عندما يتحوّل السؤال من: "ماذا أقرأ؟" إلى: "بكم أقرأ؟"، تُصبح الكلمات كالسلع، تُقارَن بأسعار الخبز والقهوة وكيس السكر، فنقول مثلاً إنه يكفينا لهذا اليوم رغيف من الخبز وكوب قهوة وفصلان من الكتاب، فماذا لو تضخّم كمّ المال الذي نحتاجه لقراءة نفس عدد الكلمات؟، عندها سنكف عن مقارنة الكلمات بالخبز ونجعلها في مصاف الفواكه المُحرّمة مادياً أو اللحوم الموسمية، وبذلك تترك الكتب رفوف السلع الأساسية لتذهب نحو رفوف السلع الترفيهية لمن استطاع إليها سبيلاً.
بكمّ، وليس الكيف أو حتى الكمّ
هذا هو الحال الآن مع أزمة تضاعف الأسعار التي نمرّ بها والتي طالت المطبوعات وتذاكر السينمات واشتراكات منصّات الأعمال الفنية، فشعرنا فجأة بأن الفن والثقافة باتوا أعباء مادية بدلاً من كونهم مهرباً وعزاء وحلّاً لأعباء الحياة، خاصة مع زيادة أسعار المعيشة بكامل أركانها من مسكن ومأكل وملبس، فمن المستحيل أن يستطيع مواطنو الطبقات الوسطى للأدنى أن يُفرغوا جيوبهم لشراء الكتب والاشتراك في المنصات الفنية بأسعار رسمية.
لمعرفة حجم الأزمة، لنتخيل أن أسرة قلّلت من استهلاكها للحوم من ست مرات شهرياً إلى مرة واحدة فقط بعد زيادة سعر اللحوم نحو ثلاثة أضعاف تقريباً، ثم نضع سعر الكتاب الجيد الأصلي مقارنة مع كيلو واحد من اللحم لنجد أنه إما يساويه سعراً أو يفوقه، فهل نستطيع إجبار طالبي الثقافة على الاستغناء عن تلك المرّة لشراء كتاب جيد؟
كذلك الأمر بالنسبة لمنصّات مشاهدة الأعمال الفنية، فلو أردنا أن نشترك في منصتين فقط من جميع المنصّات المعروضة سيكلفنا ذلك شهرياً نحو 20 دولاراً، أي ما يوازي كيلوغرامين من اللحوم، بالإضافة إلى مشاهدة الأفلام المعروضة في السينما وغير المتوفرة على شاشة تلك المنصات، والتي يبلغ تكلفة ثلاثة أفلام منها كيلو آخر من اللحم.
هل أُشجّع على السرقة؟ ربما نعم، إذا كان ذلك يعني أنني لا أُشجّع على الجهل، وفي تلك المرحلة التي أصبح فيها امتلاك رأي شيئاً صعباً نظراً لعوامل اجتماعية يطول الحديث فيها، فلا عجب أن أرى في السرقة من أجل التثقيف والفن مقاومة للجهل والتفاهة وأعباء الحياة
النتيجة التي نستخلصها من كل ذلك أنه من المستحيل على الطبقات المتوسطة والأدنى أن تتابع تنمية عقولها ثقافياً وفنياً بشكل قانوني، وأن المهرب الوحيد إلى ذلك هو، بصريح العبارة، سرقة الثقافة والفن.
سرقة أم مقاومة؟
هل أُشجّع على السرقة؟ ربما نعم، إذا كان ذلك يعني أنني لا أُشجّع على الجهل، وفي تلك المرحلة التي أصبح فيها امتلاك رأي شيئاً صعباً، نظراً لعوامل اجتماعية يطول الحديث فيها، فلا عجب أن أرى في السرقة من أجل التثقيف والفنّ مقاومة للجهل والتفاهة وأعباء الحياة، مثلما قال المخرج المصري يسري نصر الله، في منشور حديث له عبر فيسبوك كتب فيه: "سنة 2004، كنت في مهرجان كان مع فيلم (باب الشمس) ووزير الثقافة الفرنسي وقتها كان عامل ندوة لمقاومة القرصنة. أنا قلت له إني مش ضد القرصنة. أبدى دهشته (كان لسة مقلدني وسام فارس الفنون والأدب) فقلت له إن الأفلام المهمة القديمة والجديدة ما بتتعرضش عندنا، بسبب احتكار السينما الأمريكية وقيود الرقابة، فقال لي: في الحالة دي ماتبقاش قرصنة، دي مقاومة".
