بعد إجراءات مشددة اتخذتها السلطات المصرية، أخذت أعداد السودانيين النازحين إلى مصر عقب اندلاع الصراع العسكري بين قوات الدعم السريع (ميليشيات الجنجويد سابقاً) من جانب والجيش السوداني على الجانب الآخر، في الانخفاض، بعد أن وصل عدد النازحين إلى ما يزيد على 150 ألفاً معظمهم من النساء والاطفال، بحلول بداية يونيو/ حزيران الماضي.
على الرغم من تشابه البلدين في كثير من الجوانب، إلا أن الشعور بالغربة الذي يغمر السودانيين النازحين حديثاً إلى مصر أمر لا يسعهم إنكاره، ومثل غيرهم من اللاجئين والنازحين من مختلف البلاد والثقافات، يميل القادمون حديثاً إلى قصد التجمعات المعروفة لأبناء جلدتهم في الأحياء التي يتركزون فيها أو المقاهي والمطاعم التي يقصدونها، ما جعل المطاعن السودانية المنتشرة في القاهرة والجيزة واسوان وغيرهم من المحافظات التي تكثر فيها تجمعات السودانيين مقصداً أساسياً للوافدين الجدد.
هنا يجد السوداني مذاق الشاي الذي ألفه، والتوابل الحارة التي اعتادها والأغاني والموسيقى التي تربى عليها ورافقته طوال سنوات حياته، واللهجة التي يفهم أصحابها شكواه ومزاحه من دون الحاجة إلى شرح أو تفسير.
هنا يجد السوداني مذاق الشاي الذي ألفه، والتوابل الحارة التي اعتادها والأغاني والموسيقى التي تربى عليها ورافقته طوال سنوات حياته، واللهجة التي يفهم أصحابها شكواه ومزاحه من دون الحاجة إلى شرح أو تفسير
هنا يرتاح "الزول"
في باقة من الألوان المبهجة يغلب عليها الأزرق والأصفر، صيغت ديكورات المطعم السوداني "زول" الكائن في حي مدينة نصر الذي تقطنه شرائح من الطبقة الوسطى المصرية والمنتمين إلى الطبقة نفسها من الوافدين العرب والأجانب في شرق القاهرة.
في الممر الذي يضم المطعم السوداني داخل أحد المولات التجارية تتراص على الجانبين المقاعد الحديثة ممتزجة بالأغاني والموسيقي السودانية وروائح التوابل والعطور ومستلزمات التجميل الطبيعية السودانية التي يبيعها المطعم.
تقول دلال تاج الدين مالكة المطعم التي جاءت إلي مصر قبل نحو 8 سنوات، إن فكرة المطعم واتتها بسبب شوقها للسودان "فكرت في استغلال حبي للطبخ للم شمل أبناء الجالية بمصر وتكوين صداقات من أبناء الوطن في الغربة".
الخبرة في الطهو وحب الطعام جعلاها قادرة على مناقشة زبائنها للتعرف على أذاوقهم في الأطعمة والتوابل، وإمكانية إضافة مكونات جريئة حادة وحريفة، أو التعامل بحذر وتقديم ما تصفه بـ"ذوق مصري هادئ" في الطعام. النقاش هنا يثري الاختيارات ويجعلها أفضل بعد نقلها للمطبخ، و"الزبائن بعد تذوقهم للنكهات يكتشفون ميولهم أكثر ويستطيعون تكرار التجربة".
تحكي دلال لرصيف22 أنها كانت تعمل في أعمال بسيطة في السودان ولم تفكر في استغلال محبتها للطهو في كسب الرزق إلى أن جاءت إلى مصر وتقلصت فرص العمل المتاحة التي تناسب ظروفها وشعرت بالوحدة والغربة. ولأنها أرادت ان تقترب من أهل البلد أيضاً تعلمت بعض الاطباق المصرية وصارت تقدمها إلى جانب الأطباق الشعبية السودانية المتنوعة التي جذبت إلى مطعمها السودانيين والمصريين على حد سواء.
