تحكي القصّة الشهيرة، أن الرقابة السينمائية لم تجز فيلم "شيء من الخوف" الذي أُنتج عام 1969، لأنها رأت في بطل العمل "عتريس الديكتاتور"، إسقاط على رئيس الجمهورية حينها، جمال عبد الناصر، لكن الأخير شاهد الفيلم وأجازه قائلاً: "لو أنا بالبشاعة ديه، فالناس ليها حق تكرهني"، وهو موقف اعتبره مؤيدون دليل سعة أفق الرجل وتقديره للفن، وعدّه معارضون دلالة على إنه كان مُغيّب لدرجة لم يرى نفسه ديكتاتوراً، وبين الرأيين كان الأهم بالنسبة لي، أنه حتى في أشد عصور التضييق كان هناك أفلام قادرة على مناقشة أوجاع المصريين من ظلم وفقر مفروض عليهم.
فنانو الصف الأول
تذكرت ذلك وأنا أتابع أفلام عيد الأضحى التي قادها فنّانون من "الصف الأول"، مثل كريم عبد العزيز وأحمد فهمي وأمير كرارة وتامر حسني، وهي أفلام إما كوميدية أو أكشن، ومن تطرّق منهم للدراما، مثل "بيت الروبي"، اكتفى بالتركيز على أثر السوشال ميديا على حياتنا، دون ذلك، لم يتحدّث عمل عن أي قضية حقيقية يعيشها المصريون، وهذا أشبه بنهج السنوات السبع الماضية على حد متابعتي، فباستثناء أفلام اشتبكت مع أفكار التيار الديني، مثل "الضيف" عام 2019، أو مجّدت بطولات القوات المسلحة مثل "الممر" في نفس العام، خلت السينما المصرية من أي عمل نستطيع وصفه بالسياسي، أو حتى عمل يرصد معاناة المصريين اليومية.
ورغم أننا شهدنا تعويماً للجنيه أفقدنا 100% من مدخراتنا، ونعيش في تضخّم وفقر مستمرين، وهناك مدافن شهيرة تُزال، وعقارات تُمحى تحت شعار التطوير، رغم ذلك كلّه، لم يناقش عمل فني واحد تلك القضايا، لم نر على الشاشة معاناة شاب وجد نفسه فجأة مُطالباً بأن يترك منزله لفتح طريق عام، أو مأساة ابن أخبروه بإزالة مقبرة أبيه في الغد، وبالتأكيد لم يناقش عمل حيرة شباب ثاروا منذ 12 عاماً طمعاً في الحرية والعدالة الاجتماعية، فوجدوا أنفسهم غير قادرين على الحياة نفسها.
تحكي القصّة الشهيرة، أن الرقابة السينمائية لم تجز فيلم "شيء من الخوف"، لأنها رأت في بطل العمل "عتريس الديكتاتور"، إسقاط على جمال عبد الناصر، لكن الأخير شاهد الفيلم وأجازه قائلاً: "لو أنا بالبشاعة ديه، فالناس ليها حق تكرهني"
ربما يظن القارئ، أن هذا ليس دور الفن بالضرورة، لكن السينما المصرية منذ بدايتها كانت حاضرة بتلك النوعية من الأفلام بجوار الأنواع الأخرى، وكان نقل أوجاع المصريين من خلال الأفلام مهمتها، وقد أدّتها بنجاح إلى حين، لذلك تمتّعت بإقبال كبير من الذين شاهدوا فيها حقيقة ما يعيشونه، وهذا ما جعلها قوة ناعمة لا يُستهان بها، بل وأحياناً كان الفنّ وحده قادراً على التغيير، أو الحلم بحدوثه، على أقل تقدير.
السينما قبل 2013
فبالعودة إلى عصر الملكية المصرية الذي غلبت عليه الأفلام الكوميدية، أو التي تقنع الناس بنعمة الفقر، نجد أفلاماً مثل "العامل" عام 1943، والذي ناقش أحقيّة العمّال في مصانعهم، بعيداً عن شروط أصحاب الأموال المجحفة، بل ووجدنا فيلم "من فات قديمه تاه" في نفس العام، والذي تناول، بإسقاط مباشر، مصطفى النحاس وقت توليه رئاسة الوزارة، وكيف سيطر عليه الفساد وتدخّل زوجته في شؤون الحكم..
