شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!

"أنقذ الأندلس وسجن ابن رشد"... عن "جدلية" الخليفة الموحدي يعقوب المنصور

سياسة نحن والتاريخ

الخميس 15 يونيو 202302:46 م

أسهمت السلطة بحظ وافر في تشكيل معالم الثقافة الإسلامية، إذ عمل الخلفاء والسلاطين والحكام على الاحتفاظ بالنفوذ والقوة على مرّ القرون، ووضعوا أُطراً وتقاليد لشكل العلاقة المعقودة بين المعرفي والسياسي. في هذا السياق، تظهر شخصية الخليفة الموحدي الثالث أبي يوسف يعقوب المنصور، كنموذج للسلطان الذي تباينت مواقفه في ميادين الدين، والسياسة، والفلسفة.

من ابن تومرت إلى المنصور

وُلد محمد بن تومرت في سبعينيات القرن الخامس الهجري في بلاد المغرب الأقصى، وهاجر إلى الأندلس في شبابه ومكث فيها فترةً، قبل أن يعقد العزم على الارتحال شرقاً. زار ابن تومرت بلاد المغرب الأدنى، ومصر، والحجاز، وبلاد الشام، والعراق. ودرس على يد أعظم العلماء المعروفين في عصره. ثم رجع مرةً أخرى إلى موطنه في السوس الأقصى بعد أن صار عالماً عارفاً بالفقه والأصول.

في رمضان سنة 515هـ (بين 1121-1122م)، وقف ابن تومرت بين أتباعه ومريديه وأعلن أنه المهدي المنتظر المعصوم الذي بشرت به الأحاديث النبوية. ولم يلبث أن لاقت دعوته، التي عُرفت باسم الدعوة الموحدية، القبول والانتشار بين مختلف قبائل المصامدة، حتى أقدم على تجهيز أتباعه للقتال، فاتخذ من جبل تينمل (في المغرب)، معقلاً له، وأمر أنصاره بخوض الحرب ضد الدولة المرابطية التي تحكم المغرب والأندلس. وبالفعل، حقق الموحدون الانتصارات المتوالية على المرابطين. وفي سنة 524هـ، توفي ابن تومرت ليخلفه تلميذه عبد المؤمن بن علي الكومي، في زعامة الدعوة. وظلت الحرب بين الموحدين والمرابطين قائمةً حتى تمكّن عبد المؤمن من القضاء نهائياً على الدولة المرابطية في سنة 539هـ، ليؤسس بذلك ما عُرف باسم "الدولة الموحدية الكبرى"، وليتخذ لنفسه لقب "أمير المؤمنين".

وقف ابن تومرت بين أتباعه وأعلن أنه المهدي المنتظر المعصوم، واتخذ من جبل تينمل (في المغرب)، معقلاً له، وأمر أنصاره بخوض الحرب ضد الدولة المرابطية التي تحكم المغرب والأندلس، وانتصر.

عقب نجاحهم في المغرب، تمكّن الموحدون من دخول الأندلس وضمه إلى ملكهم، وبعد وفاة عبد المؤمن بن علي، في سنة 558هـ، تولى الحكم ابنه يوسف بن عبد المؤمن. وطد الخليفة الجديد النفوذ الموحدي في المغرب والأندلس، كما خاض معارك شرسةً ضد الممالك النصرانية الواقعة في شمال شبه الجزيرة الأيبيرية. وفي سنة 580هـ، لفظ يوسف أنفاسه الأخيرة بالقرب من حصن شنترين في البرتغال الحالية، وذلك بعد أن أصيب بعدد من الجروح الخطيرة في حربه ضد ألفونسو الأول، ملك البرتغال. وهكذا وجد ولي العهد يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن نفسه، قد أضحى ثالث خلفاء الدولة الموحدية.

بطل الأرك

وصل يعقوب بن يوسف إلى سُدة الحكم، ولم يكن قد تجاوز الخامسة والعشرين من عمره بعد. عمل أولاً على تقوية نفوذه في المغرب، فأخضع بعض المتمردين الذين ثاروا عليه. ثم خطط بعدها لاستعادة هيبة الموحدين في الأندلس بعد الهزيمة التي تعرضوا لها في شنترين (شمال لشبونة)، فقام بعدد من الغارات الخاطفة ضد ممالك البرتغال وقشتالة وليون.