لأنها تدرك أن الطعام هو واحد من مكونات عديدة للثقافة المادية، تحرص تاج الدين على ألا يكون كل ما تقدمه لزوار مطعمها من الثقافة السودانية هو الطعام فقط، ففكرت في توفير ما تسميه "أجواء وطنية" لأبناء الجالية السودانية من خلال الموسيقى والثياب
ولأنها تدرك أن الطعام هو واحد من مكونات عديدة للثقافة المادية، تحرص تاج الدين على ألا يكون كل ما تقدمه لزوار مطعمها من الثقافة السودانية هو الطعام فقط، ففكرت في توفير ما تسميه "أجواء وطنية" لأبناء الجالية السودانية من خلال الموسيقى والثياب، فبات مطعمها يستضيف ليالي "ونسة" يغني ويعزف فيها فنانون سودانيون إلى جانب رقصات من الفلكلور السوداني، وهو ما زاد من جاذبية مقهاها بالنسبة للمصريين وجنسيات أخرى من سكان حي مدينة نصر من غير السودانيين.
وطن متكامل
مثل كثير من اللاجئين والمهاجرين، أنشأ السودانيون مجتمعات وأحياء تمركزوا فيها ما بين وسط القاهرة، والمعادي بجنوب العاصمة، وعين شمس ومدينة نصر في شرق القاهرة، وفيصل بمحافظة الجيزة. وتكونت نقاط تجمع معروفة لديهم، انطلاقاً من السكن في هذه الأحياء، ومن ثم أنشأوا مقاهي ومراكز ثقافية وشركات نقل وسفر من وإلي السودان، وكلما وجدت تجمعاً سودانياً في منطقة ستجد تلك الخدمات تتشكل من بينهم لخدمتهم، وكذلك توفير فرص العمل لهم.
يظهر هذا في منطقة عابدين التي كانت دوماً منطقة تجمع للنوبة، ما جعلها مرشحة لاجتذاب السودانيين الوافدين إلى مصر لاقتراب الشبه الشكلي والثقافة، وهو ما وجد طريقه إلى عدد من المنشآت التجارية والخدمية التي دشنها السودانيون في الحي الذي يتوسط القاهرة منذ عقود.
في عابدين يوجد عدد كبير من المطاعم السودانية المتنوعة، إلا أن أشهرها هو مطعم "التُكل"، الذي يمكن لرواده السودانيين تناول وجبتهم واسقبال الوافدين القادمين من خلال مكتب السفريات المجاور، ثم الجلوس على مقهي سوداني قريب، لتصبح المنطقة أشبه بخُرطوم مصغرة تسمع فيها اللهجة السودانية والموسيقى السودانية وتستنشق أنفك روائح السودان البعيد.
اشتهر "التُكل" بأكلاته السودانية الخالصة وكذلك المشروبات، كما يعمل على دعم أبناء الجالية الوافدين على كافة المستويات، هكذا يقول مسعد أبونائب، صاحب ومدير المطعم الذي تأسس في 2014.
استقبلنا مسعد بكوب من مشروب "القضيم" الشهير في السودان، وحدثنا عن ذلك المشروب البرتقالي الداكن الذي يجمع طعمه بين مذاق البرتقال والليمون والمانجو، موضحاً "مشروب لذيذ ومفيد، يحتوي على الحديد ومن ثم يعالج فقر الدم وفيتامين "ج" الذي يعالج نزلات البرد".
يؤكد أبو نائب أن مطعمه يقدر الأحوال الاقتصادية التي يواجهها السودانيون سواء الذين وفدوا منهم قبل "الحرب" أو في أعقابها، لهذا لا يمانع المطعم في تقديم المأكولات بأسعار مخفضة أو مجاناً للفقراء من السودانيين
حرص أبو نائب على إقامة مطعمه في منطقة تجمع للسودانيين، وقال لـرصيف22: "علاقة الزبائن بالمكان ليست مجرد مطعم يقدم وجبات ذات طابع محلي، لكن نحرص على القرب من الوافدين، لذلك اقوم برحلات دينية وترفيهية أجمع فيها المترددين علينا لزيارة الأضرحة والمزارات الدينية في مصر، خاصة في رمضان، مثل مزارات آل البيت والحدائق العامة والشواطئ في الإجازات الصيفية".
