها ما يكفي، فصنع "حصراً بالبلاد التي تأخّر ملتزموها في دفع الضرائب والرسوم"، وقرّر أن يطرحها للبيع

وفي ظل هذه الأجواء المشحونة بالتوتر، فاجأ إسماعيل بيك الحاضرين حين بكى "ونهنه في بكائه" بنص تعبير الجبرتي، فنسي الحاضرون كل ما بهم من مخاوف وهواجس قائلين له: "لا تبك يا بيك"، وأكدوا له وقوفهم إلى جواره وتحمل المسؤولية معه، لتبدأ كتابة المكاتيب وإرسالها إلى كل من يهمه أمر إيقاف الزحف القادم من الجنوب، وتبدأ عمليات تجهيز الخيول والأسلحة والذخائر والمؤن استعداداً للحرب القادمة التي نجحت دموع الباشا في تمويلها من جيوب الناس، ليس لأنهم سذج أغرار، بل لأنهم أدركوا أن البديل هو ترك العاصمة لكي يستبيحها المتمرّدون، فلا يتركوا فيها حجراً على حجر.

حين طلب إسماعيل بيك من المشايخ مساعدته في إقناع "الدولة" بإرسال عساكر على وجه السرعة لقتال أمراء الجنوب، استكثر الشيخ العروسي طلبه، وقال له: "لا يحتاج إلى ذلك، فإن العساكر الرومية لا تنفع بين العساكر المصرية، والأولى استجلاب خواطر الجند بالإحسان إليهم، والذي تعطوه للأغراب أعطوه لأهل بلادكم أولى"، ولا يأخذ الجبرتي وقتاً طويلاً لكي يروي لنا كيف تأثر الباشا بنصيحة شيخ الأزهر، فبدأ في طلب "تفريدة من البلاد والقرى" ليجعل على كل بلد مائة دينار وعشرة، فضلاً عن حق الطرق وغيرها من التكاليف، ثم أصدر قراراً بهدم حارة النصارى إلا إذا دفع سكانها خمس وثلاثين ألف ريال للمصالحة، وفتحت قرارات الباشا الباطشة والهابشة شهية صغار رجاله من "الحرسجية" الذين استغلوا اضطراب الأوضاع في البلاد، "فحصل منهم الضرر للناس والرعية والمتسبّبين والفلاحين الواردين من القرى بالجبن والسمن والتبن ونحو ذلك، وكل من أراد العبور من باب منعوه من الدخول حتى يأخذوا منه دراهم ولو كان بنفسه".

يروي الجبرتي بالتفصيل في تاريخه وقائع الاستعداد للحرب مع الجيش القادم من الجنوب بقيادة مراد بيك وإبراهيم بيك، سواء الاستعدادات العسكرية والتقنية والمالية، أو الاستعداد الديني بإصدار فتوى يصدرها كبار العلماء بوجوب قتال الأمراء المارقين، لأنهم "حصل منهم الفساد والإفساد ومنعوا خراج السلطان وأكلوا حقوق الفقراء والحرمين ومنعوا زيارة النبي عليه الصلاة والسلام وقطعوا علوفات الفقراء"، لكنه في الوقت ذاته لا يغفل الإشارة إلى وقائع صغيرة تدلّ قارئه على طبيعة الحكم في البلاد التي أدركها الفساد، فيقول مثلاً: "وفي يوم الثلاثاء، عُزِل أحمد أفندي أبو كلبة من الروزنامه وتقلدها عثمان أفندي العباسي على رشوة دفعها، وضاع على أحمد أفندي ما دفعه من الرشوة"، ثم ينتقل إلى وقائع المفاوضات المالية بين الزاحفين والمزحوف عليهم طمعاً في تجنب القتال، دون أن يشبع فضولك التواق إلى معرفة مبلغ الرشوة التي دفعها المعزول أو من خلفه، أو إلى سر الكلبة التي حمل أحمد أفندي اسمها.

في خضم المفاوضات التي دارت بين إسماعيل بيك وأمراء الصعيد والتي تتأرجح بين الطمع المفرط والرضا بالمتاح، والتي أجاد إسماعيل بيك توظيفها لتعظيم مكاسبه المادية وفرض مناخ من الإرهاب على محكوميه، يحكي الجبرتي عن معركة وقعت "بين أهل بولاق وبين العسكر، معركة بسبب إفسادهم وتعديهم وفسقهم مع النساء وأذية السوقة وأصحاب الحوانيت، وخطفهم الأشياء بدون ثمن، فاجتمع جمع من أهل بولاق وخرجوا إلى خارج البلدة يريدون الذهاب إلى الباشا يشكون ما نزل بهم من البلاء"، وحين علم العسكر بذلك قرّروا منع الساخطين بالقوة من الذهاب إلى الوالي، وكانت المفارقة أن الناس الذين فاض بهم كيل الجباية والفساد نجحوا في هزيمة العسكر الذين يفترض أن يحموهم من زحف متمردي الجنوب، وهو ما جعل الباشا يدرك خطورة ما حدث على عرشه، فأرسل وزيره إلى ساحة المعركة، "وتلافى الأمر وأخذ بخاطر العامة وسكن الفتنة وخاطب العسكر ووبخهم على أفعالهم فقالوا له: وكيلك فلان وفلان هما اللذان يسلطاننا على هذه الأفعال، فأحضر أحدهما وقتله وفر الآخر".

قرّر إسماعيل بيك أن الاعتماد على سكان العاصمة لوحدهم ربما يكون خطراً عليه، خصوصاً وقد رأى كيف يؤدي بهم انفجار الغضب إلى التوحّد ضده، فقرّر اللجوء إلى سلاح المرتزقة الذي لا يخيب أبداً

طالت مفاوضات الصلح بين إسماعيل بيك والأمراء الزاحفين من الصعيد الذين ارتفع سقف مطالبهم مع اقترابهم من الجيزة، وأدرك إسماعيل بيك أن تلبية تلك المطالب سيكون نهاية لعرشه، فبدأت حمّى الاستعدادات العسكرية للمواجهة، وحين هرب بعض الجنود لينضموا إلى الجيش الزاحف على العاصمة، أمر الباشا بأن يُحاط ببيوتهم ويتم إخراج حريمهم منها ونهب متاع نسائهم وبيوتهم، وفي ظل تلك الظروف ساءت حالة الجبهة الداخلية، حين "حصل وقف حال وضيق في المعايش وانقطاع الطرق وعدم أمن ووقوف العربان ومنع السبل وتعطيل أسباب وعسر في الأسفار براً وبحراً"، فقرّر وجهاء البلد إرسال وفد من المشايخ يرأسه الشيخ العروسي لمواجهة الباشا بضنك الأحوال، ففوجئوا بأنه قد تحضر للقائهم بإصدار فرمان يشدّد على ضرورة محاربة أمراء الصعيد، فاستفز فرمانه شيخ الأزهر الذي كان حريصاً، من خلال ما يرويه الجبرتي، على مسك العصا من النصّ وعدم الصدام بالوالي، لكنه لم يتمالك نفسه هذه المرة، فقال للباشا إنه لا يفهم ما الذي يمنعه من الخروج للقتال وحسم المعركة بعد أن ضاق الحال بالناس وهم لا يرون سوى بناء المتاريس والحيطان والتحصينات، "وهذه ليست طريقة المصريين في الحروب، بل طريقتهم المصادمة وانفصال الحرب في ساعة، إما غالب أو مغلوب، وأما هذه الحال فإنه يستدعي طولاً وذلك يقتضي الخراب والتعطيل ووقف الحال"، فارتبك الباشا مما سمعه من نقد لخطته العسكرية التي استنزفت البلاد، وعاد ثانية للمراوغة قائلاً: "أنا ما قلت لكم هذا الكلام أولاً، وثانياً هيا شهلوا أحوالكم ونبهوا على الخروج يوم الاثنين وأنا قبلكم".

بدا لأهالي المحروسة المرهقين أن مهمة وفد الشيوخ والوجهاء قد نجحت على أكمل وجه، بعد أن قرّر الباشا التعجيل بالقتال لينهي حالة "الحرب على الإرهاب" القادم من الجنوب التي أرهقت البلاد والعباد، وابتهج الناس بعد أن تم الإعلان عن وصول شخصين قادمين من عاصمة الخلافة بأخبار تفيد حضور عساكر برية يقودهم باشا كبير، دون أن يعرفوا أنه لا أصل لهذا الخبر الذي كان مقصوداً منه الالتفاف على حالة غضبهم، ولو عرفوا ذلك لما تحمّسوا لنداء الباشا بالخروج إلى المتاريس العسكرية في الجيزة مقابل نفقة قدرها خمسة عشر ريال، في الوقت نفسه طاف المنادون في الشوارع مهدّدين من يتخلف عن التطوع في القتال.

لكن الحسم المرتقب تأخر، واستمرت حالة اللا سلم واللا حرب فترة أطول، فضاق الحال بالناس أكثر وتعطلت أسفارهم وانقطعت حركة التجارة بين قبلي وبحري، وقرّر إسماعيل بيك أن الاعتماد على سكان العاصمة لوحدهم ربما يكون خطراً عليه، خصوصاً وقد رأى كيف يؤدي بهم انفجار الغضب إلى التوحّد ضده، فقرّر اللجوء إلى سلاح المرتزقة الذي لا يخيب أبداً، حيث أرسل إلى عرب البحيرة والهنادي، "فحضروا بجمعهم وأخلاطهم وانتشروا في الجهة الغربية من رشيد إلى الجيزة ينهبون البلاد ويأكلون الزروعات ويضربون المراكب في البحر ويقتلون الناس، حتى قتلوا في يوم واحد من بلد النجيلة نيفا وثلاثمائة إنسان، وكذلك فعل عرب الشرق والجزيرة بالبر الشرقي، وكذلك رسلان باشا التجار بالمنوفية، فتعطل السير براً وبحراً ولو بالخفارة، حتى إن الإنسان يخاف أن يذهب من المدينة إلى بولاق أو خارج باب النصر"، وتتابعت الوقائع الدامية التي كشفت للناس أن كابوس إسماعيل بيك الكبير سيلازمهم أطول مما كانوا يظنون.

*****

نكمل الأسبوع القادم بإذن الله.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

‎من يكتب تاريخنا؟

من يسيطر على ماضيه، هو الذي يقود الحاضر ويشكّل المستقبل. لبرهةٍ زمنيّة تمتد كتثاؤبٍ طويل، لم نكن نكتب تاريخنا بأيدينا، بل تمّت كتابته على يد من تغلّب علينا. تاريخٌ مُشوّه، حيك على قياس الحكّام والسّلطة.

وهنا يأتي دور رصيف22، لعكس الضرر الجسيم الذي أُلحق بثقافاتنا وذاكرتنا الجماعية، واسترجاع حقّنا المشروع في كتابة مستقبلنا ومستقبل منطقتنا العربية جمعاء.

Website by WhiteBeard
Popup Image