في بداية تسعينيات القرن السادس الهجري، وصلت إلى يعقوب رسالة تهديد من جانب ملك قشتالة ألفونسو الثامن. أعدّ الخليفة الموحدي العدة عندها للحرب، وزحف بجيوشه إلى الأندلس، وفي تموز/ يوليو 1195م/ شعبان 591هـ، حارب القشتاليين في معركة الأرك الفاصلة، وتمكن من تحقيق الانتصار في تلك الموقعة، ليجبر ملوك الممالك النصرانية على طلب الهدنة والصلح مع الموحدين.

لم يكتفِ يعقوب المنصور بإنجازاته الضخمة في ميادين الحرب، بل قام كذلك بنهضة عمرانية كبرى لا تزال آثارها قائمةً حتى الآن في الكثير من المدن المغربية والأندلسية. على سبيل المثال، بنى المنصور جامع الكتبية في مدينة مراكش، كما شرع في بناء جامع حسان في الرباط. أما في مدينة إشبيلية الأندلسية، فقد بنى مئذنةً رائعةً في المسجد الكبير، وهي نفسها التي عُرفت بالخيرالدا، التي أصبحت في ما بعد برجاً لأجراس كاتدرائية إشبيلية.

يتحدث ابن خلكان في كتابه "وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان"، عن المنجزات التي قام بها المنصور في فترة حكمه فيقول: "أظهر أبهة ملكهم -يقصد الموحدين- ورفع راية الجهاد ونصب ميزان العدل وبسط أحكام الناس على حقيقة الشرع ونظر في أمور الدين والورع والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأقام الحدود حتى في أهله وعشيرته الأقربين، كما أقامها في سائر الناس أجمعين، فاستقامت الأحوال في أيامه وعظمت الفتوحات".

موقفه من ابن رشد

ضم بلاط يعقوب المنصور العديد من المفكرين والفلاسفة، ومن أشهرهم الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي، والفيلسوف أبي الوليد ابن رشد القرطبي. وتُعدّ علاقة المنصور بابن رشد تحديداً، نموذجاً ممتازاً لفهم العلاقة الجدلية بين السياسي والمعرفي في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية. كان ابن رشد يتولى قضاء إشبيلية، ويشغل في الوقت نفسه منصب الطبيب الخاص للخليفة. تذكر المصادر التاريخية أن يعقوب كان يحترم ابن رشد ويعظّمه، ويقرّبه منه ويستشيره في الكثير من الأمور. وكان من المعتاد أن يتبسط الخليفة في الحديث مع ابن رشد حتى أن الأخير اعتاد على مناداته بـ"يا أخي".

اتهم الفقهاء ابن رشد بالكفر والخروج عن الشريعة، ورفعوا الأمر للخليفة. وعندها، أصدر المنصور قراره بإحراق كتب ابن رشد، ونفاه إلى أليسّانة الواقعة في جنوب قرطبة، قبل أن يعود ويعفي عنه بعد 3 سنوات

تغيّر ذلك كله بعد أن اصطدم ابن رشد بالفقهاء، بعدما كتب مؤلفه الشهير "تهافت التهافت"، والذي رد فيه على كتاب "تهافت الفلاسفة"، الذي ألّفه حجة الإسلام أبو حامد الغزالي. روّج التقليد الموحدي لقصة دراسة ابن تومرت على يد الغزالي، ومن ثم حظي الغزالي بمقام مُعتبر في الوجدان الموحدي، وكان من الطبيعي في هذا السياق أن يتصدى الفقهاء والعلماء لابن رشد لكونه قد تجرأ على انتقاد واحد من أكبر رموزهم الدينية.

