في العام الثامن للهجرة، أسلم عمرو بن العاص بعد فترة طويلة من العداء للمسلمين. لم تمرّ شهور قليلة حتى أضحى عمرو واحداً من أهم القادة العسكريين الذين لعبوا أدواراً مؤثرةً في تثبيت سلطة دولة المدينة في شبه الجزيرة العربية، وكذلك في مدّ التوسعات الحربية على جبهات الشام ومصر والمغرب الأدنى.
في الوقت الذي يحظى فيه ابن العاص بمكانة متميزة ومبجلة في المتخيل السنّي، بوصفه قائداً عسكرياً، لا يُشقّ له غبار، فإنه، وعلى النقيض من ذلك، يظهر في المُتخيل الشيعي بوصفه شخصيةً مكروهةً، وذلك لموقفه المعادي لخلافة الإمام الأول علي بن أبي طالب.
من الكفر إلى الإسلام
وردت سيرة عمرو بن العاص في العديد من المصادر التاريخية الإسلامية المُعتبرة. من أهم تلك المصادر "السيرة النبوية" لابن هشام الحميري، و"الطبقات الكبير" لابن سعد، و"تاريخ الرسل والملوك" لابن جرير الطبري، و"سير أعلام النبلاء" لشمس الدين الذهبي.
لم تذكر أي من تلك المصادر توقيتاً دقيقاً لولادة عمرو. ولكن يذكر الذهبي في كتابه أن ابن العاص حضر ولادة عمر بن الخطاب، وأنه كان واعياً عندها، ويتذكر ذاك اليوم. وبناءً على تلك المعلومة، تكون ولادة عمرو بن العاص قد وقعت في سنة 47 قبل الهجرة على وجه التقريب.
يذكر المؤرخون أن عمرو عمل في تجارة القوافل، وزار العديد من المناطق والأقاليم القريبة من شبه الجزيرة العربية، ومنها كل من الحبشة، وبلاد الشام، واليمن، ومصر. تحدثت بعض الروايات عن مجموعة من الأحداث الغريبة التي صادفها عمرو في رحلاته. من تلك الأحداث أنه لمّا سافر إلى مصر وجد أشرافها يلعبون بكرة من الذهب في أحد أعيادهم. جلس عمرو ليشاهد تلك اللعبة العجيبة، وتصادف أن وقعت الكرة في كمه. قال له الحاضرون وقتها إن تلك علامة على ملكه لمصر. أورد المفكر المصري عباس محمود العقاد، تلك القصة في كتابه "عمرو بن العاص"، وعدّها نوعاً من أنواع القصص الخرافية، اختلقها الرواة والإخباريون لتفسير نجاح ابن العاص في الوصول إلى حكم مصر في ما بعد.
تذكر الروايات التاريخية أن عمرو أظهر المعاداة للإسلام وللنبي محمد، وأنه كان الرسول الذي بعث به القريشيون إلى الحبشة ليرد المهاجرين المسلمين الذين فرّوا من قريش واحتموا بالنجاشي.
لمّا سافر عمرو إلى مصر وجد أشرافها يلعبون بكرة من الذهب. جلس ليشاهد تلك اللعبة العجيبة، وتصادف أن وقعت الكرة في كمه. قال له الحاضرون وقتها إن تلك علامة على ملكه لمصر!
جاء في سيرة ابن هشام، أن عمرو عمل على إحداث الوقيعة بين المسلمين والنجاشي عندما ذكر أن الإسلام يقدّم رؤيةً مختلفةً للمسيح. ولكن فشلت خطة عمرو بعدما وافق النجاشي على التصور الذي عرضه المسلمون للمسيح حينها.
شارك عمرو في الحروب التي خاضتها قريش ضد المسلمين، فكان حاضراً في كل من غزوة بدر، وغزوة أحد، وغزوة الخندق. ولكنه مال إلى الإسلام بعد توقيع الصلح بين المسلمين وقريش في الحديبية في السنة السابعة للهجرة. تذكر الروايات أن ابن العاص قرر السفر إلى المدينة المنورة لينضم إلى المسلمين، وفي طريقه قابل كلاً من خالد بن الوليد، وعثمان بن مظعون، وقام الثلاثة بإعلان إسلامهم أمام النبي.
