شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
بانتظار

بانتظار "الهوا الغربي" لرمي الشّبك... عن أجمل طقوس الصيد في الساحل السوري

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والتنوّع

الخميس 11 مايو 202311:05 ص

بكثير من الصبر والحماسة، مع فجر كل يوم، ينطلق الصيادون على متن مراكبهم الخشبية في رحلة بحث مضنية عبر "بحرهم" عن رزقهم وطعام أولادهم، وتحصيل بعض الليرات اليتيمة التي تساعدهم في أيامهم. هذا الأزرق الداكن الذي فتحوا أبصارهم عليه، وحفظوا خلال سنوات عملهم أطواره وتقلب أمزجته وكرمه وشحه وغدره، يترجونه وهم يرمون شباكهم في مياهه بعبارة "يا بحر يا بو اليتامى"، فهم أبناؤه كما يحلو لهم وصف أنفسهم.
على امتداد ما يقارب 180 كيلومتراً من اللاذقية شمالاً، حتى طرطوس جنوباً التي تشكل الإطلالة البحرية لسوريا على المتوسط. عرف أهل الساحل مهنة الصيد منذ أيام الفينيقيين، وتوارثوا عاداتها وطقوسها ومفرداتها جيلاً بعد جيل.
إذ لا تزال هذه المهنة تحتفظ بكثير من طابعها التقليدي رغم التقدم التقني الكبير في مجال الصيد البحري، ومزاحمة "الحيتان" على هذا القطاع وانتشار مظاهر الصيد الجائر وعلى رأسها "الصيد بالديناميت"، كذلك انتشار التلوث وارتفاع تكاليف الصيد والوقود. كل ما سبق أثر بشكل كبير على غزارة الثروة السمكية في المنطقة.

متاعب جمة قبل الوصول لـ"كنوز البحر" 

لا يزال الصيد البحري أحد أهم مصادر الدخل للصيادين رغم الانحدار الحاصل في مجال الصيد البحري وارتفاع أسعار السمك التي تراوح بين الأربعة آلاف والثلاثين ألفاً للكيلوغرام الواحد (أي ما يعادل 0.5 دولار إلى 5 دولارات) حسب نوعه وجودته، إضافة للتكلفة العالية للنقل والتبريد.
الصياد هو الحلقة الأضعف في دائرة الإنتاج، فبعد أن يعود الصيادون ظهيرة كل يوم، يقومون بتوزيع صيدهم في الأسواق ليباع بالمزاد "شيلة وحدة" دون فرز، فلا يحصلون إلا القليل لقاء تعبهم ومجهودهم المضني. بينما المستفيد الأكبر هم تجار السمك الذين يتولون توزيعه في باقي المحافظات.
يدخل الصيادون إلى عمق البحر ويسهرون ليلاً أو يصيدون منذ الفجر، ويستخدمون عمالاً بالأجرة لرفع الشبك. إضافة إلى كلفة مادة الـ"مازوت" لتشغيل محركات قواربهم. وقد يحصلون بعد ذلك الشقاء بما قد يعلق بشباكهم من أقمشة أو أحذية وألعاب أطفال نتيجة تلوث البحر.  
ينتظر الصيادون بداية فصل الربيع و"الهوا الغربي" الذي يلطّف الأجواء، ويعيد للطبيعة الساحلية  رونقها وجماليتها المعتادة

بانتظار "الهوا الغربي" 

