شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
عمّ سيكتب السوريون بعد الحرب؟

عمّ سيكتب السوريون بعد الحرب؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي نحن وحرية التعبير

الجمعة 14 يوليو 202312:04 م

أتذكر المادة الصحفية الأولى التي نشرت لي، وأتذكر وقتها جيداً أني كنت أبحث عن طريقة كيلا أموت جوعاً. لم أكن أمتلك شيئاً إلا اللغة، فقرّرت أن أجرب بيع مأساتي. تحدّثت عن الحرب وكأنها تخصّنا وحدنا، وكأن أحداً آخر في هذا العالم لم يذق قسوة الظلم والقتل والموت والفراق واللجوء والنزوح والاعتقال غيرنا، نحن السوريين.

كانت المرة الأولى، وعلى الصعيد الشخصي، مختلفة، لكني بعد فترة وجدت نفسي أعيد صياغة ما كتبت بكلمات أخرى، وبلغة عاطفية أقرب إلى تقيّؤ المأساة التي كادت تخنقني بالكلمات، محاولة بشتى الطرق توثيق كل ما يحدث من حولي، وكأن على عاتقي تقع مسؤولية تسجيل كل الوقائع والأحداث وتحويلها إلى مقالات وقصص ونصوص وقصائد.

"الواقع نوع من الأدب الرديء"، كانت هذه الجملة التي قرأتها على صفحة الكاتب السوري محمد سامر إسماعيل، صفعة حقيقة وُجّهت لي. هل كل ما يحدث حولنا يستحق أن نحوّله لعمل أدبي؟ وبهذا، ما هو المعيار الذي سيميّز الأدب عن الثرثرة؟

شعرت وقتها أننا جميعاً نقول الشيء ذاته، لكن، بطرق مختلفة.

من السهل جداً على أي شخص متمكّن من اللغة أن يتناول الحرب ويصف أحداثها وتفاصيلها المشهدية، ولكن من الصعب جداً على أي أحد أن يتناول تداعيات تلك الحرب، وأن يتحدث عنها بشكل معاكس، أي من الداخل إلى الخارج

بالطبع لا أعني أبداً أن على الكاتب أن ينفصل عن بيئته، فهو في نهاية المطاف جزء من كل ما يجري حوله، والتأثيرات السياسية والاجتماعية والنفسية ستطاله لا محالة، لكن ماذا عنه ككاتب، ماذا عن نظرته لذاته ولما يكتب، ماذا عن استثمار الحرب والاستنساخ؟ ماذا عن إعادة تدوير الأفكار والأحداث؟

ما يزيد عن خمسين رواية كتبت في الحرب السورية. من المهم أن نتساءل هنا، كم رواية منهم تمكنت من النجاة من هيمنة المذاهب والطوائف والعشائر، وكم رواية منهم تمكّنت من تقديم نظرة شاملة وموضوعية عن الحرب، وكم رواية نجت من اللغة العاطفية الانفعالية أو حتى من السطحية، وكم رواية منهم ستكون يوماً ما مرجعاً كما "الحرب والسلم" لتولستوي أو "البؤساء" لفيكتور هيغو، أو "الساعة الخامسة والعشرون" لقسطنطين جورجيو.

أعتقد أن قسما كبيراً من الأدب الذي نتج خلال فترة الحرب السورية ليس إلا ردّات فعل، فماذا بعد أن يزول المسبّب، عن ماذا سنكتب؟

أحد أصدقائي، شاعر وكاتب لا يختلف اثنان على موهبته وإبداعه. ولكن إن اطلعت على نتاجه الأدبي خلال أعوام الحرب، لن تجد قصيدة ولا نصاً ولا حتى سطراً واحداً يتحدّث به عن الحرب. ولما سألته، أجابني بعبارة واحدة ولم يضف كلمة بعدها:" أنا أكتب لا أردح".

الخوف من الأمان

كان قابض الباص يجلس بجانب أغوتا كريستوف في الباص، يحدّثها بلغة فرنسية لم تكن تفهمها بشكل جيد وقتها، ولكن معالم وجهه كانت تظهر بوضوح ما يريد التعبير عنه: "أنت هنا بأمان لا تخافي". تذكر أغوتا في كتابها "الأمية" أنها لم تعرف وقتها كيف تشرح له، بلغتها الفرنسية الركيكة، ما كانت تخافه بالفعل، وأنّ ما تخافه في الواقع ذاته ما يطمئنه هو ويفترض أن يطمئنها ببساطة، لكنها كاتبة، وهذا ما جعلها تخاف من فكرة الأمان نفسها.

كانت حزينة لأن لا شيء الآن لتفكر به أو تفعله إلا العمل في المصنع وصنع الطعام وغسل الأواني والاعتناء بطفلها الرضيع، وإحداث الثقب نفسه كل يوم وبنفس الطريقة في الساعة أثناء عملها في مصنع الساعات.

