مع اقتراب شهر "ذو الحجة" من كل عام هجري تبدأ الاستعدادات، فتزدحم الشوارع بشوادر الأغنام، تروج تجارة الماشية، وتزدهر أسواق السكاكين المعدنية في أجواء دينية.
"الكفوف الحمراء"
لدماء الأضحية مكانة خاصة في مصر، فلا تتم عملية ذبح إلا وتظهر الكفوف الحمراء، دموية على واجهة المنازل والسيارات.
يقوم صاحب الأضحية بغمس كفيه في دماء الذبيحة الساخنة، وطبعها على الحوائط والسيارات، فيما يعرف بـ"خمسة وخميسة" ليمنع العين ويبعد شر الحسد.
في الواقع، هذه العادة ترتبط بعملية ذبح الماشية والخراف في أي مناسبة، وليس عيد الأضحى فقط، فالمصريون عندما يشترون منزلاً جديداً أو سيارة، يتصورون أن عملية الذبح قد تنجيهم من عين الحاسد.
يقوم صاحب الأضحية في مصر بغمس كفيه في دماء الذبيحة الساخنة، وطبعها على الحوائط والسيارات، فيما يعرف بـ "خمسة وخميسة" ليمنع العين ويبعد شر الحسد
الأمر لا يقتصر فقط على "عامة الناس"، لكنها عادة يحرص عليها غير قليل من نجوم المجتمع ورجال الأعمال والفنانين. فعلى سبيل المثال، تحرص الراقصة دينا على نشر صورة لها عقب كل عملية ذبح في عيد الأضحى ويداها ملطختان بالدماء.
"طفل في بطن بقرة"
بيداء ماهر، تقيم في قرية النصر في محافظة الدقهلية، تقول لرصيف22 إنه في قريتها، اعتادت النساء العجائز وضع الطفل الرضيع، كثير البكاء في بطن البقرة أو الخروف، بعد إتمام الذبح والتنظيف، وترى أن تلك الوضعية تمنع الحسد الذي أصاب جسده وتسبب في بكائه.
أما ولاء فكري، ربة منزل من قرية البساتين التابعة لمحافظة دمياط، فتذكر لرصيف22 أن في قريتها تنتشر الكثير من المعتقدات حول بركة الأضاحي في علاج الأمراض، وخصوصاً تأخّر الإنجاب، وضعف القدرة الجنسية لدي الرجال. فالمرأة التي يتأخر حملها يحضرونها للعبور فوق دم الضحية سبع مرات، ليحقق الله رجاءها في الحمل، أما الرجال، فيحرصون على تناول جزء من كبد الضحية، نيئاً دون طهي، حتى تزيد قوته، وتشتد صحته.
الدكتور مجدي عاشور، المستشار العلمي لمفتي الجمهورية، أكد في وسائل الإعلام المختلفة، أنه غير مقبول شرعاً قيام البعض بذبح أضحيتهم وتلويث البدن والممتلكات بدماء هذه الأضاحي، لذلك يجب الامتناع عن إتمام الذبح في الشوارع ولمس الدماء بالأيدي.
"مسح الوجه في الهيدورة"
للأضحية ودمائها قدرات خارقة، وأسطورية في الموروث الشعبي الجزائري هو الآخر. لذلك، فإن شراء الخروف لذبحه في صباح عيد الأضحى، مسألة لا يمكن التقاعس عنها، مهما كانت الحالة المادية للعائلة الجزائرية.
قد يستدين البعض أو يبيع شيئاً من أثاث منزله لشراء الأضحية في الجزائر.
قد يستدين البعض أو يبيع شيئاً من أثاث منزله لشراء الأضحية، فعدم شراء كبش العيد يعد وصمة عار في بلاد المغرب العربي بشكل عام.
فاطمة الزهراء سعد الدين، جزائرية، حاصلة على ماجستير إعلام، تسكن في الجزائر العاصمة، تقول لرصيف22 إن الجزائريين لديهم معتقدات عديدة حول الأضحية، يتوارثونها جيلاً بعد آخر، من أهمها "مسح المرأة لوجهها في الهيدورة"، والهيدورة، كما تفسر فاطمة، هي فراء الخروف بعد تنظيفه.
تقوم المرأة بمسح وجهها بالجهة التي تحتوي على جلد الخروف وليس صوفه. حتى يرزقها الله بالأطفال إذا ما تأخر حملها. كذلك تحرص الأمهات على الاحتفاظ ببعض من دماء الأضحية في زجاجة، لاستخدامها في علاج "لوز" الأطفال، وما يصيبهم من التهابات صدرية، وهي عادات لا يزال الكثيرون في الجزائر يحافظون عليها، رغم الانفتاح والتطور العلمي والطبي.
الدماء لـ"ست" إله الشر
يرجع تعلق البعض "الأسطوري" بدماء الأضاحي، والاعتقاد في قدرات خارقة له إلى الحضارة المصرية القديمة، بحسب الأثري المصري تامر عبد المقصود، وهو أستاذ جامعي في كلية الآثار جامعة القاهرة.
يقول عبد المقصود لرصيف22 أن "الدماء ترمز لـ"ست" إله الشر عند المصريين، ووضع المصريون القدماء الكفّ الدموي على الجدران معتقدين أنهم بذلك يطردون الأرواح الشريرة".
الأمر لم يقتصر على المصريين القدماء فقط، بحسب تامر، فهناك الكثير من الأبحاث التاريخية تؤكد أن هذه العادة عرفها اليهود أيضاً، حيث ذكر في العهد القديم عبارة: "ويكون لكم الدم علامة على البيوت التي أنتم فيها، فأرى الدم وأعبر عنكم، فلا يكون عليكم ضربة للهلاك حين أضرب أرض مصر".