افتتح عمرو بإسلامه فصلاً جديداً من سيرته، إذ ولّاه النبي قيادة عدد من السرايا، منها سرية ذات السلاسل، وسرية هدم صنم سواع. وبعد فتح مكة، بعث به النبي إلى عمان لدعوة ملكها إلى الإسلام، ثم عيّنه على جمع الصدقات والزكاة من أهل تلك المنطقة. وظل في ذلك المنصب حتى توفي النبي في ربيع الأول من السنة الحادية عشرة للهجرة.
من حروب الردة إلى الفتنة الكبرى
حظي عمرو بمكانة مهمة في دولة الخلافة الراشدة. عينّه الخليفة الأول أبو بكر الصديق قائداً لأحد الجيوش المتوجهة إلى قتال المرتدين. وبعدها، اشترك ابن العاص في حركة التوسعات العسكرية على الجبهة الشامية، فقاتل في كل من أجنادين، واليرموك، وفتح دمشق. ثم قاد الجيش الإسلامي في فلسطين، وحاصر بيت المقدس، وتمكّن من إقناع الخليفة الثاني عمر بن الخطاب بأهمية فتح مصر، فتحرك إلى العريش في أواخر سنة 18هـ، واستولى على المدن المصرية مدينةً وراء أخرى. وفي بدايات سنة 21هـ، أنهى مهمته بنجاح بعدما استولى على الإسكندرية لتنضم مصر بذلك إلى دولة الخلافة الإسلامية. بعدها، عُيّن عمرو والياً على مصر من قِبل عمر بن الخطاب، فتابع استكمال فتوحاته على الجهة الغربية واستولى على مناطق برقة وطرابلس وفزان. كما أسس العاصمة الجديدة المُسماة بالفسطاط، وتمكن من جمع مبالغ ضخمة من الجزية والخراج وأرسلها إلى المدينة المنورة.
أبرزت المصادر التاريخية حرص عمرو على الاقتراب من دوائر السلطة في المدينة المنورة عقب اغتيال عمر بن الخطاب في سنة 23هـ. حاول والي مصر في تلك الفترة أن يظهر كواحد من أهل الحل والعقد في أثناء المشاورات التي سبقت اختيار الخليفة الثالث عثمان بن عفان. استمر عمرو والياً على مصر بعد استخلاف عثمان، ولكن سرعان ما انتُقصت صلاحياته عندما أُوكلت له مهمة جمع الخراج إلى عبد الله بن سعد بن أبي السرح. عبّر عمرو عن غضبه من هذا القرار، إذ قال: "أمسك البقرة من قرنيها، وغيري يحلبها!"، وذلك بحسب ما يذكر ابن عبد الحكم في كتابه "فتوح مصر وأخبارها".
فى سنة 27هـ، قام عثمان بن عفان بعزل عمرو عن ولاية مصر، وجمع الولاية والخراج لعبد الله بن سعد بن أبي السرح. برغم ذلك، حافظ عمرو على مكانته كواحد من أفراد الطبقة الأرستقراطية القريشية القريبة من دوائر السلطة. ظهر ذلك عندما تصاعد غضب الأمصار الإسلامية ضد سياسات الخليفة الثالث. استدعى الخليفة عمرو بن العاص لاستشارته، فنصحه أمام الناس قائلاً: "يا أمير المؤمنين، إنك قد ركبت الناس بمثل بني أمية فقلت وقالوا، وزغت وزاغوا، فاعتدل أو اعتزل، فإن أبيت فاعتزم عزماً وأقدم قدماً"، فنهره عثمان وغضب من كلامه.
استدعى مرّة الخليفة، عمرو بن العاص لاستشارته، فنصحه أمام الناس قائلاً: "يا أمير المؤمنين، إنك قد ركبت الناس بمثل بني أمية فقلت وقالوا، وزغت وزاغوا، فاعتدل أو اعتزل، فإن أبيت فاعتزم عزماً وأقدم قدماً"
تكمل الرواية أن عمرو انتظر حتى خرج جميع الناس من عند عثمان فخلا به، وقال له: "والله يا أمير المؤمنين لأنت أكرم عليّ من ذلك، ولكني علمت أن بالباب من يبلغ الناس قول كل رجل منا فأردت أن يبلغهم قولي فيثقوا بي فأقود إليك خيراً وأدفع عنك شرّاً"، وذلك بحسب ما يذكر ابن الأثير في كتابه "الكامل في التاريخ". ظهرت معارضة عمرو لعثمان في مواقف أخرى كثيرة؛ على سبيل المثال ينقل ابن الأثير على لسان عمرو أنه وصف مشاركته الفعالة في الحشد ضد الخليفة بقوله: "والله إني كنت لألقى الراعي فأحرّضه على عثمان".
