هل أنت سعيد؟ ناجح؟ بخير؟ كيف تردّ عندما يوجه إليك سؤال بهذا الشكل، وينتظر من أمامك أن تكون إجابتك مباشرة، "بالأبيض أو الأسود"، في حين أنك لا تستطيع أن تردّ إلا مستخدماً اللون الرمادي ولا تملك إجابة محدّدة؟
لا يوجد شيء أسوأ من الوقوف بين البين بين، أن تُحشر بين النقيضين وتنظر إلى كليهما دون أن تعرف انتماءك الحقيقي. هذا الإحساس البغيض الذي يجعلك تقف في منتصف الشعورين ولا تعرف أيهما أقرب لك. أن تتمكّن من أن تصف حالتك وصفاً دقيقاً، هذا امتياز كبير لا يتمتع به الكثيرون، فالأغلبية يقفون في هذه المنطقة الرمادية، يحتضنونها دون رغبة منهم، ومع الوقت لا تتخلّى هي عنهم.
أنا واحدة من هؤلاء الرماديين الذين يعيشون كل شيء بصورة ناقصة، أنتمي إلى الشيء وإلى نقيضه في آن واحد، أسبح في كل منهما على حد سواء، أسعد مع الإيجابي وأنهار مع السلبي في نفس الوقت.
نصف نجاح
يظلّ النجاح في مجال الكتابة والصحافة هو حلمي الأكبر الذي سعيت إليه منذ دخولي الجامعة، حلمت باستمرار أن يلاحظني من حولي، أن أكون مصدر فخر لعائلتي وأبنائي مستقبلاً، هذا النجاح الذي اعتاد أن يراوغني ويهرب مني في أوقات عجزت فيها عن مواجهته وتحديه.
بعد الجامعة، حملت حقيبتي تاركة قريتي الصغيرة وألقيت بنفسي بين أنياب العاصمة لأشق لنفسي طريقاً، من ينظر من بعيد يظن أنني شققت بالفعل هذا الطريق، ولكني في الواقع لمسته فقط بإصبع صغير لم يترك أثرا كبيراً، فالبسيط الذي حققته في مجال الكتابة والصحافة إلى الآن غير ملموس. يرى البعض أعمالاً لي فيشيد بها، ويدفعني لمنطقة النجاح بقوّة، ثم أواجه نفسي بالعكس لأستقرّ مجدداً في هذه المنطقة بين النجاح والفشل، أراقب كل منهما، أنظر للنجاح بأمل وأهاب الفشل بصمت.
أنا واحدة من هؤلاء الرماديين الذين يعيشون كل شيء بصورة ناقصة، أنتمي إلى الشيء وإلى نقيضه في آن واحد، أسبح في كل منهما على حد سواء، أسعد مع الإيجابي وأنهار مع السلبي في نفس الوقت
الوصول للنجاح ليس سهلاً، يحتاج إلى العمل والمثابرة والجدية طوال الوقت، وربما لا تقدر روحي على مواجهة كل هذه المتطلّبات باستمرار، وتعدّد الأحلام يصبح مع الوقت حملاً ثقيلاً على القلب، ورغم ذلك لا أملّ من المحاولة ولا أتخاذل، لأجد نفسي في مكان يسبب لي الخجل والابتعاد. أحقّق ذاتي وأضع بصمتي دون أن ألمع بشكل يلفت النظر لي، وهذا يزعجني.
هذا النجاح المدلّل هو باب من أهم أبواب السعادة، لا يمكن أن ننكره أو نتغاضى عنه، لا أصدّق من يقول إنه لا توجد صلة وطيدة بين النجاح في العمل وبين السعادة في الحياة، ربما لا تقام السعادة عليه فقط، ولكنه ركن أساسي لا يمكن نكرانه.
شبه سعيدة
مفتاح السعادة غائب عن الكثيرين، وأنا واحدة منهم، في أوقات أظنّ أنه لا يوجد مفتاح واحد للسعادة، بل عدّة مفاتيح مخبأة، نعرف بعضها ونجهل البعض الآخر.
استقرار الروح يلزمه الركون إلى شاطئ واحد، تنقسم روحك في ألم إذا تمدّد قلبك ليصل إلى كل مكان، فلا تعيش الروح في المنتصف وإلا ماتت
"هل أنت سعيدة؟"... والدتي تسألني باستمرار هذا السؤال. تظن أن له إجابة واضحة، محدّدة، مختصرة بنعم أو لا، والحقيقة أنا لا هذا ولا ذاك. لا أجد نفسي تعيسة ولا أراني سعيدة بالمعنى الحقيقي للكلمة، تسعدني بعض الأشياء البسيطة التي يفعلها زوجي وأراها من أبنائي، يسعدني قربهم وأسعد بحياتي معهم، أستمتع بعملي في أغلب الأوقات وأفخر بمقال كتبته ولاقى استحسان الأصدقاء، ولكني أسقط في أحيان داخل هذا البئر العميق للحزن والخذلان.
