شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
بطريركية السيسي... أسطورة الاحتجاج بالمعرفة

بطريركية السيسي... أسطورة الاحتجاج بالمعرفة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والحريات العامة

الأحد 8 يناير 202311:13 ص

"قلّة فقط من مواطني أثينا قادرة على وضع السياسات، لكن كل أهل أثينا قادرون على تقييمها" (السياسي الديمقراطي الأثيني بريكليس/ 495-429 ق. م.).

"ما تديش ودنك لحد أقل ما فيه مش مسؤول. يعني إيه الكلام ده؟ كل واحد يعرف على قده: الموظف، المدير، اللي قبله، اللي بعد، واللي بعده واللي بعده لغاية لما نوصل لأعلى، اللي ربنا أراد إنو يبقى متولي المسؤولية. يعني حد هيعرف، مع كل التقدير والاحترام لأعضاء الكنيسة الآخرين، زي قداسة البابا في شؤون الكنيسة؟ لا" (الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، في احتفال عيد الميلاد لسنة 2023).

المتابع لخطابات السيسي يلاحظ ملامح عامة لا تتغير فيها. فهي شديدة المدح للذات. يتحدث الرئيس المصري عن نفسه دائماً على أنه دائم المعرفة والفهم لما لا يفهمه الآخرون، كما أن خطاباته شديدة الاحتقار للمعارضين. فهم يتأرجحون دائماً في خطاباته بين كونهم قوى للشر، أو الآحاد غير المسؤولة والتي "تهرف بما لا تعرف". أيضاً، تستحضر صورة التجلي الإلهي في شخص الرئيس ذاته، فهو يكلمه الله دائماً، ويفهمه دائماً، ويصطفيه دائماً، ويمنحه البركة دائماً، "وشايف أعماله أكثر".

صورة التجلي الإلهي في الذات حاضرة دائماً في معظم خطابات الرئيس، وهي صورة جديدة تماماً لم يستخدمها رؤساء مصر السابقون لتجنب اتهامهم بالتماهي مع الذات الإلهية، وهي تهمة لا تستسيغها الثقافة الدينية المصرية بشكل عام. لكن يبدو السيسي غير مبالٍ بهذا النقد لأن توظيف هذا التواصل الإلهي جزء لا ينفصل عن خطابه السياسي منذ تصدره المشهد العام.

في خطاباته أيضاً، يلوم الرئيس المصري آخرين على أزمات حدثت في عهده. هو دائم اللوم، وربما يكون محقاً، في أزمات مثل الانفجار السكاني، الحرب في أوكرانيا، عدم الاستقرار السياسي، جائحة كوفيد 19... لكنه لا يعترف أبداً بتقصير بشري في أي أزمة رغم أن أزمة مصر الاقتصادية الحالية كانت قد بدأت بوادرها قبل الحرب الأوكرانية بست سنوات. ففي يوم واحد في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر 2016، حدث أكبر معدل خفض في قيمة الجنيه يتم في سنة واحدة، بدون ترتيبات مسبقة أو حوار مجتمعي مسبق، وبعد عامين فقط من وصوله إلى الحكم، ففقد المصريون أكتر من نصف مدخراتهم في يوم واحد.

وتوالت الأزمات بعد استدانة مصر في نفس العام عن طريق طرح سندات دين بمعدلات عائد تُعتبر الأعلى في العالم لتمويل مشاريع عائداتها بطيئة. كل هذا يظهر كسياسات بشرية لا أثر فيها لتجلٍّ إلهي ولا لوحي مقدس. وهنا، لا تبدو الحرب الأوكرانية ولا جائحة كوفيد صانعتيْن للأزمة، بل كاشفتيْن لها.

"يؤتي المُلك مَن يشاء"

لا ينظر السيسي إلى منصبه على أنه منصب سياسي حديث له صفات المناصب السياسية الحديثة التي تشمل المسؤولية أمام الناخبين، وتلزمه بتوضيح خططه ومشاريعه لمحاسبته عليها والاتفاق أو الاعتراض عليها، بل ينظر إليه على أنه مُلك بالمعنى القروسطي، فالله يختاره ومسؤوليته أمام الله.

في واحد من خطاباته الذاتية مع الله، يقول عن لسان الله: "الكرسي ده أنا اللي جبتك فيه وأنا اللي همشيك منه"، وهي إحالة إلى منطقة ضبابية لعلاقة ذاتية يظهر فيها الجماهير -لا الناخبين- في الخلفية. لا أثر لدور الناس في هذه العلاقة التي يتجلى فيها الله في قرارات الرئيس.

"الإسلاموية ربما تكون خرجت مهزومة سياسياً في مصر، لكنها وعلى ما يبدو ظهرت كمنتصر على المستوى الثقافي، حسبما يظهر في منطق حديث حتى أشرس خصومها السياسيين"

ويدير السيسي الأزمة الاقتصادية الحالية بنفس المنطق لأن من الصعب عليه أن يغيّر منطقه، فهو ينبع من قناعات عقلية وإيمان ذاتي عبّر عنه أكثر من مرة في أحاديثه عن تفوقه المعرفي عن باقي المصريين، خاصة المعارضين منهم. كما أنه يوظفه في معركته مع خصومه من الإسلاميين الذين تبنى موقفهم في توظيفهم السياسي للدين، فالإسلاموية ربما تكون خرجت مهزومة سياسياً في مصر، لكنها وعلى ما يبدو ظهرت كمنتصر على المستوى الثقافي، حسبما يظهر في منطق حديث حتى أشرس خصومها السياسيين.