بعد مقتل عثمان بن عفان في أواخر سنة 35هـ، وقف عمرو في صف الأمويين المطالبين بأخذ الثأر من قتلة الخليفة. شارك عمرو في حرب صفين بجوار والي الشام معاوية بن أبي سفيان في سنة 37هـ، ولعب دوراً مهماً في إنقاذ الشاميين من الهزيمة في المعركة. يحكي الطبري تفاصيل هذا الدور في كتابه فيقول: "... لما رأى عمرو بن العاص أن أمر أهل العراق قد اشتد، وخاف في ذلك الهلاك، قال لمعاوية: هل لك في أمر أعرضه عليك لا يزيدنا اجتماعاً، ولا يزيدهم إلا فرقةً؟ قال: نعم، فقال: نرفع المصاحف ثم نقول: ما فيها حكم بيننا وبينكم، فإن أبى بعضهم أن يقبلها وجدت فيهم من يقول: بلى، ينبغي أن نقبل، فتكون فرقة تقع بينهم، وإن قالوا: بلى، نقبل ما فيها، رفعنا هذا القتال عنا وهذه الحرب إلى أجل أو إلى حين...".
نجحت خطة عمرو ورضخ العراقيون لطلب وقف القتال، وتفرّق جيش علي بن أبي طالب ما بين راضٍ بالصلح، وكارهٍ له. في السنوات التي أعقبت تلك المعركة، حافظ عمرو على علاقته القوية بمعاوية حتى توفي في مصر في سنة 43هـ، ودُفن في مدينة الفسطاط.
مؤمن مجاهد أم منافق غادر؟
لعب عمرو بن العاص أدواراً مهمةً على الساحة السياسية في حقبة الإسلام المبكر. وكان من الطبيعي أن تنعكس تلك الأدوار على النظرة المُتخيلة لشخصيته في الذاكرة الجمعية السائدة في كل من المذهب السنّي، والمذهب الشيعي الإمامي الاثني عشري.
يظهر عمرو بن العاص في المُتخيل السنّي كواحد من كبار الصحابة الذين شهد لهم الله والرسول بالفضل والعدالة. في هذا السياق، تُروى بعض الأحاديث المنسوبة إلى النبي والتي تؤكد على إيمان عمرو. من ذلك ما ورد في مسند أحمد بن حنبل: "ابْنَا الْعَاصِ مُؤْمِنَانِ هِشَامٌ وَعَمْرٌو"، وكذلك ما جاء في سنن الترمذي "أَسْلَمَ النَّاسُ وَآمَنَ عَمْرُو بْنُ العَاصِ". من هنا فإن رواة الحديث قالوا بتعديل عمرو بن العاص ورووا عنه ما يقرب من الأربعين حديثاً عن النبي.
من جهة أخرى، احتفى المُتخيّل السنّي بعمرو باعتباره واحداً من القادة الدُهاة المعدودين الذين أسهموا بحظ وافر في نجاح الموجة الأولى من الفتوحات الإسلامية. بحسب تلك النظرة فإن عمرو نشر الإسلام في كل من الشام ومصر وبلاد المغرب. واستغل ذكاءه ودهاءه في تحقيق الانتصارات المتوالية على جيوش الروم البيزنطيين. من هنا نفهم سبب انتشار المقولة المنسوبة إلى عمر بن الخطاب عندما بعث بابن العاص لقتال واحد من أذكى قادة الروم، إذ قال: "لقد رمينا أرطبون الروم بأرطبون العرب...".
دافع علماء أهل السنّة والجماعة عن عمرو بن العاص أمام المطاعن التي وُجّهت إليه من قِبل الشيعة. على سبيل المثال، قال أهل السنّة إن الروايات التي لجأ إليها الشيعة مجرد روايات مكذوبة لا أصل لها. أيضاً، قال أهل السنّة إن عمرو كان -كغيره من الصحابة- يتحرى الحق والعدالة في جميع مواقفه، وإنه إنما كان مجتهداً، وله أجران إن أصاب، وأجر واحد إن أخطأ.