ورغم أن الحقبة الناصرية بعد 1952، شهدت أول تأميم للفن من خلال إنتاجه بواسطة مؤسسات حكومية فقط، لكن هذا لم يمنع أن تكون هناك أعمال ترصد معاناة المصريين وفساد السلطة، مثل "ميرامار" عام 1969، و"شيء من الخوف" الذي ذكرته، وإن كان ظهور تلك الأعمال بعد 1967 ليس وليد الصدفة، بل نتيجة ضعف السلطة إثر نكسة يونيو.
ومنذ السبعينيات وحتى ثورة يناير، استمرت السينما في دورها، رغم اصطدام تلك النوعية من الأفلام بالرقابة وتعرّضها لحذف بعض المشاهد أو حتى عدم العرض، لكن في النهاية وجدنا أعمالاً مثل "المذنبون" في حقبة السبعينيات، و"البريء" و"سواق الأتوبيس" في الثمانينيات، و"طيور الظلام" في التسعينيات، ثم "عمارة يعقوبيان" و"هي فوضى" قبل 2011، وتلك مجرّد أمثلة لأفلام كانت حاضرة بقوة بجوار أفلام كوميدية واجتماعية وأكشن، وكان نجوم "الصف الأول" هم أبطال تلك الأفلام التي حافظت على السينما كمرآة حقيقية للمواطنين، فظلّوا يقبلون عليها، متمسّكين بقوتهم الناعمة.
مدافن شهيرة تُزال، وعقارات تُمحى تحت شعار التطوير، رغم ذلك كلّه، لم يناقش عمل فني واحد تلك القضايا، لم نر على الشاشة معاناة شاب وجد نفسه فجأة مُطالباً بأن يترك منزله لفتح طريق عام، أو مأساة ابن أخبروه بإزالة مقبرة أبيه في الغد
تأميم المتحدة
كل ذلك اختفى مع تأسيس شركة المتحدة للخدمات الإعلامية عام 2016، لتصبح ذراع الدولة السينمائي والإعلامي، فمن ناحية هي مسؤولة عن إنتاج أعمال فنية، ومن ناحية أخرى تملك معظم القنوات، وبالتالي لا تشتري إلا ما ترضى عنه، وهذا كافِ جداً لأن يهرول إليها كل الفنانين بفروض الولاء، ولأن تقديم أعمال تمجيدية في هذا العصر سيتمّ تصنيفه "كوميدي"، كانت الطريقة المثلى عند "المتحدة" تتلخّص في محورين، أولهما إثبات أن المصريين لا يعانون من أي أزمة ولو فنياً، والثاني، ظهور كافة مؤسسات الدولة، وعلى رأسها النظامية، بصورة أقرب للملائكية، لتصبح الأفلام التي تناولت ظلم الضبّاط، مثل "زوجة رجل مهم" و"التخشيبة"، ماضياً غير قابل للتكرار، وقد يصدر قرار بمنع بثّهم.
تلك الثنائية أفقدتنا أهم عناصر السينما، وأقصد المواطن العادي الذي اعتمد عليه وحيد حامد في "الإرهاب والكباب"، ليقدّم نظرة الشخص البسيط الذي يطالب بحقوقه، لكن المواطن الآن، بحسب "المتحدة"، إما لا يعاني من أي مشكلات، أو متآمر لا نستحق أن نراه، ولذلك لم يكن غريباً أن تفقد السينما قوتها الحقيقية بعدم الإقبال عليها، كما تشير الإيرادات التي بلغت في أول 3 ليال من موسم عيد الأضحى 2022 نحو 31 مليون جنيه فقط، وتحقّق أول 3 ليال من موسم عيد الأضحى 2023 نحو 36 مليون جنيه فقط، رغم زيادة أسعار التذاكر.
وأخيراً، هذا التأميم الشرس خطورته فقط علينا لأننا كمعاصرين فقدنا حق رؤية أوجاعنا على الشاشة ولو لمجرد التنفيس، وحرمنا من قوّتنا الناعمة، أما في المستقبل فستعود السينما لدورها، لإنه برغم كل ما فعله جمال عبد الناصر من تأميم للفن، بمجرد أن توفى ظهر فيلم "الكرنك" ليكشف المسكوت عنه، وإن شابه بعض المبالغة، ومن الآن علينا انتظار أول عمل يكشف المسكوت عنه فيما نحياه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ أسبوعمقال رائع فعلا وواقعي