 ممارسة هذه الحياة الرتيبة أكثر ما كانت تخشاه وتكرهه، وربما أكثر من الحرب نفسها، والحقيقة أن خوفها كان في مكانه بطريقة ما، فقد توقفت سنوات طويلة عن الكتابة، وماتت قبل أن تكمل مخطوطاً بقيت عاجزة فترة طويلة حتى عن مجرد العودة إليه، مكتفية بإعادة صياغة نصوص كتبتها سابقاً.

 أعتقد أننا بشكل أو بآخر اليوم، ككتاب سوريين، بدأنا نتحسّس مشاعر الخوف من مرحلة الأمان، بدأنا نخاف العودة إلى الحياة الرتيبة قبل الحرب، وهذا ما دفعني للتساؤل اليوم وأنا أقرأ رواية سأتحفّظ عن ذكر اسمها، وأرى بها أحداثاً تكاد تظهر في عقلي بصورة مطابقة لأحداث كل الروايات التي تناولت الحرب عبر العصور: ماذا بعد؟ إلام ستنتج عدوى القراءة كتّاباً؟ وهل يمكن للتلاعب بالكلمات واستخدام لغة وأساليب جديدة للحديث مرّة أخرى عن الحدث عينه لكن بشكل آخر، أن ينتج أدباً جيداً؟ وهل يكفي أن تكون المشاعر صادقة والرغبة حقيقية بالكتابة؟

فكما لا يمكننا أن نقول عن كل شخص يستطيع أن يشك إبرة طبيباً، لا يمكن أن نقول عن كل شخص يطبع كتاباً بأنه كاتب. فكما نرفض الأولى قطعاً علينا أن نرفض الثانية. فصدق الأول ورغبته بالمساعدة لن تغير من حقيقة إمكانياته. ما يجعل الضرر من مساهمته أكبر من النفع، وهذا بالضبط الضرر الذي نتحدث عنه والناتج عن استثمار الحرب كموضوع حاضر دائماً للكتابة بيد الجميع.

ما يزيد عن خمسين رواية كتبت في الحرب السورية. كم رواية منهم تمكّنت من النجاة من هيمنة المذاهب والطوائف والعشائر، وكم رواية منهم تمكّنت من تقديم نظرة شاملة وموضوعية عن الحرب، وكم رواية نجت من اللغة العاطفية الانفعالية أو حتى من السطحية

بيع المأساة

هل سيكون ما تؤول إليه البلاد من حالة استقرار أمني وتوقف للعمليات العسكرية بمثابة مؤشر حقيقي ودليل ملموس على مدى إبداع الكاتب وقدرته على الخلق والكتابة بعيداً عن محرض دائم وجاهز وأفكار مسبقة الصنع؟ هل سنشهد خلال السنوات القادمة، في حال بقي الوضع الأمني مستقراً في سورياً، انحساراً وتراجعاً لموجة الكتابة هذه التي لم تتوقف على مدى أعوام من إغراقنا بنتاج أدبي ومواد صحفية سيطرت عليها الحرب بشكل شبه تام، وهل ستختفي أسماء لمعت اليوم بفضل استخدامها سرديات الحرب والغربة لتصنع مجداً أدبياً ولتنال شهرةً؟

وهنا أجد من الضرورة أن أركز على نقطة مهمة جداً، وربما هو اختصار لكل ما قيل سابقاً: الأمر لا يتعلق بعلاقة الأدب بالحرب، والتأثير المتبادل بينهما، أو بوجود تيار أو أدب يسمى "أدب الحرب" أو "أدب السلم"، الأمر يتعلق دائماً بالنتاج الأدبي، فلو كان ما يحدث يُنتج أدباً جيداً، فما كان لكل تلك التساؤلات مكان.

وفي النهاية، ومن وجهة نظري كقارئة فإني أبحث اليوم عن الأصالة بالأفكار والأساليب بعيداً عن سرديات مازالت تتكرّر منذ أول جريمة وقعت على هذه الأرض، منذ أن قتل قابيل هابيل، وكل شيء عدا ذلك أستثنيه.

 لا أعرف في الحقيقة لماذا حضرني في هذه اللحظة بالذات مشهد وداع أم سالم لرشدي من مسلسل "التغريبة الفلسطينية"، لكني أعتقد أن الكتابة عن الحرب عليها أن تمرّ من هنا، من عوالمنا الداخلية، عليها أن تخترع لساناً لأم سالم وتدعها تتكلم.

من السهل جداً على أي شخص متمكّن من اللغة أن يتناول الحرب ويصف أحداثها وتفاصيلها المشهدية، ولكن من الصعب جداً على أي أحد أن يتناول تداعيات تلك الحرب، وأن يتحدث عنها بشكل معاكس، أي من الداخل إلى الخارج.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ذرّ الرماد في عيون الحقيقة

ليس نبأً جديداً أنّ معظم الأخبار التي تصلنا من كلّ حدبٍ وصوبٍ في عالمنا العربي، تشوبها نفحةٌ مُسيّسة، هدفها أن تعمينا عن الحقيقة المُجرّدة من المصالح. وهذا لأنّ مختلف وكالات الأنباء في منطقتنا، هي الذراع الأقوى في تضليلنا نحن الشعوب المنكوبة، ومصادرة إرادتنا وقرارنا في التغيير.

Website by WhiteBeard