يؤكد أبو نائب أن مطعمه يقدر الأحوال الاقتصادية التي يواجهها السودانيون سواء الذين وفدوا منهم قبل "الحرب" أو في أعقابها، لهذا لا يمانع المطعم في تقديم المأكولات بأسعار مخفضة أو مجاناً للفقراء من السودانيين، "ونوجههم لجهات ممكن تساعدهم في إيجاد فرص عمل أو علاج لمن يحتاج".
ميل طبيعي لإيجاد صورة للوطن
يقول الدكتور سعيد صادق أستاذ علم الاجتماع السياسي بالجامعة الأمريكية إن المهاجرين دائماً يحرصون على التجمع والعمل مع أبناء جلدتهم في بلاد المهجر. وأضاف لـرصيف22 أنه مع وجود عدد كبير من المهاجرين من نفس البلد، يجد الحنين للبلد الأم فرصة بديلة، لهذا تنشأ الاسواق الخاصة لأكلات الوطن ومنتجاته، لخدمة أبناء الجالية أولاً ولجذب من ينتابهم الفضول من أبناء بلد المهجر كونهم أصحاب قوة شرائية أكبر خاصة في الطبقات الوسطى التي يوجد لديها ميل لتجربة الجديد. وإن كان يستبعد أن يحب المصريين مذاق الطعام السوداني.
الطعام يشبع الحنين
لا تختلف معه في ذلك فاتن سعيد، التي تعمل في احد المطاعم السودانية بحي المهندسين، وهو حي يجذب أبناء الطبقة المتوسطة من السودانيين خاصة الموظفين الحكوميين ورجال الأعمال.
مثل غيره من المطاعم السودانية يهتم "كنداكة" الذي تعمل به فاتن بالألوان المبهجة والروائح المميزة والموسيقى السودانية ذات الإيقاعات الأفريقية المميزة، ومثل غيره يقدم الاكلات الشعبية السودانية التي تصفها فاتن بانها "دسمة ومسبكة على خلاف مايحبه المصريين".
تشرح فاتن أنها لاحظت أن المصريين يفضلون أطباقاً "غير ثقيلة"، "مثلاً البامية. المصريون يحبونها بصلصة خفيفة، أما أبناء السودان فيحبون أن يضاف إليها لحم الضأن وأن تكون الصلصة سميكة". لكن يبدو أن فاتن لم تسمع بطاجن البامية بلحم الضأن الذي يحبه المصريون وإن كان معظمهم لا يقدر على تكلفته.
في كنداكة تتنوع أطباق الإفطار التي تتشابه مع مائدة الصباح المصرية ما بين الطعمية والفول والخبز والقشدة، لكن الاختلاف يظهر في "ملاح التقلية"، والمشروبات السودانية المميزة و"الحلو شعرية".
بينما تتنوع الاطباق الرئيسية في المطاعم السودانية بين القراصة والعصيدة و"ملاح الشرموط"، والأكل البلدي، والأخير كما تشرح هو "طبق شعبي يضم مكونات كلها جافة من ويكة وبصل وصلصة طماطم وشرائح لحم مملحة نشرت في الشمس لمدة إسبوعين حتي جفت تماماً ثم تطحن، ويحمر البصل في الزيت وينتشل وتحمر اللحم بعده ثم تفرم الطماطم مع البصل المكرمل وتطهي مع إضافة توابل خاصة وهي كزبرة جافة وغرنجل وداكمبا".
تقول فاتن إن الكثير من الوافدين السودانيين يهتمون بمساعدة بعضهم بعضاً في الحصول على الخدمات كالسكن وفرص العمل وتكون المطاعم وجهة لتوفيرها أو المساعدة في إيجادها وكذلك المقاهي السودانية.
في المقابل يأتي هؤلاء الوافدون من السودان للمطاعم بما تحتاجة من توابل ونباتات وأعشاب ومنتجات سودانية خاصة، تستخدمها المطاعم في ما إعداد ما تضمه قائمتها، أو تبيعه للمصريين والسودانيين المقيمين.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون