قبل أن ينشر الفجر خيوط ضيائه الأولى، تقطع أم زهوان (34 عاماً)، ومعها عدد من رفيقاتها، ثلاثة كيلومترات ليصلن إلى شاطئ العارة، القريب من باب المندب، في محافظة لحج (150 كم شرق عدن)، من أجل بدء جولة الصيد البحرية الأولى في ذلك النهار، بواسطة قارب مستأجَر، مقابل 20% من حاصل صيدهنّ.
تقول لرصيف22، إنها أمّ لطفلين، وظروف الحرب وتبعاتها التي ألقت بثقلها على وضع أسرتها المادي، فضلاً عن وضع رفيقاتها، دفعتهنّ لممارسة مهنة صيد الأسماك التي كانت في السابق حكراً على الرجال.
"نقطع أكثر من عشرين كيلومتراً في عمق البحر، نلقي شباكنا وننتظر ما يجود به البحر من أسماك"؛ هكذا تلخص الرحلتَين اليوميتَين اللتين يقمن بهما، صباحاً، وعصراً، وحين يعدن إلى الشاطئ، يتولى أزواجهنّ أو نساء أخريات إفراغ حمولتهن في صناديق، ويبعنها في مكان مخصص لذلك على بعد 500 متر.
يمنيات مكافحات
في محافظة لحج، وعلى طول ساحلها الممتد بين محافظتَي تعز وعدن، تمارس المئات من النساء الصيد، متحدياتٍ مصاعب المهنة وتغيّرات مزاج البحر وتقلبات السوق وتدني أسعار الأسماك، وأكثرها شيوعاً؛ "الباغة والجحش والوزف والشروة والبنجيز والصوامع والبياض".
ووفقاً لرئيسة جمعية المرأة الساحلية في الخور، إيمان دربعي، هنالك 8،000 صياد ينشطون على ذلك الساحل، بينهم 1،300 امرأة، يتوزعون على مناطق صيد رئيسية هي: بلدة الخور، ورأس العارة، وسقيا المتاخمة لباب المندب.
تشير دربعي لرصيف22، إلى جملة من المصاعب التي تواجه العاملات في مجال صيد الأسماك في المنطقة، منها اضطرار البعض منهن إلى التوقف عن العمل بضعة أيام، لعدم توافر قوارب صيد، والتي في العادة يستأجرنها من صيادين من أقاربهن ومعارفهن، بأجور رمزية على سبيل الدعم أو مقابل نسب من الحمولة.
وتضيف: "ارتفاع أسعار المشتقات النفطية التي تحتاجها محركات القوارب، وانعدامها في أحيان كثيرة، يعنيان انتظارهن لأيام أو حتى لأسابيع، كما أن عدم وجود كاسر للأمواج في المنطقة يعرّضهن لمخاطر انقلاب القوارب، وهذا الأمر يشغل أذهان جميع الصيادين، رجالاً ونساء على حد سواء".
وعن تسويق أسماك الصيّادات، تقول دربعي إن ذلك يتم من خلال: "مركز إنزال خاص بالأسماك، بعد أن كان الزبائن يشترونها منا مباشرةً قبل نشوب الحرب في 2015، مما يعني عدم تحكمنا بالأسعار"، وترى أن الأسعار في الوقت الراهن مناسبة لكن المشكلة تكمن في "الغلاء المستشري في البلاد والذي قضى على طموحهن في تكوين أنفسهن، لأنهن لا يحصلن على ما يكفي لذلك".
الأمينة العامة لجمعية المرأة في لحج، مريم سيف البرهمي، تقول لرصيف22، إن "أدوار النساء في المنطقة لا تقتصر على الاصطياد فقط، وإن كثيرات منهن يعملن في مهنة حياكة شباك الصيد، فضلاً عن نقل الأسماك وبيعها".
وذكرت أن جمعيتها تلقّت مؤخراً، بعضاً من الدعم من منظمات تنشط في لحج، تعلقت بأدوات الغوص الخاصة بالنساء كنظارات السباحة والجزم، وأنها تسعى جاهدةً إلى الحصول على المزيد من الدعم لتخفيف العبء عن كواهل الصيّادات، لكون مهنتهن هي مصدر عيشهن الوحيد.