الجميل في هذا المنشور أن كاتبه أحد صُنّاع الأعمال الفنية التي سوف تُقَرصن وتُسرق، لكنه يعلم جيداً أنها سرقة ولا بد منها، وها هو يستغني عن دفاعاته وأجهزة إنذار شاشاته لتسهيل الأمر على السارقين.
الأمر اللافت للنظر أنه حتى لو أراد الإنسان الالتهاء عن مشاكله بالترفيه الأقل درجة من الناحية الفكرية، مثل أن ينغمس في متابعة مباريات كرة القدم مثلاً، فسيجد نفسه مضطراً لدفع مبالغ طائلة لكل بطولة يشاهدها، أي أنه حتى الجهل سيضطرّك إلى السرقة من أجل الوصول إليه، فإذا كان ولا بد أن نسرق فلنسرق فناً أو ثقافة، أليس كذلك؟
بدائل الثقافة هي عدمها
سيقول البعض أن السرقة غير اضطرارية لأن هناك بعض من البدائل متوفرة، ولكن ذلك يعني فقط أن نشاهد القنوات الرسمية المحلية للدولة ذات الأعمال الموجّهة في غالبها والرديئة من ناحية المضمون والتنفيذ، وأن نودع للأبد رائحة وملمس الأوراق، وننتظر ربما أن يمنّ علينا الكاتب بالسماح بتوفير نسخة إلكترونية لكتابه بعد سنوات من النشر أو لا.
أي أنك إذا رفضت استخدام الكتب المنسوخة فلن تجد غير أعمال موظفي وزارة الثقافة متدنية السعر والمحتوى، أو حتى أعمالاً مدعومة شرط أن تكون لكتاب "غير المغضوب عليهم ولا الضالين" من وجهة نظر الوزارة، وإذا هجرت الأفلام والمسلسلات المقَرصنة فلتستعد لفرك عينيك من أعمال البلطجة وتعدّد الزيجات والوطنية المبالغ في تسفيهها غالباً، والصوت والرأي الواحد دائماً.
إذا رفضت استخدام الكتب المنسوخة فلن تجد غير أعمال موظفي وزارة الثقافة متدنية السعر والمحتوى، وإذا هجرت الأفلام والمسلسلات المقَرصنة فلتستعد لفرك عينيك من أعمال البلطجة وتعدّد الزيجات والوطنية المبالغ في تسفيهها غالباً، والصوت والرأي الواحد دائماً
وإذا افترضنا حسن النية والمقصد لدى هؤلاء الذين يجب أن ينشغلوا بتحسين مستويات الوعي والثقافة في الشارع المحلي، فربما يُفيد توجيه رسالة إليهم بدعم الكتاب وصُنّاع الأعمال الفنية ودور العرض السينمائي والمسرحي، بتلك الأموال التي تُصرف من أجل أعمال أبعد ما تكون عن أي معايير للثقافة والوعي والفن، ولا تهدف إلا إلى الإلهاء الواضح وتوجيه رسائل الحكومات المباشرة، بدلاً من الظفر بشحذ حاسة النقد داخل المتلقي قارئاً كان أو مشاهداً.
إلى المسروقين... عذراً ولكن شكراً
أعرف جيداً أن كل ذلك الحديث يعني بالنسبة للكتاب الذين أصبحت كتاباتهم متوفرة بالنسخ الذي لا يدرّ عليهم أي عوائد، وصُنّاع الأعمال الذين يتخبّطون سلفاً بسبب الأجور العالية وتكاليف التصوير، أنهم الضحايا الوحيدون في تلك المعضلة، لكن ما الكتابة بدون قراءة وما الفن بدون جمهور؟
ربما لا ترون أن تلك هي النتيجة الوحيدة التي تنتظركم في حال توقف القراء والمشاهدين عن سرقتكم بشكل كامل، لكنها نتيجة منطقية للغاية ومنتظرة أيضاً، بعد الحملات القوية التي شنتها الحكومة في الأشهر القليلة السابقة ضد مُلّاك مواقع القرصنة تحديداً.
هل نمتلك حلولاً تُرضي الجميع؟ هل الاستغناء عن دور النشر الكبيرة التي تطرح الكتاب بأسعار غير معقولة والاتجاه إلى المطابع الأقل جودة، لتوفير الكتب بالأسعار التي تناسب المستوى المادي للقارئ، يُعد حلاً مقبولاً بالنسبة لكم؟
لا أعرف، لكني أعرف أنكم ربما كنتم تحتاجون إلى قراءة وجهة نظر السارقين أنفسهم لتعرفوا أن السرقة هنا هي مقاومة للجهل عموماً ومظاهر للحب تستهدفكم شخصياً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...