شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
من نبوخذ نصر إلى تيطس... هكذا تمّ تخريب هيكل سليمان عبر العصور

من نبوخذ نصر إلى تيطس... هكذا تمّ تخريب هيكل سليمان عبر العصور

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة نحن والتاريخ

الأربعاء 26 يوليو 202312:27 م

يُعرف اليوم التاسع من شهر آب/ أغسطس، حسب التقويم اليهودي، باسم "تيشا بآف"، ويحظى بمكانة مهمة في الوجدان اليهودي الجمعي لموافقته ذكرى تدمير هيكل سليمان على يد العاهل البابلي نبوخذ نصر سنة 587 ق.م، كما أنه يوافق ذكرى إحراق الهيكل الثاني على يد القائد الروماني تيطس سنة 70 م. يُظهر اليهود الحزن والحداد في هذا اليوم، كما يمارسون فيه بعض الطقوس التعبدية الخاصة مثل الصوم، وتلاوة المراثي الواردة في كل من التناخ والتلمود.

يمكن القول إن تخريب الهيكل قد مرّ بعدد من الوقائع والأحداث المهمة عبر العصور. شهدت تلك الأحداث على وقوع الاشتباك بين الديني والسياسي من جهة، كما ألقت بظلالها على تاريخ فلسطين والشرق الأدنى القديم من جهة أخرى.

هيكل سليمان

يذكر التناخ/ العهد القديم، قصة بناء هيكل سليمان. يحكي الإصحاح الخامس والعشرون من سفر الخروج، أن يهوه -إله بني إسرائيل- طلب من شعبه أن يبنوا له مسكناً. ورد في السفر أن يهوه أمر النبي موسى "كَلِّمْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَأْخُذُوا لِي تَقْدِمَةً. مِنْ كُلِّ مَنْ يَحِثُّهُ قَلْبُهُ تَأْخُذُونَ تَقْدِمَتِي... فَيَصْنَعُونَ لِي مَقْدِساً لأَسْكُنَ فِي وَسَطِهِمْ...".

يحكي الإصحاح الخامس والعشرون من سفر الخروج، أن يهوه -إله بني إسرائيل- طلب من شعبه أن يبنوا له مسكناً

كان هذا المسكن هو التابوت الذي وُضعت فيه ألواح الشريعة المقدسة التي استلمها موسى من أعلى الجبل. بعد ذلك أمر يهوه بصناعة خيمة من شجر السنط، وجلود الحيوانات، والذهب، والفضة، والنحاس وأدوات الزينة. وُضع تابوت العهد في الخيمة، واعتاد الشعب الإسرائيلي على حملهما معاً في شتى الأماكن التي ارتحلوا إليها. نظر الإسرائيليون إلى الخيمة على كونها المكان الذي يتيح لهم الاجتماع بإلههم. في ذلك المعنى، جاء في الإصحاح الثالث والثلاثين من سفر الخروج: "وَأَخَذَ مُوسَى الْخَيْمَةَ وَنَصَبَهَا لَهُ خَارِجَ الْمَحَلَّةِ، بَعِيداً عَنِ الْمَحَلَّةِ، وَدَعَاهَا 'خَيْمَةَ الاجْتِمَاعِ'. فَكَانَ كُلُّ مَنْ يَطْلُبُ الرَّبَّ يَخْرُجُ إِلَى خَيْمَةِ الاجْتِمَاعِ الَّتِي خَارِجَ الْمَحَلَّةِ...".

تمكّن بني إسرائيل من دخول الأرض المقدسة في فلسطين بعد وفاة موسى. بعد فترة طويلة نُصّب داود ثاني ملوك الدولة الإسرائيلية الموحدة. خاض العديد من الحروب وارتكب بعض الخطايا والآثام بحسب ما جاء في التناخ. ورد في الإصحاح الثاني والعشرين من سفر أخبار الأيام الأول، أن الملك داود أراد أن يبني معبداً عظيماً يليق باسم إلهه. نهاه يهوه عن ذلك وأبلغه: "قَدْ سَفَكْتَ دَماً كَثِيراً وَعَمِلْتَ حُرُوباً عَظِيمَةً، فَلاَ تَبْنِي بَيْتاً لاسْمِي لأَنَّكَ سَفَكْتَ دِمَاءً كَثِيرَةً عَلَى الأَرْضِ أَمَامِي...".