أدوار النساء في محافظة لحج اليمنية لا تقتصر على الاصطياد فقط. كثيرات يعملن في مهنة حياكة شباك الصيد، فضلاً عن نقل الأسماك وبيعها، علماً بأن صيد الأسماك يشكّل ثاني أكبر مصدر لإيرادات التصدير في اليمن.
غلاء التكاليف
شكّل قطاع صيد الأسماك في اليمن، ثاني أكبر مصدر لإيرادات التصدير بعد النفط، قبل الحرب، وفق بيانات وزارة الثروة السمكية، إذ ساهم بـ3% من إجمالي الناتج المحلي، وبحسب الوزارة نفسها فإن هنالك تسعين ألف صياد مرخص في البلاد، وتبلغ أعداد القوى العاملة في أنشطة الصيد وغيرها من الأنشطة ذات الصلة، نحو 500 ألف شخص يعيلون قرابة مليون وسبعمئة ألف شخص.
أم جعفر (43 عاماً)، من بلدة الخور في لحج، تعمل في مجال حياكة شباك صيد الأسماك منذ نحو عشر سنوات، وهي مهنة تعلمتها من والدَيها، وأصبحت اليوم تعلّمها لأخريات وتعيل أسرتها بما تدرّه عليها. تشكو لرصيف22: "هناك غلاء في أسعار أدوات صناعة الشباك، مثل الغزل والمساطر والحبال، وهذا يصعّب من عملنا كثيراً".
وبسبب ذلك تضطر هي إلى رفع أسعار ما تنتجه من شباك، فالصغيرة منها قد يصل سعرها إلى ما يعادل 300 دولار، والكبيرة بـ500 دولار؛ "لا شيء ثابتاً، الأسعار كلها ترتفع بسرعة، لكن الانخفاض عادةً لا يكون بتلك السرعة"، تقول أم جعفر بأسف.
أما منيرة خالد (36 عاماً)، من رأس العارة، فهي من تضع أسعار الأسماك التي تبيعها، وتقول إن ذلك يرتبط بالسعر السائد كل يوم. وتعمل في مجال بيع الأسماك منذ خمس سنوات، بعد أن أجبر المرض زوجها على ملازمة البيت، وتشتري بضاعتها من الصيّادات وتعرضها بدورها للبيع، ولديها زبائن ثابتون من موزعين وأصحاب مطاعم وباعة بالمفرّق.
تقول بشيء من الثقة: "المرأة اليمنية قوية، وأثبتت بعد الحرب أنها قادرة على تحمّل المسؤولية". تشير بيدها نحو الشاطئ حيث يتمايل زورق فيه عدد من النسوة المتّشحات بالسواد في طريق رحلتهن الثانية للصيد، وتضيف: "صيادات، غواصات، وبارعات في إلقاء الشباك وسحبها. الدخول في البحر بزوارق صغيرة كهذه وحده مغامرة".
تفكر قليلاً قبل أن تضيف مازحةً: "الجلوس هنا وبيع السمك أفضل بالنسبة لي، مع أنني أتقن الغوص، لكنني أخاف من غدر البحر!".
مصاعب وتحديات
أم محمد (40 عاماً)، من منطقة خور العميرة في لحج، ويبعد منزلها نحو كيلومترَين عن الشاطئ، ترافق زميلاتها في رحلة الصيد اليومية لتأمين قوت يومي لعائلتها. تقول إنهن يصطدن أنواعاً مختلفةً من الأسماك، مثل: "الباغة والحبار والوزف"، ويبعنها في مركز حراج، وإنهن يقمن برحلتَين يومياً كما هو حال الغالبية العظمى من صيادي الأسماك في تلك الأنحاء؛ الأولى تبدأ في الصباح والأخرى بعد العصر: "إن لم يحالفنا الحظ صباحاً، ربما يحدث ذلك عصراً"؛ تقول بنبرة فيها الكثير من القناعة.