لا تزال حميمية الطقوس التقليدية غالبة على أهل هذه الحرفة. ومفرداتها الشائعة هي ذاتها منذ عقود إلى يومنا هذا. حتى أغاني الحب الخاصة بشؤون القلب لها حصة فيها، فهذه دلعونا تقول: "يا حبي الآسي يا حبي الآسي، مركب حبيبي ع المينا راسي، يما يا يما بيوجعني راسي، صايبني هوا فطيما وأمونا".
ينتظر الصيادون بداية فصل الربيع وهبوب الرياح الغربية المعروفة شعبياً بـ"الغربي" والتي تلطف الأجواء، وتعيد للطبيعة الساحلية الأخاذة رونقها وجماليتها المعتادة.
بعد  الشتاء الذي يكثر فيه هبوب "القبلي" أو "الجنوبي"  الذي يؤدي إلى حدوث العواصف والمطر إذ يمتنع الصيادون عن ركوب البحر لكثرة اضطرابه وأمواجه العاتية التي تكسر زوارقهم الصغيرة التي هي "الحيلة والفتيلة" كما تقال في الدارجة السورية.
أشهر هذه العواصف ما يُعرف بـ"التنين"؛ العاصفة المصحوبة بالمياه الذي تتكون من غيوم كثيفة جداً تلتف مع الهواء ساحبةً معها كل ما تصادفه من رمال وأصداف وطحالب وأسماك إلى قاع البحر. لكن مع بداية فصل الربيع تتغير تلك الحال كما يقول أبو مصطفى (65 عاماً) الذي يعمل صياداً منذ نعومة أظافره، يردد بضحكة شغوفة على وجهه المتعب بأن "الصيد في دمه"، والبحر هو "عشقه الأول".
مع بداية هذا الفصل تعود مهنة الصيد إلى الحياة على طول الشريط الساحلي السوري بعد اختفائها لكثرة "النو"، وهو التعبير الشعبي عن هيجان البحر، رحلة الصيد تلك التي تتواصل حتى نهاية الصيف كما في كل عام.  

الصيد "الساكن" و"الجرف" 

يتحدث أبو مصطفى لرصيف22 عن أنواع الصيد التقليدية التي لا تزال متبعة في المنطقة، والتي بحسب وصفه تتطلب"حنكةً وخبرةً وصبراً" تحديداً مع الأسماك القوية والشرسة والذكية.
بعد  الشتاء يكثر هبوب "القبلي" أي الجنوبي  الذي يؤدي إلى العواصف والمطر، فيمتنع الصيادون عن ركوب البحر لاضطرابه وأمواجه العاتية التي تكسر زوارقهم، وهي "الحيلة والفتيلة" كما يقال

النوع الأول هو حين يقوم الصياد بإلقاء الطعم لمسافةٍ بعيدة ثم سحبة بهدوء ليتم إغراء السمكة وبالتالي تنجذب نحو الطعم، والثاني: ويعرف بالساكن، وهو لا يتطلب من الصياد إلا الأناة والصبر، فيرمي سنارته دون تحريك القصبة. وبحسب أبو مصطفى فهذا الأخير هو الأقل مردوداً على الأغلب.
نفس الأمر يقع على الصيد في عرض البحر، فصيد "الجرف" يكون عبر استخدام القارب المتحرك بعد رمي الطعم بالماء، ويجره وفقاً لمجرى التيار. حتى تنطلي الحيلة على السمك.
هناك أيضاً نوع ثالث وهو الصيد بـ"الشّباك" و"القفاص" والمقصود الأقفاص الحديدية، وهذان النوعان يتمّان على مسافة بعيدة في عرض البحر، ويتطلبان عملاً جماعياً. وغالباً ما تعود بصيد وفير. بالنسبة لأبو مصطفى لا يزال يتمسك بالطريقة التقليدية للصيد، رافضاً الديناميت وأساليبه التي تدمر البيئة البحرية، وتدلل على جشع الصياد.

"المشلولة" و"التحويق" 

تختلف أشكال الصيد باختلاف أنواع السمك وحجمه ومدى مقاومته وذكائه. عن ذلك يتحدث الصياد فؤاد (45 عاماً) لرصيف22، وهو يقيم في طرطوس التي تتميز مياهها البحرية بصفائها وعمقها الكبير وتحتوي على هوّات بحرية تسبب أحياناً بضياع الشباك. ما يحتم على الصيادين استخدام أنواع متعددة من الشباك، تتحدد وفقاً لحالة الطقس ونوعية الأسماك المتوفرة.
فمثلاً، سمكة الـ"بلميدا التي تتميز بقوة تمكنها من القفز من خلال الشباك، يضطر الصياديون للحصول عليها أن ينصبوا "تحويقة" وهي عبارة عن شبكة مصنوعة من أعواد القصب فوق سطح الماء مباشرة، ويوضع فوقها شبكة صيد عادية بفتحات بين المتوسطة والعادية. فما إن تقفز السمكة فوق "التحويقة" حتى تقع فوق الشبك والقصب. وهي تستخدم غالباً في فترات الصيد الصيفية، عندما يكون البحر هادئاً.
أما شبكة الـ"مشلولة" فتستخدم في الصيد الشتوي، كونها أكثر مقاومة لأحوال الطقس البحري السيئة وتياراته العاصفة. وهي تفرش في عرض البحر بشكل عمودي ضمن المراعي الصخرية والرملية لصيد أسماك الـ"تريخون" والـ"جرواي" والـ"غزال".
تستخدم شبكة الـ"مشلولة" في الصيد الشتوي لأنها أكثر مقاومة لأحوال الطقس، وتفرش في عرض البحر عامودياً ضمن المراعي الصخرية والرملية

