في مرحلة بدائية من تطور الوعي البشري، اعتقد الإنسان أن لكل عنصر مؤثر من عناصر محيطه الطبيعي إلهاً، المفيد منها كالثمر والمطر، والمدمر كالفيضان والعاصفة، ولأن حاجته في الحياة تقتصر على الطعام والأمان، فقد ظن أنه يمكن استرضاء هذا الإله لاستكثار خيراته أو لتجنّب غضبه وبطشه عبر التقرب منه بتقديم الهدايا والأضاحي من مواسمه وحيواناته، ثم استخدم التضحية كوسيلة لطلب المغفرة والتكفير عن الخطايا، ثم تفانى في تقربه من الإله إلى حد تقديم أولاده على مذبح التضحية، ويغلب على التضحية بأشكالها أنها تتم في مواسم محددة من السنة وفق طقوس وشعائر أنتجها وعي البشر بفكرة الإله وما يرضيه.
يخلص الباحث سيد القمني، في كتابه "الأسطورة والتراث"، إلى أنه "توجد نظريتان لدى الباحثين في الترتيب الزمني لتطور فكرة الأضحية، الأولى تقول إن الإنسان بدأ بتقديم النبات والثمار من مزروعاته، ثم قدّم الحيوان الذي رآه أعلى مرتبةً من النبات، فذبحه وشواه كي يتصاعد الدخان إلى السماء وتشمّه الآلهة فيهدأ غضبها وترضى، ثم قدّم دماءه التي يُسيلها بشكلٍ مقصود على المذبح ذاته، ثم صار يقدّم أحد أبنائه كنذْرٍ إذا استجاب الإله لأمر يطلبه، ووصلت فكرة الفداء إلى أن يرسل الله ابنه المسيح ليفدي البشر مصلوباً وفق العقيدة المسيحية. النظرية الثانية تقول إن الإنسان بدأ بتقديم الأضحية البشرية انسجاماً مع درجة وحشيته البدائية في تلك المرحلة، ثم بارتقاء وعيه أبدلها بالحيوان المذبوح فداءً لنفسه أو جماعته أو ممتلكاته".
حضارات وعقائد
لا تتم صيرورة المقدس عبر التجريد النظري ووحي السماء فقط، بل كذلك بالتجربة المعيشة للبشر في مكان وزمان محددين وعبر العلاقة التفاعلية مع المحيط الطبيعي والاجتماعي، لذلك اختلفت طقوس التضحية -بالحيوان أو البشر أو بكليهما- وشروطها ومناسباتها من حضارة إلى أخرى، لكنها بقيت تشكل ملمحاً مشتركاً لكل العقائد والعبادات القديمة وصولاً إلى الديانات السماوية أو كما يسميها البعض "الرسالية".
وقد تنوعت القرابين المقدمة للآلهة باختلاف الزمن أو المعتقد أو الجماعة البشرية، فقد تكون قرباناً بشرياً أو حيوانياً، وقد تكون هديةً ثمينةً كالذهب أو من المحاصيل الزراعية، وقد تكون دُمى طينيةً أو منحوتات حجريةً صغيرة.
الآثار المكتشفة في الكهوف كالمدافن والنقوش على الجدران تشير إلى ممارسة التضحية لدى الإنسان البدائي، وفي بعض العبادات الوثنية تقدَّم الضحية وفق إجراءات وطقوس محددة تُساق فيها الضحية الحيوانية إلى المذبح وهي مزيّنة وعلى رأسها إكليل في موكب تقوده فتاة تحمل سكيناً مخفياً، ثم تُسكب دماؤه على المذبح ويتم حرق الأجزاء الداخلية والعظام كحصةٍ للإله، حيث يتصاعد دخان المحرقة عالياً.