كنت أتوقع الكثير ممن حولي، تمنّيت أن أحقق المزيد من النجاح، أصبح مشهورة ربما، أكتب المزيد والمزيد وأصل لمناصب مختلفة، أن أسافر إلى بلاد الله الواسعة، ألا أشعر أنني مكبّلة بالأمومة، ألا يضغط على إحساس المسؤولية، أن أخسر المزيد من وزني وأجد الوقت لمشاهدة أعمال رومانسية لا أقتنع بها، ينقصني جناحا السعادة المكتملان حتى أستطيع الطيران، فأنا لا أملك سوى جناح واحد.
روح معلقة
استقرار الروح يلزمه الركون إلى شاطئ واحد، تنقسم روحك في ألم إذا تمدّد قلبك ليصل إلى كل مكان، فلا تعيش الروح في المنتصف وإلا ماتت.
تذهب روحي باستمرار إلى هذه التطلعات البعيدة التي لم أستطع الوصول إليها، أبحث عنها أجدها معلقة في فكرة سيناريو قديم لم أستطع كتابته إلى الآن، ربما أراها تجلس منفردة على كرسي في مقهى قديم لم أجلس عليه منذ سنوات، قد أجدها عالقة هناك في كتاب ما لم أستطع ان أستكمل قراءته إلى الآن، أو ربما صعدت على متن طائرة مغادرة دون وجهة محدّدة.
أسقط، وربما أنت تسقط، وربما نحن جميعاً نسقط، ولكن الأهم من السقوط هو استمرار المقاومة في محاولة الخروج من إحساس وهمي يمنحنا راحة نفسية مؤقتة
أعود باستمرار إلى الفتاة الحرّة قبل الزواج والاستقرار بمسؤولياته، أسأل نفسي: هل لو خيروني سأختار العودة للماضي وترك الأمومة خلفي؟ لا أجد إجابة واحدة، روحي موجودة في الماضي ويحملها أولادي في آن واحد.
روحي التائهة تدفعني في أحيان للبكاء، لا أفهم أيضاً سر تناقضها، ففي أحيان أجدني ممزقة بين القاهرة وبين القرية التي ولدت وتربيت فيها، فلست أنا البنت القاهرية التي تحب العاصمة الإسمنتية وتعشقها، ولا أنا أيضاً أكره الريف الذي تركته مع دخولي الجامعة. في القاهرة أعمل، يوجد بيتي وأولادي وزوجي، هنا أحضر الندوات وأمارس إبداعي، وتتعدّد الأنشطة ولكني أختنق، من حين لآخر يضربني الحنين لتلك القرية التي احتضنتني صغيرة، ففيها يتواجد أهلي وأحبتي وهذا الهدوء الذي أفتقده، ولكن مع الوقت أملّ من تطفّل الغير واختلاف التفكير. يزداد هذا الإحساس بداخلي كل يوم، فأشعر كأنني شجرة لا جذور لها تسقط في هذا البحر الرمادي لتكسنه ويسكنها إلى الأبد.
لم تعد هذه الأحاسيس غريبة عني، أتعايش معها في تصالح تام وربما هذا أكثر ما يخيفني، أصدّق أحياناً أن هذه المنطقة الرمادية الخانقة لا تخصّني وحدي بل يعيش داخلها ملايين الأشخاص غيري، ربما سقطنا جميعاً دون وعي منا، ربما أيضاً اخترنا السقوط بإرادتنا. ولكن الإحساس الغالب بداخلي أننا جميعاً في لحظة ما قد تنزلق أقدامنا لنجد أنفسنا أمام اللون الرمادي، يحتضننا ونحتضنه، نأمل في أن يكون بديلاً للون أبيض نسعى إليه ولم نصل بعد، ونرجو أن يكون أخفّ وطأة من لون أسود نكرهه ولن تقوى كرامتنا على مواجهته.
أسقط، وربما أنت تسقط، وربما نحن جميعاً نسقط، ولكن الأهم من السقوط هو استمرار المقاومة في محاولة الخروج من إحساس وهمي يمنحنا راحة نفسية مؤقتة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...