"لقمتنا صغيرة يا خيّ" 

على أحد الجروف الصخرية يرمي ربيع (35 عاماً) بصنارته داخل المياه المالحة، تاركاً موج البحر، ويقذف ديدانه المعلقة كطعم، مترصداً بهدوء جمود القصبة، ومنتظراً أية حركة تحمل له بشرى صيد جيد يملأ به سلة القش التي يضعها بجانبه.  
"لقمتنا صغيرة يا خيّ"، بهذه العبارة يبدأ ربيع وهو يعمل موظفاً حديثه، وقد اتخذ من مهنة الصيد التي أحبها وترعرع عليها اليوم مجرد هواية، كونه أحد "أبناء البحر" كما يصف نفسه، متحدثاً بحسرة عن أحوال صيادي الصنارة، فالأسماك الصغيرة هي التي تصل إلى الشواطئ. ورغم ذلك "فهي على صغرها تمكنه من تأمين وجبة لذيذة لعائلته"، ويؤكد راضياً بما قسمه له الله "من شو بتشكي سمكة السردين؟ " في ظل الارتفاع الجنوني لأسعاره اليوم في الأسواق. 

بين القديم والحديث 

في مقابل ما سبق، تشكل تجارة وبيع معدات الصيد البحري مهنة رائجة، وتشهد تنافساً بين معداتها التقليدية والجديدة، حول ذلك يتحدث فؤاد (40 عاماً) الذي يمتلك متجراً قائلاً إن هذه الحرفة لا تزال تستهوي الكثيرين من عشاق البحر.
عن أنواع الطعوم يشرح، فيقول إن هناك الطعم الطبيعي كالديدان والـ"حنكليس" وقطع السمك الميتة وبيوض السمك. وهناك الاصطناعية التي تتميز بمنظرها الجذاب والمخادع للأسماك ومنها ما يُسمى بـ"شراك الذباب".
وهذه الأخيرة تتمتع بخفة الوزن كونها مصنوعة من الريش والنسيج الصوفي أو القطني. ويلحق بها الثقالات أو الـ"تتقيلة"، بعضها مصنوع من الرصاص، التي تختلف بدروها بحسب الطعم. وهناك أيضاً العوامات التي تحتفظ بالطعم عائماً على سطح الماء باستخدام الفلين أو البلاستيك.
أما الشّباك وهي الأكثر طلباً، وأغلبها، كما يقول، يصنع بصورة يدوية تقليدية. ولها عدة أنواع: الـ"الجارفة" أو الـ"بشلولة" التي يزيد طولها عن ثلاثين متراً، وتحتوي على قطع من الفلين والرصاص مخصصة لصيد السمك الرملي والسلطان إبراهيم الصغيرـ شباك الـ"فاطوع" فتُرمى بواسطة غواص. والـ"شنشاطة" التي تُرمى في مواضع التقاء النهر بالبحر والتي تحتاج لعمل جماعي متكامل بين الصياديين، وأخيراً، الـ"جرجيرة" المكونة من خيطان نايلون يعلق بها ما يراوح بين الثلاثين والأربعين صنارة صغيرة متباعدة لصيد سمك الـ"بلميدا".
هناك الطعوم الطبيعية كالديدان والـ"حنكليس" وقطع السمك الميتة وبيوض السمك. وهناك الاصطناعية التي تتميز بمنظرها الجذاب والمخادع للأسماك ومنها ما يُسمى بـ"شراك الذباب" 

فيما يخص الصنانير إضافة للصنانير التقليدية المعروفة، هناك الصنارة الإلكترونية التي تساعد الصياد على قياس عمق الماء ودرجة حرارته والمسافة التي تفصله عن السمكة. لكن سعرها كما يقول ساخراً "واوا" إذ يبلغ مئات الألوف من الليرات اليوم. وهي تطلب بناءً على رغبة الزبون.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard
Popup Image