على الجانب المقابل، رفض الشيعة النظرة السابقة جملةً وتفصيلاً. يظهر عمرو بن العاص في المُتخيّل الشيعي -ولا سيما الشيعي الإمامي الاثني عشري- كواحد من الصحابة الذين خانوا العهد الذي قطعوه مع النبي عندما عهد إلى علي بن أبي طالب بالخلافة من بعده. يفسر الشيعة مواقف عمرو السياسية بطمعه وبحثه المستمر عن السلطة والنفوذ والمال.
أمر معاوية صديقه عمرو بأن يخرج لقتال عليّ بدلاً منه: "... فلمّا خرج للمبارزة مكرهاً وشدّ عليه عليٌّ المرهوبة، رمى عمرو بنفسه عن فرسه، ورفع ثوبه وشَغَرَ برجليه فبدت عورته فصرف عليٌّ وجهه عنه وقام معفراً بالتراب هارباً"
على سبيل المثال، فسّر الشيعة التحالف الذي وقع بين عمرو ومعاوية بن أبي سفيان ضد علي بن أبي طالب، برغبة الأول في الاحتفاظ بخراج مصر لنفسه. ويستدلون إلى ذلك بما أورده أبو حنيفة الدينوري في كتابه "الأخبار الطوال"، بأن عمرو قال لمعاوية عند عقد الاتفاق: "اجعل لي مصر طعمةً ما دامت لك ولاية".
بموجب تلك النظرة، عُدّ عمرو من الشخصيات المكروهة في الوجدان الشيعي، ونُظر إلى ذكائه الذي اشتهر به على كونه خُبثاً مذموماً لا يليق بالرجال. من أشهر الروايات التي توضح تلك النظرة ما ذكره الطبري في واقعة التحكيم عن الإخباري الشيعي أبي مخنف لوط بن يحيى الأزدي. جاء في تلك الرواية أن عمرو استغل طيبة أبي موسى الأشعري في أثناء التحكيم في دومة الجندل، وأن أبا موسى لمّا خرج للناس وقال لهم إنه اتفق مع عمرو على خلع كل من علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان من الخلافة، فإن عمرو خدعه وقال: "...إن هذا -يقصد أبا موسى الأشعري- قد قال ما سمعتم وخلع صاحبه، وأنا أخلع صاحبه كما خلعه، وأثبت صاحبي معاوية...".
في السياق نفسه، حاولت السردية الشيعية أن تثبت جبن عمرو بن العاص وضعفه أمام قوة علي بن أبي طالب وشجاعته. على سبيل المثال، يذكر نصر بن مزاحم في كتابه "وقعة صفين"، أن علي بن أبي طالب دعا معاوية للمبارزة في المعركة، فأمر معاوية صديقه عمرو أن يخرج للقتال بدلاً منه: "... فلمّا خرج للمبارزة مكرهاً وشدّ عليه عليٌّ المرهوبة، رمى عمرو بنفسه عن فرسه، ورفع ثوبه وشَغَرَ برجليه فبدت عورته فصرف عليٌّ وجهه عنه وقام معفراً بالتراب هارباً على رجليه، معتصماً بصفوفه".
كذلك، حاولت السردية الشيعية أن تحطّ من قدر عمرو بن العاص من خلال الطعن في نسبه وأصله. ينقل عبد الحسين الأميني في كتابه "الغدير في الكتاب والسنّة والأدب"، عن الإخباري الشيعي أبي المنذر الكلبي قوله: "... وأما النابغة أم عمرو بن العاص: فإنها كانت بغياً من طوايف مكة فقدمت مكة ومعها بنات لها، فوقع عليها العاص بن وائل في الجاهلية في عدة من قريش منهم: أبو لهب، وأمية بن خلف، وهشام بن المغيرة، وأبو سفيان بن حرب، في طهر واحد فولدت عمراً فاختصم القوم جميعاً فيه كل يزعم أنه ابنه... فحكّموا أمه فيه فقالت: للعاص. فقيل لها بعد ذلك: ما حملك على ما صنعت وأبو سفيان أشرف من العاص؟ فقالت: إن العاص كان ينفق على بناتي، ولو ألحقته بأبي سفيان لم ينفق عليّ العاص شيئاً وخفت الضيعة...".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.