بدأ الإنسان بتقديم الأضحية البشرية انسجاماً مع درجة وحشيته البدائية في تلك المرحلة، ثم بارتقاء وعيه أبدلها بالحيوان المذبوح فداءً لنفسه أو جماعته أو ممتلكاته
ومنذ الألف الخامس قبل الميلاد، عرف المصريون القدماء فكرة ذبح الأضاحي في مناسبات عدة مع طقوس محددة في أثناء تأدية شعائر العبادة، بالإضافة إلى التضحية بفتاة تُرمى في النيل في وقت محدد من العام اتقاءً لفيضانه، وعرف الفينيقيون التضحية بالطفل البكر، وقد وُجدت آثار سومرية للمذبح والمحرقة بجوار المعبد، حيث أورد ويل ديورانت، في "قصة الحضارة"، ترتيلةً سومريةً منذ الألف الثالث قبل الميلاد تقول: "الضأن فداء للحم الآدميين، به افتدى الإنسان حياته"، علماً أن إله السومريين كان يكتفي أحياناً بسلّة من الفاكهة.
كذلك، مارست الشعوب الأوروبية التضحية بكل أشكالها، فالفايكنغ كان إلههم غاضباً دوماً ولا يكتفي إلا بالدم، وبقي الإغريق والرومان يمارسون طقوس التضحية لآلاف السنين، حيث كان الرومان يعدّون وليمةً من لحم الأضحية يأكل منها كبار قادة الدولة وإلى جانبهم صور ومجسمات آلهتهم، وكذلك طبقاً للباحث سامي لبيب، فإن "شعوب المايا والأزتك عرفت التضحية البشرية، فقد كان كهنة المعبد يجتمعون عند سفح الهرم ينتظرون قدوم الخسوف القمري ليقدّموا رؤوساً بشريةً لإله القمر تكفيراً منهم عن خطأ مُفترض يعانون بسببه"، وقد عرفت بعض الحضارات التضحية بحيوانات برية كالغزلان والخنازير بالإضافة إلى الثيران والخراف، لكن -وبحلول الألف الثالث قبل الميلاد- تزايد الاعتماد على الماشية المنزلية المدجّنة.
الديانات السماوية
لم تأتِ اليهودية بجديد في كتابها المقدس حول القربان والأضحية، بل رسختها وأضافت الكثير من تفاصيل الطقوس والشعائر، وقد حفلت أسفار التوراة بحديث التضحية بدءاً من سفر التكوين الذي روى قربان هابيل وقابيل، ثم تضحية النبي نوح ببعض حيواناته الناجية معه في السفينة؛ "وسُرّ الله من تضحية نوح، وبنى نوح مذبحاً للرب. وأخذ من كل البهائم الطاهرة ومن كل الطيور الطاهرة وأصعد محرقات على المذبح. فتنسم الرب رائحة الرضا. وقال الرب في قلبه: لا أعود ألعن الأرض أيضاً من أجل الإنسان"، ثم يرد في سفر إرميا أن اليهود "قد بنوا مرتفعات للبعل ليحرقوا أولادهم بالنار".
وتتكرر المواقف والقصص والأوامر الإلهية، بحيث تبدو فكرة التضحية جزءاً رئيساً من مفهوم التعبد اليهودي، فنجد في سفر العبرانيين "وكل شيء تقريباً يتطهر حسب الناموس بالدم، وبدون سفك دم، لا تحصل مغفرة".
قصة النبي إبراهيم ابتداءً من خروجه من "أور" -المختلف على وجودها في جنوب العراق أم في أرمينيا- وحتى بنائه البيت العتيق في مكة، بالإضافة إلى دورها التأسيسي لمفاهيم التوحيد ورفض الأصنام في الديانات السماوية الثلاث، استعادت طقس التضحية البشرية، لكنها شرّعت إبدال الضحية بالخروف، "فرفع إبراهيم عينيه ونظر، وإذا كبش وراءه... فذهب إبراهيم وأخذ الكبش وأصعده محرقةً عوضاً عن ابنه". ومن المرجّح أن سنّة التضحية الإبراهيمية هي الأساس الذي استند إليه عرب ما قبل الإسلام الذين عرفوا تقديم الأضاحي في كعباتهم وبيوت آلهتهم المنتشرة في شبه الجزيرة، كما يؤكد الدكتور جواد علي في كتابه "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام".