وتؤكد أنهنّ في بعض الأيام يتمكنّ من اصطياد كميات وفيرة من الأسماك، تكفي أثمان بيعها لتغطية أجور القوارب التي قد يصل بدل إيجارها اليومي إلى ما يعادل 40 دولاراً، وسداد ديونهنّ الناجمة عن الفترات التي يقلّ فيها الصيد وشراء البترول الذي يبلغ معدل سعر الغالون الواحد منه (20 ليتراً)، ما يعادل 20 دولاراً، وبذلك يتمكنّ من مواصلة عملهنّ.
تمارس أم محمد، مهنة الصيد منذ أكثر من عشر سنوات، وبحكم خبرتها الطويلة هذه، تعرف أن شهرَي حزيران/ يونيو وتموز/ يوليو، هما الأفضل بالنسبة إلى الصيد الوفير: "لكن أفضل شيء في هذه المهنة أنك تتوقع كل يوم أن هنالك صيداً وفيراً، وفي كل مرة تعود فيها إلى الشاطئ، تفكر في اليوم التالي، وتقول في نفسك إنه قد يكون أفضل"؛ هكذا تعبّر عن إصرارها على متابعة عملها بتفاؤل شديد.
تُعدّ منطقة راس العارة (150 كم شرق عدن)، من أكبر مصائد الأسماك في لحج (جنوب اليمن)، وهناك تخوض المئات من النساء مغامرة الصيد اليومية، لكونها وسيلتهنّ الوحيدة لتأمين المال
تنشط في خور العميرة 300 صيادة وحائكة شباك، يشكّلن هناك حركةً نسويةً دؤوبةً، تسهم جمعية خور العميرة في رفع مستوياتهنّ وقدراتهنّ وفقاً للأمينة العامة للجمعية، مارينا سيف، التي تذكر لرصيف22 أن "الرجال يشاركون نساءهن في عمليات الاصطياد منذ عقود، وذلك من خلال تجهيزهن بمعدات الصيد اللازمة من شباك وخطاطيف وبترول، وإنزال الحصيلة من الزوارق بعد عودتها محملةً إلى الشاطئ، وهنّ يقابلن ذلك بمساعدة أزواجهنّ بجهودهنّ والإنفاق على أنفسهن وأولادهن لا سيما أن غالبية السكان يعتمدون على البحر من أجل العيش".
تُعدّ منطقة راس العارة (150 كم شرق عدن)، من أكبر مصائد الأسماك في لحج (جنوب اليمن)، وهناك تخوض المئات من النساء مغامرة الصيد اليومية، لكونها وسيلتهنّ الوحيدة لتأمين المال، وعلى الرغم من وجود جمعيتَين نسويتَين هناك، إلا أن مراكز "الإنزال"، أي تسويق السمك، تستغلهن بالأسعار، وفقاً للصيادة أم يزيد (38 عاماً): "بسبب الحرب لا توجد دولة تحمينا من جشع التجار"، والحرب أيضاً هي التي دفعت المرأة الساحلية، بحسب أم يزيد، إلى العمل بإمكاناتها البسيطة في جميع مجالات الإنتاج السمكي بدءاً من حياكة الشباك واصطياد جميع أنواع السمك ومن ثم بيعها.
وتضيف: "قد نحتمل كل ذلك، لكن ما هو مرهق بحق، عدم قانونية مراكز الإنزال، إذ إنها جميعها خاصة، وترتبط بأمزجة الأشخاص، فيحددون الأسعار بما يتوافق ومصالحهم دون مراعاة لنا، ولا وجود لمراكز إنزال حكومية تحمي حقوق الصياد وتعطيه ما يستحق لقاء ما يصطاد".
يؤكد مدير مكتب الثروة السمكية في لحج، أحمد ذيبان، ما ذهبت إليه أم يزيد، ويقول إن مراكز الإنزال الخاصة في مناطق الخور والعارة، جميعها لا تعمل تحت إشراف الدولة، وإنها تعود لمتنفذين "فالدولة لم تستطِع بسبب هشاشة الجانب الأمني استعادة مراكزها، وبسبب ذلك من الطبيعي أن يلجأ الصياد إلى مراكز الإنزال الخاصة لترويج ما يصطاده"، وأقرّ بأن المراسلات والتوجيهات المتكررة من قبل إدارة المحافظة لضبط العمل السمكي في المنطقة لم تثمر عن شيء "جرّاء ضعف الدور الأمني".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...