بعد وفاة داود، وبعد مرور أربع سنوات على اعتلاء ابنه سليمان العرش، بدأ العمل في بناء الهيكل، وذلك أعلى جبل مورية في أورشليم، وهو المكان الذي عيّنه داود قبل وفاته. استعان اليهود بالعديد من العمال الأجانب في سبيل تشييد هذا البناء على أحسن صورة ممكنة. استمر بناء الهيكل لفترة تزيد عن سبع سنوات، واشترك مئات الآلاف من العمال اليهود والفينيقيين في تشييده.

حظي الهيكل بمكانة مقدسة بين اليهود، باعتباره مسكناً ليهوه. يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري

في كتابه "موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية"، موضحاً تلك النقطة: "ومن أهم أسماء الهيكل 'بيت يهوه'، لأنه أساساً مسكن للإله وليس مكاناً للعبادة (على عكس الكعبة مثلاً). ومن هنا، ورغم أنه كان مصرَّحاً للكهنة بل لعبيد الهيكل بالدخول فيه، فلم يكن يُسمَح لهم بالتحرك فيه بحرية كاملة. ولم يكن يُسمَح لأحد على الإطلاق بدخول قدس الأقداس إلا الكاهن الأعظم في يوم الغفران".

كان الهيكل مركزاً رئيساً للعبادة الإسرائيلية، واعتاد السنهدرين -مجمع الشيوخ- الاجتماع في إحدى القاعات المُلحقة به لمناقشة الأمور المهمة. تتضح مركزية الهيكل في الوجدان اليهودي في الاعتقاد اليهودي الشائع، والذي ينص على أن "الإله قرَّر بناء الهيكل قبل خلق الكون نفسه، فكأن الهيكل مثل اللوغوس (أو الكلمة المقدَّسة)، أو ابن الإله في اللاهوت المسيحي"، وذلك بحسب المسيري.

نبوخذ نصر والغزو البابلي

تمكّن البابليون من غزو نينوى -عاصمة الأشوريين- سنة 612 ق.م. وبعد ثلاث سنوات فقط احتل البابليون مدينة حران ليُفتح أمامهم الباب واسعاً للسيطرة على جميع بلاد الرافدين وسوريا.

تسبب الصعود البابلي في تشكيل تحالف سياسي-عسكري بين المصريين وبقايا الجيش الأشوري. في كركميش الواقعة على نهر الفرات، قاد الملك المصري نخاو الثاني قواته سنة 605 هـ، لقتال الجيش البابلي وحلفائه من الفرس والميديين. انتهت المعركة بهزيمة نخاو الثاني لينفرد نبوخذ نصر بالسيطرة على بلاد العراق والشام.

في سنة 587 ق.م، قاد الملك البابلي قواته لاجتياح مملكة يهوذا التي اعتاد ملوكها على إثارة القلاقل والتحالف مع المصريين. أحكم الجيش البابلي الحصار على العاصمة أورشليم لمدة ثمانية عشر شهراً. تعرضت المدينة للمجاعة بعد تناقص ما فيها من الأقوات، واضطرت إلى التسليم في نهاية المطاف.

نهب أنطيوخوس الرابع الهيكل، وبنى فيه مذبحاً للإله اليوناني زيوس، ومنع تقديم الذبائح. أدت تلك الأعمال الاستفزازية إلى اندلاع الثورة اليهودية ضد أنطيوخس، فماذا نتج عنها؟

يتحدث الإصحاح السادس والثلاثون من سفر أخبار الأيام الثاني عن الظروف الصعبة التي واجهها اليهود في تلك الفترة: "... فصعد عليهم ملك الكلدانيين فقتل مختاريهم بالسيف في بيت مقدسهم ولم يشفق على فتى أو عذراء ولا على شيخ أو أشيب بل دفع الجميع ليده. وجميع آنية بيت الله الكبيرة والصغيرة وخزائن بيت الرب وخزائن الملك ورؤسائه أتى بها جميعاً إلى بابل. وأحرقوا بيت الله وهدموا سور أورشليم وأحرقوا جميع قصورها بالنار وأهلكوا جميع أنيتها الثمينة. وسبى الذين بقوا من السيف إلى بابل فكانوا له ولبنيه عبيداً...".

أنطيوخوس الرابع والسلوقيون

حُطمت الإمبراطورية البابلية على يد الملك الفارسي كورش الكبير في أواسط القرن السادس قبل الميلاد. كان اليهود المسبيون قد لعبوا دوراً مهماً في تسهيل مهمة الغزو الفارسي لبابل، وعلى سبيل رد الجميل، سمح الفرس لليهود بالعودة مرةً أخرى إلى فلسطين.

