أصابني ملل ‑ الملل كلمة منعّمة‑ هائل من نقاشاتٍ مجترّة تتعلق بالحريات الشخصية. أكتب هذا النّصّ على سبيل قصم ظهر يأسي، كضربٍ من التّهكّم في وجه الرّتابة الفكريّة. كما نقول في الشام "طلع شعر علساني" والآراء العنصرية التي تتردّد من حولي هي هي، والأخبار عن التضييق على الأقليات (وكل من سعى لرفع الظّلم عنها) لا تهدأ ولا تترك لنا مجالاً لأخذ نفس.
أصدّق أننا كبشرٍ نسعى دوماً إلى تأكيد معارفنا وقناعاتنا السّالفة من خلال إيجاد أدلة وحجج تعيد إثباتها. إنه ما يطلق عليه بالتحيّز المعرفيّ. لكنني لا أنسى أيضاً أننا كائنات قابلة للتّطور والتكيّف، لا نطلّ على الدّنيا كقطع غيارٍ مسبقة التصميم لكي نناسب قوالب معينة، ثم نبقى على شاكلتها ملازمين لها مدى العمر. إنّ هذا أمر بديهيّ لا يعمى عنه أحد ولا يستثنى منه، والتّحول لا يقتصر على مجالٍ في الحياة دون غيره، إذ إنّ التطور والتقدم في أحد العلوم والمعارف يفتح المجال بالضّرورة أمام معارف أخرى لتنشأ وتكتمل، وإنْ لم يكن بالوتيرة نفسها.
على هذا المبدأ تطوّرت البشرية ومعها المعايير والقيم الإنسانية جنباً إلى جنب، حتى توصّلنا كمجتمعٍ إنسانيّ لسنّ نصوصٍ أشمل من أي نصّ دينيّ أو فلسفيّ أو قانونيّ، تناول حقوق الإنسان من قبل. أتكلّم هنا عمّا يسمّى بالميثاق العالمي لحقوق الإنسان، الذي لم يتشكّل ويصغ إلا بعدما تكبّدت البشرية خسائر مهولة، إثر حروبٍ اندلعتْ كانتْ فتيلتها أفكار عنصرية تميّز بين البشر على مختلف الأصعدة وتصنّفهم في درجات. حقوق الإنسان عنيتْ بالكرامة الإنسانية لكل البشر دون استثناء، بغضّ النظر عن اختلاف هوياتهم الدينية والقومية والفكرية والجنسية وخلفياتهم الثقافية.
نحن لا نختار أن نبحر وحيدين إلا كحلٍّ أخير ـ متى فقدت إيماني بأنّ لكلّ أحدٍ في الدنيا أحداً وأن الحب والتّسامح هما الكفّة الأرجح في عالمنا؟
أدري، أدري بالطبع أنّ حقوق الإنسان موجودة نظرياً وما زالت قابلةً ‑ بل بالأحرى بحاجة _ للتّنقيح والتوسيع، بالإضافة إلى أنّ تطبيقها محدود ومشروط بنوع السّيادة التي تحكم مكان عيش المرء، أي أنها إلى يومنا هذا لم تعمّم عملياً بعد. العملية صعبة ومعقدة، تعرقلها نصوص قانونية/دينية وقيم مجتمعية تمييزيّة راسخة، التي بدورها تشيطن وتدنّس وتخوّن كلّ ما هو مغاير ولا يتماشى مع المعيار السائد. الواقع يحتاج الكثير من الضّمير من أصحاب السّلطة، حتى يأتي يوم نستطيع فيه الاستشهاد بثقة أعلى والاستناد على ما اسمه حقوق الإنسان ولو بمقدار ذرّة.
"قد تقول بأنّني حالملكنّي لست الشخص الوحيدآمل بأن تنضمّ إلينا يوماً ماوأن يعيش العالم كـ واحدٍ"
نحن لا نختار أن نبحر وحيدين إلا كحلٍّ أخير ـ متى فقدت إيماني بأنّ لكلّ أحدٍ في الدنيا أحداً وأن الحب والتّسامح هما الكفّة الأرجح في عالمنا؟
أراجع ذاتي بالالتفات عدة سنوات إلى الوراء وأشهق لهذا التغيير العميق الذي مررت به، أأسف وأتألّم على اكتسابي نظرة أكثر واقعية وظلمة عن الوجود الإنساني، وأشعر بالامتنان لدوام تجدّد مخزوني من المرونة الفكرية، فهو ما حماني من الانكسار تحت وطأة الحقائق التي باغتني بها الزمن والوعي. إحدى النّعم التي دعمتْ هذه المرونة هي أناس لم تأبَ يوماً النقاش معي بسبب اختلاف رأي. انتماؤنا القوميّ أو العقائديّ المشترك لم يعن يوماً وجوب وقوع تغييرٍ متشابه، فأنا اليوم لا أتبنى كلّ أفكار أبي، وأبي لا يتشارك مع أخيه ولا أبناء منطقته من جيله في كل الآراء. ينطبق هذا على الأفكار والاهتمامات والميول وأسلوب الحياة الذي يتّبعه المرء، إلا أنّ القيمة الإنسانية التي ستظلّ دوماً تحول دون نشوء النزاعات هي التسامح، التسامح الناتج عن استمرارية الحوار.
بالرغم من مروري بتجارب – كالكثيرين ‑ تعرّضتْ أفكاري فيها للاستنكار، أو شعرت إثرها بالإقصاء، إلّا أني لم أبق يوماً لوحدي دون صديق. أتعاطف مع كلّ المجبرين على اتّخاذ طرقاتٍ وحيدة فزعاً من الأذيّة والألم، إذ كلّما عجز نظام متصلّب عن استيعاب الاختلاف قام إمّا برجمه أو لفظه بعيداً.
