شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
لماذا أسرد هذه الحادثة غير الحقيقية تماماً؟

لماذا أسرد هذه الحادثة غير الحقيقية تماماً؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن والحقوق الأساسية

الأربعاء 19 يوليو 202311:58 ص

كان أخي الأصغر يسرق مصروفه اليومي من جيب أمي سرقة. لا أحد حتى الآن يعرف لماذا كان يفعل ذلك. ربما لم يكن يثق أن أمي ستتذكر أن تعطيه الثلاث ليرات، لأنها مشغولة بتجهيز الساندويش، أو الزوادة، كما كنا نطلق عليها في تلك الأيام، وربما كان يشعر أنه معاقب بسبب سرقته في اليوم السابق، وربما أن الأمر مجرّد هواية لا أكثر.

وكانت أمي تصرخ به كل يوم: "يا ولد بعدين فيك؟ ما أنا رح أعطيك يا غضيب، ليش بتسرق؟". أما لماذا كانت علاقة أخي بخصوص المصروف محصورة بأمي، فذلك لأن أبي كان قد "نفض يده" من هذا الولد "المشكلجي"، كما يقول. فلم يكن أخي يسرق من أمي فقط، بل منا جميعاً.

كان لا يستطيع لعب الجلول، أو هو يخسر في أية لعبة، لكنه يسطو ليلاً على ممتلكاتنا من الجلول ويلاعبنا بها نهاراً. أما علاقته بالأصدقاء والجيران فحدّث ولا حرج؛ فلم يكن يمرّ يوم دون أن يعود مجروحاً في رقبته بسبب "طوشة" مع سعيد، أو بقميص ممزق بسبب سقوط عن شجرة، أو أن يزورنا أحد الجيران ليلاً لشكوى ما ضدّ هذا الكائن الذي لا يسلم منه شيء؛ لا بشر ولا حيوان ولا نبات.

كان أبي يهدده يومياً بأن يتبرّأ منه، وكان يفرغ غضبه بأمي باعتبار أن هذا نتيجة تربيتها وليست تربيته، والحقيقة أن أخي لم يكن تربية لا هذا ولا تلك، بل تربية الحارة التي يمتلك فيها أخوة أكبر منه، ما يجعله مرتاحاً أن له "ظهر يسنده" إن وقع في مشكلة جدية. ورغم أننا جميعاً لم نكن نسانده بشيء، إلا أن مجرّد الفكرة كانت تجعل منه مخلوقاً بلا حدود ولا ضوابط.

كان أخي الأصغر يسرق مصروفه اليومي من جيب أمي سرقة. ربما لم يكن يثق أن أمي ستتذكر أن تعطيه الثلاث ليرات، وربما كان يشعر أنه معاقب بسبب سرقته في اليوم السابق، وربما أن الأمر مجرّد هواية لا أكثر

في يوم من الأيام الحارّة، مثل هذه الأيام، دخل أخي سمير بوجه جدّي وقال لأبي: "يابا بدك تشتريلي عباية وحطّة وعقال". استهجن أبي من الطلب، خاصة أن هذا لباس لكبار القرية وليس للأطفال من جيل أخي، لكنه سأل "بدون نِفِس": "وليش بدك اياهم؟"،
قال أخي بثقة مبالغ فيها: "لقد تم اختياري لأقوم بدور في المسرحية المدرسية في اليوم المفتوح".
لا أذكر أن وجه أبي علته ملامح الدهشة والاستغراب، كما حصل له في تلك اللحظة، فمن جهة هو لا يصدق أن ابنه المشكلجي، الفاشل في دروسه، يمكن أن يتم اختياره لأي شيء جاد، سواء في المدرسة أو غيرها، ومن جهة أخرى فقد سيطرت عليه، للحظة، فكرة تأنيب الضمير تجاه ابنه، فهل من المعقول أنه كان ظالماً لهذا الولد، وأن سمير في البيت غيره في المدرسة؟ هل من المعقول أن سمير يرغب بأن يتغيّر ولا ينقصه إلا التشجيع والاحتواء، أو على الأقل فرصة مشابهة، كهذه المشاركة في مسرحية اليوم المفتوح؟
أفاق أبي في اليوم التالي مع صياح الديك، وحلق ذقنه ولبس أفضل ما لديه من ملابس، واستقلّ الباص المتجه إلى مدينة نابلس. في المدينة حرث السوق ذهاباً وإياباً وهو يبحث عن عباية رجالية بمقاس ابنه الصغير، وعندما لم يجد اشترى واحدة بمقاس كبير، وذهب بها إلى الخياط الذي قام بتصغيرها لتتلاءم مع حجم سمير، وكما فعل مع العباية فعل مع العقال والحطّة.