بحسب ما ورد في سفر عزرا، فإن الملك الفارسي أعلن عن إعادة بناء الهيكل. ورد في الإصحاح الأول من السفر على لسان كورش: "... جَمِيعُ مَمَالِكِ الأَرْضِ دَفَعَهَا لِي الرَّبُّ إِلهُ السَّمَاءِ، وَهُوَ أَوْصَانِي أَنْ أَبْنِيَ لَهُ بَيْتاً فِي أُورُشَلِيمَ الَّتِي فِي يَهُوذَا. مَنْ مِنْكُمْ مِنْ كُلِّ شَعْبِهِ، لِيَكُنْ إِلهُهُ مَعَهُ، وَيَصْعَدْ إِلَى أُورُشَلِيمَ الَّتِي فِي يَهُوذَا فَيَبْنِيَ بَيْتَ الرَّبِّ إِلهِ إِسْرَائِيلَ...". عيّن كورش زربابل والياً على أورشليم، ومنحه الصلاحيات اللازمة لإعادة بناء الهيكل، وفي السياق نفسه سُلّم اليهود الآنية التي سُلبت من الهيكل الأول زمن نبوخذ نصر. أُعيد بناء الهيكل في الفترة 520- 515 ق.م، على يد زربابل ومن معه من اليهود المتدينين.

بعد فترة من السيطرة الفارسية، اجتاح الإسكندر المقدوني منطقة الشرق الأدنى. بعد وفاته قُسّمت مملكته بين قادة جيشه وعمل كل من البطالمة والسلوقيين على ضمّ فلسطين لأملاكهم. وحسب ما تؤكده المصادر التاريخية، فإن البطالمة قد تمكّنوا من السيطرة على فلسطين حتى سنة 198 ق.م تقريباً. وبعدها استطاع السلوقيون أن يفرضوا سيطرتهم الكاملة على تلك الأراضي، فنشروا فيها فيالقهم العسكرية القوية. ركزت سياسات الملك السلوقي أنطيوخوس الرابع على نشر الثقافة اليونانية في جميع الأقاليم التابعة له. أدى ذلك بالتبعية إلى تهميش الهوية اليهودية التقليدية. كان من الطبيعي -والحال كذلك- أن يتم استهداف الهيكل المقدس بصفته الرمز الأكثر قداسةً ع اليهود.

يحكي الأنبا مكاريوس تفاصيل هذا الاستهداف في كتابه "تفسير سفر المكابيين الأول"، فيقول: "... وفي الهيكل مارس الجنود الوثنيون شعائرهم بما يصاحب هذه الشعائر من سكر وعربدة وخلاعة، مما ينسب إلى 'عبادة باخوس' كما قاموا بذبح الخنازير على المذبح، ووصل أنطيوخس إلى الحد الأقصى في تحطيم اليهودية ومعاداة إلهها... وفي المقابل حُرم اليهود من الاحتفال بأعيادهم وممارسة طقوسهم مثل السبت والختان حيث كانت العقوبة في ذلك تصل إلى حد الموت... كذلك أمر أنطيوخس بإتلاف جميع نسخ التوراة أو أية أسفار أخرى".

في السياق نفسه، تذكر المصادر التاريخية نهب أنطيوخوس الرابع للهيكل، وأنه بنى فيه مذبحاً للإله اليوناني زيوس، كما أنه سرق ما فيه من أوانٍ ذهبية، ومنع تقديم الذبائح. أدت تلك الأعمال الاستفزازية إلى اندلاع الثورة اليهودية ضد أنطيوخس. قاد الكاهن متاتيا الحشموني تلك الثورة وخلفه عليها أبناؤه بعد وفاته، وتمكنوا من تحقيق العديد من الانتصارات العسكرية على القوات السلوقية.

كان تيطس معجباً بالهيكل، ونهى جنوده -مراراً- عن إحراق ذلك المعبد العظيم، ولكن "خرج الأمر عن يده ولم يقدر على منعهم"

تيطس والحرب الرومانية

في سنة 63 ق.م، زحف القائد الروماني بومبي على فلسطين، وتمكّن من غزوها ليضمها بذلك إلى الإمبراطورية الرومانية الواسعة. في سنة 20 ق.م، بدأ هيرود -حاكم منطقة الجليل واليهودية- في بناء هيكل جديد بدلاً من هيكل زربابل المتداعي الذي تعرّض للتخريب على يد السلوقيين. استمر العمل في البناء وقتاً طويلاً حتى تم الانتهاء منه بشكل كامل بعد أربعين سنةً. وقد عُرف هذا الهيكل باسم الهيكل الثاني.