يصف كارل يونج في مؤلّفه "الكتاب الأحمر" إحاطتنا بالمتناقضات ليس فقط في الأوساط المادية حولنا وفي علاقاتنا مع محيطنا، وإنّما على مستوى الذات وعلاقتنا بأنفسنا، وكيف أننا من خلال مواجهة هذه النّقائض ومحاولة فهمها، نتجاوز سطوة الخوف منها ونتعلّم التعايش معها في توازنٍ من نوع جديد. أقتبس قوله: "إن حصلت يوماً على فرصة نادرة للحديث مع الشّيطان، فلا تنس مواجهته بكل جدّية. إنه شيطانك قبل كل شيء. الشيطان عبارة عن خصم، هو وجهة نظرك الأخرى. إنه يغويك ويضع الحصى في طريقك، حيث لا تريدها أبداً.
إنّ أخذ الشيطان بجدية لا يعني أن تقف إلى جانبه، فحينها تصبح شيطاناً أيضاً. إنّ هذا يعني أن تصل إلى تفاهمٍ معه وتقبل بالتالي، وجهة نظرك الأخرى. عندئذٍ سوف يختلّ توازن الشيطان، وتوازنك أنت أيضاً. وقد يكون هذا أمراً جيداً".
عندي تساؤلات سأدوّنها رغم وضوح الأجوبة عنها، مثلاً لماذا يصعب على البعض منّا الفصل بين معتقداته وبين المنطق في الحكم على الأشياء؟ لماذا ترفض جماعات بأكملها الإقرار بإمكانيّة صحّة وجهات نظرٍ لا تتوافق مع وجهة نظرها؟
بم تختلف أقلية دينية عن أقلية قومية عن أقلية فكرية عن أقلية جنسية؟ ولمَ تصحّ، بل وتتوجّب، المحاربة في سبيل كسب الحقوق المسلوبة من الأولى والثانية، لكن تجرّم الأخيرة؟
بم تختلف أقلية دينية عن أقلية قومية عن أقلية فكرية عن أقلية جنسية؟ ولمَ تصحّ، بل وتتوجّب، المحاربة في سبيل كسب الحقوق المسلوبة من الأولى والثانية، لكن تجرّم الأخيرة؟
أسئلتي أوجّهها خصيصاً لأجيالٍ عانت من ويلات الحروب وعرفت أنظمةً ديكتاتورية تعتاش من قمع الحريات. أسئلتي لأفرادٍ شهدوا على الثورات في وجه "كلّ" اضطهادٍ وتمييز.
في الألمانية عبارة أحبّها كثيراً رغم بساطتها، معناها "عش واترك غيرك يعيش". يعزّ عليّ تصوّر إكمال حياتي محيدة النظر عن وجود أيديولوجيات لا تسأم من فرض نفسها وتودي لقسوتها وتحجّرها بحيوات المئات والآلاف من الناس سنوياً، لأنهم لا يتفقون معها. أجل، العالم الذي نعيش فيه معقّد، والأنظمة السياسية والاجتماعية السائدة تحتاج قراءة مئات الصّفحات من التحليل والتّبسيط، حتى لربّما يقتنع بعضنا بأنّ "العمر مو مستاهل" كل هذه الأحقاد والحروب النفسية التي نشنّها على بعضنا البعض. ألم تكفنا الحروب المسلحة - بقيادة رقباء الأمم والأديان - التي راح ضحيتها ما لا يعدّ من الأبرياء، حتى نتنافس على دور الرّقيب الأخلاقيّ والاجتماعيّ فيما بيننا، ونتحارب بدورنا ونتجالد بسياطٍ ننسجها من جلودنا أنفسنا؟
من المحزن أنّ الخراب الواقع بالفعل لم يكفنا كجماعةٍ إنسانية حتى نعتبر، ونتفكّر في لا جدوى الجبهات التي نعلنها ضدّ غيرنا بسبب اختلافاتنا كأفراد. لم نقدر أن نعي بعد بأنّ اختلاف الآخر عنا لا يلغينا ولا يهدّد ذواتنا.
"قد تقول بأنّني حالم
لكنّي لست الشخص الوحيد
آمل بأن تنضمّ إلينا يوماً ما
وأن يعيش العالم كـ واحدٍ"
صوت لينون يتسلل إلى نفْسي وأكاد لا أصدق، فقد اعتقدت مطوّلاً بأنّي "بطّلتْ مصلحة الأمل" منذ سنواتٍ. يبدو لي أني ما زلت أحلم بعالمٍ يخلو من الحدود والأديان والأنظمة والعادات التي نستميت لأجلها ونقتتل مع ما ندعوه بأعدائنا بحجّة حمايتها، فإن لم يخل العالم منها، أحلم على الأقل بأن يكون يوم لا تلعب فيه دور العزول بين الناس.
على ذكر الأعداء، اقتراح اختياريّ منّي: في المرّة القادمة عندما تقابل العدوّ/الآخر، جرّب لحظةً فقط أن تنظر إليه بعينٍ محايدة، مسقطاً عنه سبب كرهك له أو ذعرك منه. أرجو لكلّ شخصٍ أن يقدر يوماً على التعامل مع الآخرين، آخذاً إنسانيتهم وفرديّتهم فقط بعين الاعتبار. هي مهمة صعبة، لكنها ليست مستحيلة. بتحقّق هذه الخطوة، آمل في بسْط ولو سنتيمترات قليلةٍ من التّسامح بين كل منّا، علّ التسامح يرافقنا نحو مستقبلٍ أرحم وأسلم مجتمعياً وإنسانياً لـنا.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...