المشهد نفسه بذات التفاصيل يتكرر يومياً، يجلسون بين حجرات الدار وفي مساحات الاجتماع في صمت، إذ أن كل منهم قد سرد الحكايات نفسها وبث الشكاوى ذاتها من دون تغيير منذ وصوله إلى هذا المجتمع الصغير.
يقطع الصمت صوت واحدة من المشرفات أو واحد من العاملين يدعوهم، معلناً أن الوجبة التالية صارت جاهزة.
هذا هو الحال في عدد من دور المسنين القاهرية التي زارها رصيف22 للوقوف على أحوال المقيمين فيها، ممن لجأوا إليها طوعاً أو اضطراراً.
عادة ما ينظر للإقامة في دور المسنين في العالم العربي، وخاصة في مصر، باعتباره أمر من قبيل الفضيحة للأسرة التي يرفض الأبناء أو الأقارب فيها رعاية أقاربهم المسنين، أو من أعجزتهم ظروفهم الصحية عن الاعتماد على أنفسهم في وحدتهم. لكن ليست "الفضيحة" هي ما يشغل بال النزلاء، حتى من اختار منهم بإرادته الإقامة في الدار، ربما لأنه لم يرزق بالأبناء أو ربما لأنها لم تتزوج من الأساس، فما يشغلهم ويشغلهن فعلاً، هو انتظار زيارات غالباً لا تأتي، وانقطاع يشعرون به عن العالم الذي يعدو من حولهم بينما ينعزلون هم عنه طوعاً أو كرهاً.
تعد حالات الاختفاء التام للأبناء والأحفاد عقب إيداع الآباء والأمهات دور المسنين، هي الحالات الأكثر شيوعاً بين نزلاء الدور التي جال فيها رصيف22
تعد حالات الاختفاء التام للأبناء والأحفاد عقب إيداع الآباء والأمهات دور المسنين، هي الحالات الأكثر شيوعاً بين نزلاء الدور التي جال فيها رصيف22، ففي واحد من تلك الدور بمنطقة بولاق الدكرور، بمحافظة الجيزة، كانت السيدة سناء أحمد تنتظر زيارة من ابنها أو ابنتها، اللذان لم ترهما منذ أودعاها الدار قبل عامين.
ربما يكون غياب ولديها عنها اضطراراً، فبحسب ما تحكيه سناء لرصيف22، فابنها الأكبر مسجون على ذمة إحدى القضايا، بينما ابنتها، مطلوبة من الشرطة المصرية في قضية أخرى أيضاً: "ابنتي قالت لي أنا عندي مشاكل ومش قادرة أخدمك، هي بتهرب من الشرطة كتير. تركتني في الشارع، وطلبت من الناس ينقلوني للدار".
لكن الابنة لم تتصل بدار المسنين للسؤال على والدتها، كما لم تبادر إلى الزيارة طوال عامين.
تقول سناء أنها كثيراً ما تحادث نفسها وتناجي ابنها وابنتها معاتبة إياهما على ما نالها. تقول باكية أثناء التسجيل مع رصيف22: "كده يا بنتي تعملي فيا كده؟ ده أنا كبرت وإنتي عندك أولاد، ده انا عاوزاكي دلوقتي قبل كمان شوية".
أما فوزية العدل، فهي مسنة أخرى نزيلة في الدار نفسها، تعاني من شلل الأطفال منذ صغرها، تزوجت رجلاً يكبرها بأكثر من 20 عاماً، وأنجبت منه طفلة، وطلبت فوزية من زوجها أن يكتب حتى نصيبها من الميراث المتوقع عقب وفاته إلى ابنتها، خاصة البيت كي تضمن ألا تتشرد الابنة بسبب تقسيم ملكيته بينها وبين الأعمام، تقول: "مكنتش أعرف إنها هتعمل معايا كده".
"لما ابنتي تزوجت كنت عايشه معاها، بس جوزها كان رافض، فطردوني من البيت وكان الشارع ملجأ لي، أنام مع الكلاب والقطط، لكن الناس نقلوني لدار المسنين، وبنتي لم تحاول البحث عني مطلقاً، أمنيتي أشوفها، هحضنها وهبوسها، وهقولها وحشتيني"
بحسب رواية فوزية: "لما ابنتي تزوجت كنت عايشه معاها، بس جوزها كان رافض، فطردوني من البيت وكان الشارع ملجأ لي، أنام مع الكلاب والقطط، لكن الناس نقلوني لدار المسنين، وبنتي لم تحاول البحث عني مطلقاً، أمنيتي أشوفها، هحضنها وهبوسها، وهقولها وحشتيني".
ظروف الحياة أطاحت بالسيدة فاطمة عبدالستار، فبعد حياة الرفاهية، تتحرك فيها على راحتها وتقود سيارتها وتسافر إلى مختلف البلاد دون قيود، أصبحت ضمن نزلاء دار المسنات الكفيفات بمدينة نصر، والتي يعيش بها المسنات ممن فقدن أبصارهن ولم يعد الأبناء يستطيعون خدمتهن.
تنازلت فاطمة عن ملكيتها لشقتين لها لصالح ابنيها، واكتفت فقط بمعاشها الشهري، إذ كانت تعمل مهندسة وعلى درجة وكيل وزارة، تقول فاطمة: "ابني الكبير ظروفه صعبة، كان مريض واضطر لبيع أثاث البيت ولم استطع العيش معه، ابني الصغير تزوج من لبنانية ولم تكن تحبني أو تريد خدمتي، كانت تحاول تلويث الدواء لي كي أموت".