وحين عاد إلى البيت عند غروب الشمس، كان الإنهاك قد نال منه، بحيث تسلّخت قدماه من المشي، وتبللت ثيابه من العرق، لكن المهمة تستحق كل هذا التعب، فالموضوع يتعلّق بسمير الذي كان قد فقد الأمل منه تماماً، وها هو، على عكس التوقعات، يتم اختياره لهذه المهمة الفنية النبيلة.
على مدار شهر كامل بعد شراء اللباس، كان سمير يتدرّب على دوره في المسرحية. أين سمير؟ في البروفا. من أين يأتي سمير؟ من البروفا. ما هو جدولك في يوم غد يا سمير؟ لدي بروفا. إلى أن جاء اليوم الموعود.

ارتدى أبي ملابسه المفضلة، وذهب إلى المدرسة كواحد من أوائل المدعوين، أو الشخصيات المهمّة، فهو ضيف فوق العادة على مسرحية سيمثل فيها ابنه. اختار مقعداً في الصف الأول من صفوف الكراسي المرتبة في ساحة المدرسة، عدّل عقاله كما يليق بأقارب الفنان، وجلس بانتظار بدء المسرحية.

نحن نتدرّب طوال عقود ونعتقد أن لنا دوراً حقيقياً في المسرحية، والتي تنتهي دوماً بصفعة لنا. أعرف أن هذا مؤلم، لكن إن لم يحفّزنا الألم على تغيير الدور، أو رفضه على الأقل، فما الذي سيحفّزنا؟

بدأت المسرحية بعد كلمة مُملّة للمدير، واستعراض مطوّل لإنجازات الآذن. بدأت بظهور المختار على المسرح وحوله مجموعة من المساعدين. قام بدور المختار، الطالب صبحي العبد، ابن جارنا عبد الحميد الذي يكره أبي وأبي يكرهه. لا بد أن أبي امتعض حين رأى صبحي في دور المختار، فهذا دور أساسي لا يليق إلا بابنه سمير. لكن ليس مهماً، لا بد أن دور سمير لا يقل أهمية عن دور صبحي. بدأت الأحداث تتوالى والأبطال يدخلون ويخرجون ولا وجود لسمير، لدرجة أن أبي شكّ أن ثمة مسرحية أخرى سيتم عرضها بعد هذه المسرحية التي لا يظهر فيها سمير، على غير المتوقع.

تحدّث المختار مع مساعديه، ناقشوا أمور القرية والبهائم والمرعى. تحدث الذي يقوم بدور ناطور الجبل عن موسم الزيتون، قال الولد الذي يمثل دور الراعي إن على القرية أن تتكافل بشأن الحليب واللبن. خرج ممثل ودخل آخر ولا وجود لسمير. عند نهاية المسرحية دخل سمير، وكان يمثل دور الخادم الذي تأخر عن اجتماع القرية. قال: السلام عليكم. أجابه المختار بحدة: أين كنت يا غبي؟ ثم صفعه وطرده خارج المسرح. وانتهت المسرحية.
احتقن وجه أبي وبرزت عروق رقبته. أصابته أعراض جلطة إلا قليلاً. انتظر بفارغ الصبر أن ينفضّ الجمع وتنتهي هذه المهزلة التي وضع نفسه فيها. وحين تفرّق الجمهور والممثلون أمسك بياقة سمير وسأله: "قل لي يا حيوان على ماذا كنت تتدرب؟ على أكل الكفوف؟ طيب كان دربتك أنا. ولك يا بني آدم انت رايح جاي صارلك شهر مشان تقول السلام عليكم وتوكل كف؟".
لماذا أسرد هذه الحادثة غير الحقيقية تماماً؟ لأن حالنا لا يفرق كثيراً عن هذه المسرحية ولا عن سمير تحديداً. فنحن نتدرّب طوال عقود ونعتقد أن لنا دوراً حقيقياً في المسرحية، والتي تنتهي دوماً بصفعة لنا. أعرف أن هذا مؤلم، لكن إن لم يحفّزنا الألم على تغيير الدور، أو رفضه على الأقل، فما الذي سيحفّزنا؟


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image