يذكر محمد عبد الله عنان، في كتابه "دولة الإسلام في الأندلس"، أن الفقهاء اتهموا ابن رشد بالكفر والخروج عن الشريعة، ورفعوا الأمر للخليفة. وعندها، أصدر المنصور قراره بإحراق كتب ابن رشد، ونفاه إلى أليسّانة الواقعة في جنوب قرطبة. يمكن أن نفسر قرار المنصور بأنه كان استجابةً للسلطة الدينية، وبأنه كان يرغب في الاستفادة من الزخم الديني الذي يحدثه هؤلاء الفقهاء في تعبئة الناس لمواصلة مشاريعه الحربية في شبه الجزيرة الأيبيرية.

بقي ابن رشد في سجنه لمدة ثلاثة أعوام، ثم أُفرج عنه أخيراً. يقول عنان شارحاً أسباب العفو عن الفيلسوف الأشهر: "جماعة من أكابر أهل إشبيلية، خاطبوا المنصور في شأن الفيلسوف وزملائه، وتشفعوا لديه في سبيل إقالتهم والعفو عنهم، ونفوا بالأخص عن الفيلسوف تهمة المروق والزيغ، وشهدوا بحسن إيمانه وسلامة عقيدته... فاستجاب المنصور لشفاعتهم، وعفا عن ابن رشد وزملائه، وذلك في سنة 594هـ، وهكذا استردّ الفيلسوف حظوته ومكانته في البلاط الموحدي، وعاد إلى مراكش ليلتحق ببلاط الخليفة. بيد أنه لم يمكث فيها سوى فترة يسيرة، وتوفي في التاسع من شهر صفر سنة 595هـ".

اعتقاده في ابن تومرت

من الملامح المميزة لحكم أبي يوسف يعقوب المنصور، أنه كان صاحب رؤية دينية مختلفة عن الرؤى التقليدية الشائعة في الدولة الموحدية، فقد أمر بإحراق كتب المذهب المالكي، وتعصب للمذهب الظاهري ولآراء الفقيه الأندلسي ابن حزم القرطبي. من جهة أخرى، أعلن المنصور عن رفضه للكثير من الأفكار التي جاء بها مؤسس الدعوة الموحدية، محمد بن تومرت، الأمر الذي يمكن عدّه بمثابة الثورة الفكرية التي هزّت أركان الدولة الموحدية الكبرى في هذا العصر.

يذكر الدكتور السيد عبد الهادي الحسين، في كتابه "مظاهر النهضة الحديثية في عهد يعقوب المنصور الموحدي"، أن تعظيم المهدي ابن تومرت ظل سارياً في الدولة الموحدية في عهد الخليفتين الأولين، عبد المؤمن بن علي، وابنه يوسف بن عبد المؤمن، "واستمر الأمر على ذلك إلى زمن الخليفة يعقوب المنصور الذي لا يرى رأي الموحدين في عصمة ابن تومرت، ولم يكن من المؤمنين بإمامته، وكان يستخف بعقول من يقول بها". ولكن على الرغم من ذلك، استمر احترام ابن تومرت سائداً في الدولة لأن الخلافة الموحدية كانت قائمةً في الأساس تحت لواء الدعوة المهدوية التي نادى بها ابن تومرت.

تسبب رأي المنصور الرافض لبعض الأفكار التومرتية في تفكيك الدعوة برمتها في ما بعد، ووقع ذلك بعد أقل من ثلاثة عقود، حين أعلن إدريس المأمون، تاسع خلفاء الدولة الموحدية، صراحةً، عن رفضه الاعتقاد بعصمة ابن تومرت في رسالة بعث بها إلى قادة الدولة وعلمائها. وأوضح أنه ما أقدم على اتخاذ تلك الخطوة إلا بالرجوع إلى ما بدر عن الخليفة يعقوب المنصور في الفترة الأخيرة من حياته.