ويكمل تامر عبد المقصود، أنه على الرغم من خروج اليهود من مصر، إلا أن بعض عاداتهم بقيت، حيث اعتقدوا أن الأصابع الخمسة تشير إلى الحواس الخمس، وأطلقوا عليها اسم "يد مريم"، في إشارة منهم إلى السيدة مريم العذراء، واعتقدوا أن وضعها في عنق المرأة الحامل أو الطفل الوليد، يصرف عنهم الشر ويمنحهم الصحة والعافية.
"ثم اخترق العادة المصرية القديمة "الفكر الإسلامي" بعد دخول الإسلام مصر، بل وأطلق عليها كفّ فاطمة، نسبة إلى فاطمة الزهراء بنت النبي محمد، مؤكدين أن الأصابع الخمسة تشير إلى آيات سورة الفلق الخمس التي تمنع الحسد والعين"، بحسب عبد المقصود.
رش الملح في المغرب
"الشعب المغربي أيضاً لديه موروث شعبي حافل بالأساطير التي تتعلق بالأضاحي، وهي العادات التي لا زالت قائمة في الكثير من المناطق المغربية. فأهل المغرب يقدسون الأضحية، ويعتبرونها سبباً لإحلال البركة في المنزل طوال العام، لذلك لا يتنازلون عن شرائها مهما كانت حالتهم المادية، ويقومون بملء فمها بالقمح والماء قبل الذبح، حتى تزيد محاصيلهم ويعمّ الخير. كما يرشون ملحاً على الدماء في لحظة الذبح لطرد الأرواح الشريرة"، تقول أميمة غيث، مصممة حلي مغربية تعيش في الرباط، لرصيف22.
كذلك تحتفظ نساء في المغرب بزجاجة بها القطرات الأولى من دم الأضحية، يستخدمونها بعد ذلك في تبخير الأطفال لطرد العين الحاسدة وفك السحر، بحسب أميمة.
وتؤكد أميمة أن لعظام الأضحية أيضاً أهمية في الثقافة المغربية وليس الدماء فقطـ، حيث تحتفظ النساء بعظم الكتف بعدما يتم أكل لحمه لقراءة المستقبل، وبعض النساء يتخوّفن من ظهور خطّ أبيض على عظم الكتف، بحسب معتقداتهن، فإنّ ذلك يرمز إلى إنذار بموت أحد أفراد العائلة خلال العام.
كما يقومون بدفن عظام الرأس في مكان بعيد عن الأنظار، حتى لا تستعملها نساء أخريات لإلحاق الأذى بالعائلة عن طريق السحر.
وقد أشار الباحث خزعل الماجدي، الباحث العراقي في الأساطير القديمة، في كتاب "بخور الآلهة"، إلى أن تأمل عظام وكبدة ولحوم بعض الحيوانات المذبوحة، هو من أقدم أشكال العرافة والتنبؤ بالمستقبل، وسبقت العرافة بالماء والزيت وقراءة الكف، وأن الأقدمين كانوا يعتبرون "كبدة" الحيوانات تسكن فيها أرواحهم، وأحياناً يقدمون أو يحجمون عن بعض الحروب بسبب قراءات السحرة لـ "الخطوط والأشكال" المرسومة في أعضاء الحيوانات المذبوحة.
لا يختلف الوضع كثيراً في تونس عن المغرب والجزائر، فكثير من العادات المنتشرة في البلدين يحرص عليها أيضاً الشعب التونسي بحكم التقارب الجغرافي، لكن "يتميز التوانسة باحتفاظهم بمرارة الكبش، وتعليقها في أحد أركان المنزل"، وفقاً لسونيا هلال، مدرسة لغة إنجليزية، تعيش في مدينة سيدر حسين التونسية.
تقول هلال لرصيف22 إن مرارة الكبش الممتلئة في مورثهم الشعبي ترمز لموسم خصب.
"الدماء ترمز لـ"ست" إله الشر عند المصريين، ووضع المصريون القدماء الكفّ الدموي على الجدران معتقدين أنهم بذلك يطردون الأرواح الشريرة"
ويحذر طبيب الجلدية هيثم سامي، من لمس أي جزء من "الأضحية" بعد الذبح بشكل مباشر، يقول لرصيف22: "ملامسة الجلد لدماء الذبيحة يعرّض صاحبه للإصابة بالعديد من الأمراض الجلدية، كمرض البروسيلات، وهي عدوى بكتيرية تؤدي إلى الحمى والإرهاق، وألم المفاصل وفقدان الشهية، ويحتاج علاجها مدة طويلة، كما أن لمس اليد للدماء قد يؤدي إلى ارتيكارية تلامسية، أكزيما وتهيج الجلد".
أما عن شائعة تناول الكبد نيئاً يزيد من قدرة الرجال الجنسية، فأكد هيثم أنه لا يوجد دليل علمي على ذلك: "هذا كلام عار تماماً من الصحة، بل قد يؤدي إلى أمراض خطيرة، مثل السالمونيلا و الشيجيلا والبكتيريا القولونية، وهذه أنواع مختلفة من البكتيريا تؤدي إلي تسمم غذائي في صورة غثيان، قيء وإسهال أو إسهال وحمّى، لذلك يجب التوقف عن هذه العادات فوراً".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ 16 ساعةأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ يومينلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 5 أياممقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ أسبوعحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...