ثم جاءت المسيحية لتجسد فكرة الذبيحة في المسيح المصلوب، فهي لم تلغِ الأضحية بل أبقتها كشرط لغفران الخطايا، لكنها حوّلتها من الحَمَل إلى المسيح كقربان أعظم، وبذلك يكون الفداء هو المحور الذي تدور حوله العقيدة ارتباطاً بفكرة الخلاص، المرتبطة بدورها بالخطيئة الأولى، أي لا خلاص إلا بالذبح والدم، وقد ورد في رسالة بولس الرسول إلى أهل روما: "فالتكفير عن الذنوب والخطايا والتقرّب من الرب وطلب الغُفران، لا يتأتّى من خلال تقديم أضحيةٍ حيوانية، وإنما هي مُجَسَّدة في يسوع الذي يَفْتَدي أتباعه بدمه، ويتحمَّل عنهم خطاياهم".
وضع الإسلام عبر الاجتهادات الفقهية شروطاً محددةً للحيوان الأضحية من حيث سلامته البدنية وصنفه ومن يقوم بالذبح ومن يستحق حصةً منه، وليست مقبولةً التضحية بالطيور
والتزاماً بما قاله المسيح كما ورد في إنجيل يوحنا "من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت فيّ وأنا فيه"، يأكل المسيحيون الخروف في عيد الفصح المسيحي ويشربون النبيذ كنايةً عن لحم ودم المسيح المصلوب لرفع الخطايا، فالطقس التعبدي هذا يحيي ذكرى استشهاد المسيح على الصليب بوصفه الفداء الأعظم، كما هو احتواء له في النفس والجسد ليستمدوا من جسده القدسي العون والقوة.
تبنّى الإسلام حكاية تضحية النبي إبراهيم وأثبتها بالقرآن، مع فارق أنه لم يذكر اسم الابن إسحق، لكن التفسيرات الإسلامية أجمعت على أن الابن المقصود هو إسماعيل، والفارق الذي يُحتمل أنه يعكس شكلاً من المنافسة بين العرب "أبناء إسماعيل من هاجر الجارية"، واليهود "أبناء إسحق من سارة السيدة". يقوّي هذا الاحتمال حديث منسوب إلى النبي محمد "أنا ابن الذبيحين"، يقصد أباه عبد الله والجد البعيد إسماعيل.
والتضحية في العقائد الإسلامية بالإضافة إلى إحيائها لسنّة النبي إبراهيم، هي أسلوب للتقرب من الله ابتغاء مرضاته وشكره على نِعَمه، وقد أكسبها المسلمون بعداً اجتماعياً جديداً حين أوجبوا توزيع لحم الذبيحة على الفقراء والمحتاجين.
خروف الأضحى
تعني الأضحية في الفقه الإسلامي "ذبح الأنعام" في أيام محددة من موسم الحج، يوم النحر وأيام التشريق، التي تبدأ في اليوم العاشر من الشهر القمري الثاني عشر في التقويم الإسلامي (ذي الحجة)، فهي جزءٌ واجب من مناسك الحج، الذي لا يكتمل من دونها، أما الذبح في حالات أخرى كوفاء النذور مثلاً فله أحكامه الخاصة، وعليه فإن ما يُذبح في أيام أخرى في سبيل الله وما يُذبح في أيام التضحية بغير سبيل الله، كذبح الجزار للبيع، لا يُعدّ أضحيةً، وتبدأ التضحية بعد صلاة الصباح في اليوم الأول من عيد الأضحى، وهو يوم الوقفة على عرفة ويُعرف بيوم "النحر"، الذي أوجبه القرآن في الآية "فصلِّ لربك وانحر"، كما يمكن التضحية خلال اليومين التاليَين نهاراً. ولا تقتصر التضحية على حجاج الكعبة بل يشارك المسلمون أينما كانوا في هذه السُنّة.
وقد وضع الإسلام عبر الاجتهادات الفقهية شروطاً محددةً للحيوان الأضحية من حيث سلامته البدنية وصنفه ومن يقوم بالذبح ومن يستحق حصةً منه، وليست مقبولةً التضحية بالطيور، لكن بعض الأوساط الإسلامية أجازت وأفتت بجواز التضحية بطير إذا تعذر على المسلم أو لم تسمح إمكاناته بذبيحة حيوانية.