ثار اليهود على الحكم الروماني لأكثر من مرة. في ستينيات القرن الأول الميلادي، وصل الإمبراطور فسباذيان إلى عرش روما، وأرسل ابنه تيطس على رأس جيش قوامه مئة ألف جندي للقضاء على التمرد اليهودي بشكل نهائي. ضرب الرومان الحصار على أورشليم لمدة خمسة شهور كاملة، وأبدى المدافعون عن المدينة قدرةً كبيرةً على التصدي للفيالق المدربة، ولكن تمكّن الرومان في نهاية المطاف من تحطيم أسوار العاصمة والقضاء على المقاومة، وانتشروا في كل ناحية من نواحي المدينة.

يذكر المؤرخ اليهودي يوسفيوس فلافيوس -الذي صاحب الحملة الرومانية وكان شاهد عيان عما جرى في تلك الحرب- أن تيطس كان معجباً بالهيكل، وأنه نهى جنوده -مراراً- عن إحراق ذلك المعبد العظيم، ولكن "خرج الأمر عن يد تيطس ولم يقدر على منعهم، ويُقال إنه: صاح في ذلك اليوم إلى أن بحّ حلقه وانقطع صوته ولم يُسمع كلامه". توجه الرومان نحو الهيكل وبدأوا بنهب محتوياته الثمينة، ويذكر يوسفيوس أن الكهنة تصدّوا لقتال الغزاة أمام الساحة الخارجية للهيكل حتى قُتلوا جميعاً.

ينقل القمّص ميخائيل جريس ميخائيل، في كتابه "مذكرات في تاريخ الكنيسة المسيحية"، شهادة يوسفيوس عمّا عاينه من خراب الهيكل في ذلك اليوم: "لا يمكن أن يتصوَّر أحد أصوات أعلى وأكثر فزعاً مما حدث في كل ناحية أثناء احتراق الهيكل. صيحات الانتصار والفرح الصادرة من الجنود الرومان، تختلط بصيحات عويل الشعب المُحاصر بالنار والسيف فوق الجبل وداخل المدينة، وكان الصدى الواصل من كل الجبال المُحيطة يزيد هذا الزئير الذي يصمّ الآذان، ومع ذلك فالبؤس نفسه كان أفظع من هذا الاضطراب. كان التل المُقام عليه الهيكل يغلي من السخونة، وبدأ وكأنه ملفوف حتى سفحه بطبقة واحدة من اللهب، كانت الدماء في كميتها أكثر من النار والمذبوحون أكثر عدداً ممن ذبحوهم، ولم تعد الأرض تُرى في أي موضع، إذ كانت مُغطاةً بأكوام من جثث القتلى، سار فوقها الجند وهم يتعقبون الهاربين...".

بعد سنوات من تلك الحادثة الدامية طُرد اليهود من أرض فلسطين، وبدأت مرحلة جديدة من مراحل الشتات اليهودي. برغم ذلك بقيت ذكرى هيكل سليمان حاضرةً بقوة، في الذهنية اليهودية الجمعية، وروّج الكهنة والمتدينون لما سموه بالهيكل الثالث، وهو الهيكل الذي سيُشيَّد بعد مجيء المسيح وعودة اليهود إلى أورشليم مرةً أخرى في آخر الأيام.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

‎من يكتب تاريخنا؟

من يسيطر على ماضيه، هو الذي يقود الحاضر ويشكّل المستقبل. لبرهةٍ زمنيّة تمتد كتثاؤبٍ طويل، لم نكن نكتب تاريخنا بأيدينا، بل تمّت كتابته على يد من تغلّب علينا. تاريخٌ مُشوّه، حيك على قياس الحكّام والسّلطة.

وهنا يأتي دور رصيف22، لعكس الضرر الجسيم الذي أُلحق بثقافاتنا وذاكرتنا الجماعية، واسترجاع حقّنا المشروع في كتابة مستقبلنا ومستقبل منطقتنا العربية جمعاء.

Website by WhiteBeard
Popup Image