توفي زوجها مبكراً، وأصيبت بضعف النظر ثم فقدانه، ورفضت زوجة ابنها أن تقيم فاطمة معهما، "سيبتهم واجرت شقة من معاشي، لكن كان الوضع صعب بعد أن فقدت بصري" اقترحت عليها صديقة لها الانتقال إلى دار المُسنات الكفيفات لأن العيش بمفردها كان أمراً مستحيلاً: "أول ما أولادي تزوجوا دوروا على الحنان في زوجاتهم، لم أجد الاهتمام منهم، ابني الكبير لم يسأل عني والصغير على فترات، ونتيجة حياتي إني أصبحت نزيلة في الدار".
حكايات نزلاء دور المسنين من الرجال لا تقل قسوة عن ما روته لنا السيدات، ففي إحدى دور الرعاية في حي الدقي بالقاهرة، يعيش سمير محمد، الذي عمل قبطاناً بحرياً، حتى دب الخلاف بينه وبين أبنائه الثلاثة فقرروا أن يلقوا به إلى الشارع بعد الاستيلاء على كل ما يملك: "كنت أمتلك ملايين الجنيهات وأعيش حياة رفاهية، وكنت أمتلك عمارة كتبتها بأسمائهم الثلاثة، ثم طردوني وكرهوني، وشجعتهم شقيقتي".
عاش القبطان السابق 6 أشهر أسفل كوبري أكتوبر بالقاهرة، حتى انتشلته دار رعاية تابعة لجمعية تختص بإيواء المشردين، ويعيش في تلك الدار منذ 3 سنوات: "تركت أبنائي في أحسن حال، لكني لا أريد رؤيتهم أبداً، لو رأيتهم سأموت، عشت فترة صعبة، كنت أعيش بين السماء والأرض في حالة يرثي لها".
أما مدحت عبد الله فقد تحول حاله من عازف محبوب في فرقة موسيقية إلى نزيل دار لإيواء المشردين لكن بعد وفاة والدته "تعرضت لصدمة نفسية لم يتحملها، بعد وفاتها، لقد كانت كل حياتي، فوجدتني في الشارع".
على الرغم من أن أقربائه يدركون وضعه النفسي، "تركوني في الشارع ولم يسأل عني أحد. لم يعد مرغوباً بي في العائلة، وفقدت والدتي وهي كل ما أملك، وزهدت الدنيا وكل شيء، حتى أصبحت مقيماً بدار الرعاية".
سامية عبد الحفيظ، مسؤولة أحد دور المسنين بالجيزة، تقول لرصيف22 أن الجمعية التي تتبعها الدار توفر الدعم النفسي لكل الحالات عن طريق جلسات اجتماعية ونفسية تتم بواسطة الإخصائية الاجتماعية: "بحاول أعرف منهم طبيعة المشكلة ولماذا أصبحوا في الشارع، وكيف كان يتم معاملتهم وما تعرضوا له، ومعلومات أخرى مثل أرقام الهواتف أو عنوان تعرفه أي واحدة منهن لأقارب لها".
بحسب عبد الحفيظ، تحاول الدور أولاً التواصل مع أهالي النزلاء للإصلاح ولم شمل الأسرة، "إذا فشلت المحاولات، يصبح النزيل أو النزيلة من المقيمين بالدار، ويُقدم لهما الدعم النفسي والاجتماعي والصحي"، وتعتمد جميع دور المسنين على التبرعات: "الناس بتتبرع بأموال وأحياناً بمواد غذائية أو فرش للسراير ومراتب أو أدوات معينة وأدوية، وأحياناً المساعدة في الاستحمام إذا كانت الحالة غير قادرة على القيام بذلك بمفردها".
الدكتور وليد هندي، استشاري الصحة النفسية، يؤكد أن دور المسنين توفر رعاية نفسية باقتدار للنزلاء، خاصة أن معظمهم يعانون مشاكل نفسية نتيجة عقوق الأبناء أو أي مشاكل وصدمات أخرى، ويجب على إثرها توفير رعاية خاصة لهم ولهن، من حيث الاهتمام بالنظافة الشخصية والمساعدة على الحركة، والإصغاء إلى "الفضفضة"، وأيضاً التسلية، بالإضافة إلى رحلات ترفيهية مختلفة، وهو الأمر الذي يعود بالنفع على المسن أو المسنة، ويحسن من حالتهما النفسية.
وينصح في حديثه مع رصيف22: "يجب علينا زيارة دور المسنين دائماً وباستمرار، للجلوس وتناول الطعام معهم والتفريغ عنهم".
وبحسب البيانات المعلنة من وزارة التضامن الاجتماعي في 2018، يوجد 168 دار لرعاية المسنين والمسنات مرخصة في مصر، داخلهم 4530 مسن ومسنة، 30% منها مخصصة للسيدات ومثلها للرجال، و40% دور مشتركة. وتتوزع الدور القائمة على 22 محافظة، وهناك 5 محافظات لا توجد بهم أي دور لرعاية المسنين، مثل محافظات الحدود، كشمال وجنوب سيناء ومطروح، بسبب العادات والمبادئ هناك، فلا يمكن لأي مُسن أن يعيش داخل دار رعاية، بحسب محمود شعبان، مدير عام الإدارة العامة لرعاية المسنين بوزارة التضامن الاجتماعي.
يقول شعبان لـرصيف22: "تقدم الوزارة الدعم المادي لكل دور المسنين التي تحتاج إلى ذلك، كما تقدم برامج وأنشطة للمسنين داخل الدار، وخدمات أخرى مثل القوافل الطبية والأنشطة المتنوعة، كما يوجد 190 نادي على مستوى مصر مخصص للمسنين، باشتراك 50 جنيهاً سنوياً".
- تصوير محمود الخواص
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...