بطريركية السيسي

ألقى السيسي عصاه من جديد في أسوأ أزمة اقتصادية تمر بها مصر في حكمه. ففي نفس حديثه في قداس عيد الميلاد، قال: "أولاً ما تخافوش. ليه ما تخافوش؟ ما تخافوش لسببين الأول إن ربنا موجود. هيسيبنا يعني؟".

وإذا كان الله حاضراً في قناعات غالبية المصريين وممارساتهم وفي إيمانهم عبر الزمن حتى مع تكرار الأزمات والمجاعات والأوبئة، فإن ذلك لا يعفي المسؤول السياسي من تقديم حلول للأزمة.

تاريخياً، تركّز الدول الاستبدادية الموارد المعرفية والمعلوماتية في يد مَن يحكم وتمنعها عمَّن هم خارج دوائر الحكم، ليصبح الوصول إلى المعلومات الكاملة شبه مستحيل. وهي طريقة فعالة لتركيز القوة، فالقوة لمَن يعرف أكثر.

في هذا السياق، يحتج السيسي دوماً بأسطورة المعرفة، أي بأنه يعرف أكثر من باقي المصريين وباقي مَن يسألونه. وربما يكون هذا صحيحاً بدرجة ما نظراً إلى طبيعة النظام السياسي الذي أسسه السيسي ودوائر الحكم في الموجات الارتدادية على ثورة يناير.

"يريد السيسي أن ينصّب نفسه حَكَماً على ما صنعته سياساته لأنه، وفقاً لكلمته، مثل البطريرك في الكنيسة، يعلم بحكم سلطته وقدراته ما لا نعلم. بعمد أو بدون عمد، يدشن الرئيس المصري بطريركية سياسية موازية لبطريركية الكنيسة"

لكن ما يخفى على الرئيس المصري أنه لا حاجة إلى خبراء لمعرفة أن الأمور تسير في الاتجاه الخاطئ. بناء السياسات يحتاج إلى خبراء بلا شك، لكن تقييم نتائج وأثر السياسات لا يحتاج إليها، بل يقيّمها المستفيدون منها. لا نحتاج إلى جراح عالمي لمعرفة أن عملية جراحية ما أدّت إلى وفاة المريض أو إلى تدهور حالته.

يبدو أن الاحتجاج بالمعرفة في هذا الأمر كمَن يدين نفسه. فالعبرة ليست بالمعرفة، ولكن بما أنجزه الرئيس ونظامه بهذه المعرفة. النتائج هنا ليست في صالح الرئيس الذي يعرف أكثر. وفقاً لخطابه، يبدو أن الأمور لا تسير في مسارها الطبيعي. فالطبيعي أن يحدث عكس ما يقوله، أي أن يضع صانع السياسات الخطط وينفّذها ثم يتكلم الناس عن أثر هذه الخطط. لكن الرئيس المصري يجادل بأنه لفهم الأزمة يجب أن تعرف أكثر.

وهنا تبدو الأمور ملتبسة أيضاً. فهم الأزمة الحالية في مصر لا يحتاج إلى حاصلين على جائزة نوبل في الاقتصاد. مجرد زيارة إلى محل للسلع الغذائية (بقالة) كافٍ تماماً لإدراكها. وهنا من حق المتضرر من الأزمة أياً كان تعليمه أو قدراته أن يسأل مَن يملك القرار عن أسبابها وطرق الخروج منها، أو أن يشكو من الضرر الواقع عليه بفعل السياسات العامة. لكن الرئيس يفعل عكس ذلك ويضع الأمور على رأسها في كلمته. فهو ينفي حق الناس في الكلام ويمنحه فقط لمَن يملك القرار بحكم المعرفة. العربة توضع أمام الحصان إذن.

يريد السيسي أن ينصّب نفسه حكماً على ما صنعته سياساته لأنه، وفقاً لكلمته، مثل البطريرك في الكنيسة، يعلم بحكم سلطته وقدراته ما لا نعلم. بعمد أو بدون عمد، يدشّن الرئيس المصري بطريركية سياسية موازية لبطريركية الكنيسة.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

فلنتشارك في إثراء مسيرة رصيف22

هل ترغب/ ين في:

  • الدخول إلى غرفة عمليّات محرّرينا ومحرراتنا، والاطلاع على ما يدور خلف الستارة؟
  • الاستمتاع بقراءاتٍ لا تشوبها الإعلانات؟
  • حضور ورشات وجلسات نقاش مقالات رصيف22؟
  • الانخراط في مجتمعٍ يشاركك ناسه قيمك ومبادئك؟

إذا أجبت بنعم، فماذا تنتظر/ ين؟

    Website by WhiteBeard
    Popup Image