لا تقتصر التضحية عند المسلمين على عيد الأضحى، بل هناك العديد من المناسبات كالنذور لتحقيق رجاءٍ ما، والعقيقة التي هي تضحية حيوانية في اليوم السابع لقدوم المولود سواء أكان ذكراً أو أنثى، والتضحية عند السكن في منزل جديد وغيرها.
تساؤلات برسم السماء
من المفهوم لنا كيف أنتج الوعي البدائي للإنسان فكرة الحاجة إلى استرضاء القوى الما ورائية (الآلهة)، التي تتحكم بمقومات حياته وبالطبيعة حوله وتجنّب سخطها وقواها التدميرية، وأن ذلك يتم عبر إهدائها أو التضحية لها بما تقبله، ولأن التصورات البدئية للآلهة اتسمت بنزعة إضفائية ترسم تصورات لإله يشبه البشر، يغضب ويرضى ويستمتع وله متطلباته، ويمكن تالياً التقرب منه عبر تقديم الهدايا والأضحيات، بما في ذلك التضحية بالابن أو الابنة، أوالتضحية بالبكارة أو بالإخصاء الذاتي، أو ارتباطاً بعقائد الخصب وتجدد الفصول عبر طقوس الجنس المقدس الذي عرفته الكثير من الشعوب في معابدها، لكن استمرار طقوس التضحية في الأديان السماوية الإبراهيمية التي تلقت الوحي ورسائل الإله يطرح بعض التساؤلات المنطقية.
التضحية هي طقس وآلية لكبح جماح العنف، وإن تبديد العنف لا يتحقق إلا عبر طرف ثالث قبل أن يصار إلى الاستعاضة عنه بالذبيحة الحيوانية
هل تخضع العلاقة مع الله لمنطق المقايضة فيعطي ويُعطَى؟ أم أن الإنسان يقدّم الأضحية للعنصر الإنساني الكامن في الكوني؟ ولماذا فضّل الله إراقة الدم على سلّة الفاكهة، طالما أنها كلها مخلوقاته ومن خيراته التي يمنحها للإنسان؟ وطالما الله مكتفٍ بذاته لماذا جعلته عقائد التوحيد يشتهي لحم الذبيحة؟ هل تحيلُ ضرورة الدم إلى رمزية الحياة، خاصةً بعد أن علم الإنسان دور الدم في استمرارها أو اعتقد أن النفس والروح تسري في الدم؟
هل تعود الفروق في صنف الأضحية إلى النظام الاجتماعي وجنس الإله المفترض من حيث الذكورة والأنوثة؟ هل تصحّ المقابلة التالية التي افترضها بعض الباحثين: "نظام أمومي/ زراعي/ إلهة أنثى/ قربان نباتي"، مقابل "نظام أبوي/ رعوي/ إله ذكر/ قربان حيواني"؟ هل يتنسّم الله رائحة شواء الذبيحة ويستمتع بها حقاً فتهدأ نفسه؟ وهل تفضيل الإله للذبيحة انحياز واضح إلى الراعي على حساب المُزارع؟ أم أنه تنافس اجتماعي بشري انعكس في المعتقدات؟
يميل باحثون في علم الإناسة إلى إحالة طقس التضحية إلى عنف أصيل كامن يجري تحويله وتنفيسه، فبحسب روني جيرار، في كتابه "العنف والمقدس"، "التضحية هي طقس وآلية لكبح جماح العنف، وإن تبديد العنف لا يتحقق إلا عبر طرف ثالث قبل أن يصار إلى الاستعاضة عنه بالذبيحة الحيوانية"، بينما يقدّم عالِم الأساطير والتر بركيرت تفسيراً آخر بقوله: "إن طقوس التضحية بالمواشي ربما تطورت باعتبارها استكمالاً لطقوس الصيد القديمة، إذ حلَّت المواشي محل الطرائد البرية في الطعام".
وبسبب التراكب بين ما هو سماوي/ إلهي/ ما ورائي، وبين البشري على مستويي الوعي والنزعات الفطرية، فإن الركون إلى أجوبةٍ نهائية وتفسيراتٍ يقينية ليس بالأمر السهل، وسيبقى المجال مفتوحاً لأسئلة تحتمل النظر والبحث.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.