وقد جاء في تلك الرسالة بحسب ما يذكر ابن عذاري المراكشي، في كتابه "البيان المغرب في أخبار ملوك الأندلس والمغرب": "ولتعلموا أنّا نبذنا الباطل، وأظهرنا الحق، وأن لا مهدى إلا عيسى بن مريم، وما سُمّي مهدياً إلا لأنه تكلم في المهد، وتلك بدعة قد أزلناها، والله يعيننا على القلادة التي تقلدناها. وقد أزلنا لفظة العصمة عمّن لا تثبت له عصمة، فلذلك أزلنا عنه رسمه، فتسقط وتبيت، وتمحى ولا تثبت. وقد كان سيدنا المنصور، رضي الله عنه، همّ أن يصدع بما به الآن صدعنا، وأن يرقع للأمة الخرق الذي رقعنا، فلم يساعده لذلك أمله، ولا أجّله إليه أجله".

نهايته الغامضة

يحيط الغموض بالفترة الأخيرة من حياة الخليفة الموحدي الثالث أبي يوسف يعقوب المنصور. يظهر مشهد وفاته في كتابات المؤرخين المغاربة القدامى بشكل اعتيادي. على سبيل المثال، يذكر ابن عذاري المراكشي في كتابه أن المنصور لمّا مرض وأيقن بقرب وفاته جمع الأمراء والقادة وقال: "أيها الناس رحمكم الله، إن هذه العلل والأمراض قد توالت علينا، وهدّت قوانا، وهتكت جوارحنا، وأظن والله أعلم بغيبه أن هذه العلة هي آخر عهدنا بهذه الدنيا، وأنها القاضية علينا، فانظروا رحمكم الله، وأعانكم على طاعته، من تقدّمون على أنفسكم وعلى رقاب المسلمين". اتفق المنصور بعدها مع الحاضرين على اختيار ابنه محمد الناصر لخلافته، ثم توفي في الثاني والعشرين من شهر ربيع الأول سنة 595هـ، ونُقلت رفاته بعد فترة إلى تينمل، ودفن فيها.

اختلفت الروايات في أمره، فمن الناس من يقول إنه ترك ما كان فيه وتجرد وساح في الأرض حتى انتهى إلى بلاد الشرق وهو مستخفٍ لا يُعرف، ومات خاملاً، ومنهم من يقول: إنه رجع إلى مراكش وتوفي بمدينة سلا

على الجانب الآخر، تذكر بعض المصادر التاريخية المشرقية أن المنصور قد زهد في الدنيا وفارق ملكه ورحل إلى المشرق. على سبيل المثال، يقول ابن خلكان في كتابه: "اختلفت الروايات في أمره، فمن الناس من يقول: إنه ترك ما كان فيه وتجرد وساح في الأرض حتى انتهى إلى بلاد الشرق وهو مستخفٍ لا يُعرف، ومات خاملاً، ومنهم من يقول: إنه لما رجع إلى مراكش توفي وقيل إنه مات بمدينة سلا، والله أعلم".

يذكر ابن خلكان، الذي عاش في القرن السابع الهجري، أن بعض أهل لبنان قد أكدوا له أن قبر الخليفة المنصور يقع في إحدى القرى في منطقة البقاع. حالياً، تُعرف هذه البلدة باسم بلدة السلطان يعقوب، وهي تبعد 65 كيلومتراً عن العاصمة بيروت. ويؤكد أهل البلدة أن السلطان يعقوب المنصور سكن في بلدتهم في آخر أيامه، وأنه دُفن في مكان حفره بيده داخل الصخور قبل موته.

وكما هي العادة الشائعة، تحولت البلدة بسبب هذا المقام، "إلى مزار لأهالي البلدة والمنطقة الذين ينذرون النذور لله عن طريق 'يعقوب'، فمنهم من ينذر نقوداً، أو ذبيحةً، أو شمعاً، أو زيارةً للبلدة والمقام وهو حافي القدمين، ومنهم من يقرأ مولداً (سيرة الرسول) لأنه مرّ بشدة أو مصيبة، وتضرع إلى الله بأن يفرج عنه بكرامة 'السلطان يعقوب' نزيل المقام". وهكذا تحول هذا السلطان المغربي الذي قارع النصارى وانتصر عليهم في الأندلس، إلى وليّ صوفي زهد في المُلك والدنيا، في الوجدان المشرقي!


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel
Website by WhiteBeard
Popup Image