كنت طالبة فنون جميلة، عندما استفزّني سؤال: "طالبة رسم وما بتعرفي شو يعني كيتش؟"، وأنا بالكاد حينها كنت أعرف معاني مصطلحات أبسط وأكثر انتشاراً كالتكعيبية، تماماً كما لم أكن أفرّق (وربما ما زلت) بين الانطباعية والتعبيرية.
السؤال المُستفزّ جاءت معه توصية: "اقرئي (خفّة الكائن التي لا تحتمل) لميلان كونديرا"، الذي لم أكن أعرفه هو أيضاً.
بعد قراءة الرواية، فتح لي مصطلح كيتش، الذي خصّ له كونديرا جزءاً كاملاً في الرواية، أبواباً على أسئلة كثيرة ومراقبات أكثر، فاخترته لاحقاً موضوعاً لأطروحة التخرّج: "الكيتش في فنون الضاحية الجنوبية"؛ الضاحية الجنوبية حيث كنت أعيش.
أطروحتي لم تكن موفقة. لم أكن حينها (وربما الآن أيضاً) أعرف كيف أكتب أطروحة. حجّتي كانت قوية، وبراهيني أيضاً، ولكني توسّعت إلى جوانب اجتماعية ودينية لم أكن متمكّنة منها. طبعاً هذا ليس سبب فشل الأطروحة الوحيد، السبب الأهم كان "الدكتور" المُشرف على الأطروحة، والذي ظنّ في البداية أن "كيتش" هو اسم فنان وأن موضوع أطروحتي هو سيرة حياته! وبالتالي تعلّم مني الدكتور ما كنت قد تعلّمته حديثاً عن الكيتش، ولم يتمكن من تصويب ما كان يجب على مشرف تصويبه.
قبل مناقشة أطروحتي بيوم، تمّ إبلاغي أنها مرفوضة لأنها تناولت "فنون" الضاحية، أي يافطات عاشوراء وزينة الحج والنصب التذكارية ورسوم الجدران وزينة واجهات المحلات، بما لا يليق مع مكانة "الشيعة"!
ثم لاحقاً، وقبل مناقشة الأطروحة بيوم، تمّ إبلاغي أنها مرفوضة لأنها تناولت "فنون" الضاحية، أي يافطات عاشوراء وزينة الحج والنصب التذكارية ورسوم الجدران وزينة واجهات المحلات، بما لا يليق مع مكانة "الشيعة"!
كانت فترة قاسية، اخترت في نهايتها الانصياع لقوى الأمر الواقع وأكتب ما شاؤوا كي أنتهي من مهزلة الجامعة، وأعطوني أدنى علامة تمكّنني من التخرّج ليخلّصوا مني ومن أسلوب السخرية الذي اعتمدته في نقاش أطروحة متنها لا يبرر خلاصتها التي اختاروها هم: فنون الضاحية الجنوبية ليست "كيتش".
لا يمكنني فصل علاقتي بكونديرا عن علاقتي بعالم الكيتش الذي لم يتوقف عن إذهالي. عالمٌ أردت أن أصدّق أنني أُولى مكتشفيه، وبالنسبة لكثير من الأصدقاء والمعارف وأفراد العائلة، ارتبط هذا المصطلح لديهم بي لكوني كنت من أرشدهم عليه بسبب استحواذه عليّ وعلى معظم أحاديثي حينها. كنت مهووسة بالكيتش وبالبحث عنه وباكتشاف كل طبقاته، وحتى بخلق تعاريف جديدة له. بحثت عن الكيتش في منزلنا، وممارساتنا، ومفرداتنا، وبتعلّقنا بعاداتنا الصغيرة وتكرارها، حتى نسينا السبب والحاجة الأصل وبقيت النسخ الرديئة منها.
بسببي اهتمّ أبي خاصةً بهذا المصطلح، وصار يدلّني على معالمه حيث يجدها، فنتشارك التحليل والمراقبة، ثم اهتم بميلان كونديرا ورواياته.
لم ينتبه أبي، كما لم أنتبه أنا، للشبه بينه وبين ميلان كونديرا، ولن ينتبه، لأني حين انتبهت للشبه، بفضل ملاحظة صديق، كان أبي قد غادر عالمي إلى عالم يتعذّر علي إيصال أي معلومة إليه ولو طارئة.
مات كونديرا، ومات أبي قبل بثمانية أعوام قبل أن يتسنّى له قراءة "حفلة التفاهة". ما زلت مفتونة بالكيتش. أبحث عن ملامحه وأهرب منها في آن معاً. وما زالت خفّة كينونتي التي أطمح للوصول إليها لا تُحتمل، مقابل ثقل الوجود وعدمه
لهما ذات تسريحة ونوعية الشعر الذي أصبح أبيض، وذات لون البشرة، ذات الأنف وذات النظرة العميقة. لا يمكن لمن رأى صوراً لكليهما إلا أن ينتبه للشبه الشديد بينهما. لم أنتبه له أنا لسبب بسيط، أنني لم أكن قد رأيت أي صورة لميلان كونديرا قبل أن يلفت نظري ذاك الصديق، ثم ذهلت لهذا الشبه.
زعل أبي عندما زعلت بسبب الأطروحة، وأراد أن يذهب إلى الجامعة ليشرح الكيتش لمن رفضها، فرفضت. ليس فقط لأن الأمور لا تجري بهذه الطريقة في الجامعة -عكس المدرسة – بل أيضاً لأني أردت أن أجنّبه بشاعة أن يكون على مسافة صفر مع "كيتش" السلطة.
بالإضافة إلى "المزحة" المؤلمة، ظلت "خفّة الكائن التي لا تحتمل" أقرب الروايات إليّ. وكرهت جداً أي ترجمة أخرى لعنوانها، بالرغم من عدم تأكدي من صوابية هذه الترجمة، لأن العنوان باللغة الإنكليزية على الأقل يحكي عن الكينونة وليس الكائن. ولكن تماماً كما أكتب اسمي "رولا" وليس "رلى" لأسباب لا علاقة لها بالطريقة الصحيحة بل بالطريقة الأولى التي عرفت فيها اسمي، كذلك أفضّل ترجمة العنوان الأولى... الأولى على سمعي.
سابينا عشيقة توماس موجودة في ضميري كل الوقت. تذكّرني بأنني أشبهها وأحياناً تتهمني أني أشبهها. أنا سابينا. أتشارك معها ذات الكيتش. أعيد قراءتها كل فترة لأعيد المقارنة بيني وبين سابينا، لأتعرف مجدّداً على "كيتشنا".
مات كونديرا، ومات أبي قبل بثمانية أعوام قبل أن يتسنّى له قراءة "حفلة التفاهة". ما زلت مفتونة بالكيتش. أبحث عن ملامحه وأهرب منها في آن معاً. ما زلت أشبه سابينا وربما أصبحت أكثر حريةً وأكثر فردية وأكثر هرباً... وما زالت خفّة كينونتي التي أطمح للوصول إليها لا تُحتمل، مقابل ثقل الوجود وعدمه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين