شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
لم يمنعهم حجابي من التحرّش بي

لم يمنعهم حجابي من التحرّش بي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والنساء

الأحد 16 يوليو 202311:43 ص

لم يمنعهم حجابي من التحرّش بي

استمع-ـي إلى المقال هنا

"إيمتى هاتلبّسي بنتك الحجاب؟". سؤال صادم قذفته إحداهن في وجهي ذات ظهيرة، بينما أنتظر طفلتي في النادي لتنهي تمرين الكاراتيه.

طفلتي لم تبلغ سن ارتداء الحجاب بعد، فلماذا تشغل تلك السيدة بالها بفكرة لم تشغل بالي في الأساس؟ أحب أن ترتدي ابنتي الحجاب، لكني أحب أكثر أن ترتديه بحب، ليس فقط انصياعاً لأمر أو استجابة لنصيحة.

رغم امتناعي عن الردّ ومحاولتي تجاهل السؤال لإيصال رسالة غير مباشرة لها بعدم التدخّل في أمور خاصّة؛ لم تنتظر مني إجابة وواصلت حديثها بحماس، كما لو أنها قد أخذت على عاتقها هدايتي من المعاصي التي اقترفتُها يومياً لتفوز هي بالجنة. صبّت في أذني عبارات إنشائية محفوظة ومكرّرة عن فضل الحجاب وأهميته في عفّة الفتاة المسلمة والشاب المسلم على حد سواء، فإخفاء البنت لمفاتنها يعفّ الرجال، ويحفظها لرجل واحد يفوز بها بالحلال.

استرسلت في كلامها وشجّعها صمتي، لكنها لم تدرك أنني بعد دقيقة واحدة بنيت بين أذني وعبارتها المحفوظة سدّاً، وشردت لأتذكر أنني قد ارتديت حجابي في سن الثانية عشرة، وعلى الرغم من ذلك لم تحفظني قطعة القماش من أيدي المتحرّشين ولا بنت بيني وبين عيون المتطفلين جداراً. على الرغم من كوني مصرية أعيش في بلد الأزهر الشريف، الذي علّم العالم الإسلام وأصوله. يحاوطني الشعب المتديّن بطبعه في كل مكان؛ لكنني عانيت، كغيري من نساء هذا البلد على اختلاف هيئاتهن وأعمارهن، من التحرّش والتطفّل والتحكّم والتدخّل فيما أرتدي وما أفعل وما أقول.

حجابي وثيابي الفضفاضة لم تمنع أحدهم من الالتصاق بي في وسيلة مواصلات عامة، متعلّلاً بشدة الزحام. لم تمنع يد أحدهم من التسلّل لمؤخرتي فجأة بينما أقف في طابور العيش أنتظر دوري لأفوز ببعض أرغفة

لا يدرك الآخرون أن ذاكرة الأنثى في مصر تحتفظ رغماً عنها بكل فعل تحرّش تعرّضت له. فالألم الذي يتركه هذا الفعل القبيح في نفسها؛ لا يمحيه زمن ولا تهزمه أيام، والغريب أن الأمر لا يقتصر على عمر أو ثقافة او مستوى اجتماعي، فالفيروس قد أصاب أغلب الرجال في بلدي، إلا من رحم ربي.

تواصل جارتي في المقعد نصائحها المعلبة عن ضرورة ارتداء ابنتي الحجاب في أسرع وقت، بينما أتذكّر طفلة صغيرة كُنتها ذات يوم. عندما أتممت العاشرة من عمري وبدأ جسدي يتشكل، فرحت كثيراً بضفائري التي تطول مع الأيام، وبروز صدري الذي بدأ يكبر رغم أنه كان يشعرني كثيراً بالخجل. مرّة، وبينما أقطع شوارع القرية جرياً، وتزلزل ضحكتي الأرجاء؛ تلتقطني يد عجوز قرّر فجأة أن يحكم ذراعيه حولي ليلجم حركتي في وضح النهار، ويتحسّس صدري البارز، ويقبض عليه بقسوة وهو يردّد ضاحكاً: "وريني كده خراط البنات خرطك ولا لسه"، فأغضب وأشعر بالاشمئزاز والخوف، وأحاول التخلّص من ذراعيه بدفعه بعيداً عني، لكن جسده كان أقوى من ضعفي.

يعبر المارة من أهل القرية حولي، يضحكون للمشهد الذي لم يكن ساخراً بالمرة. ضحكات لم يفهم عقلي الصغير سبباً لها، زاد معها خوفي؛ فأبدأ في ضربه لإبعاده، فيتركني دون أن يتخلّى عن ضحكاته السمجة هو والمحيطون.

لم تحمني طفولتي وبراءتي من تحرّش عجوز هائج على قارعة الطريق في وضح النهار. لم ينتبه أحد لألمي، بل نصحوا أمي بأن تلبسني الحجاب كيلا يثير صدري عجوزاً مسكين آخر، لكنها لم تفعل إلا حين أتى أمر ربي.

ارتديت الحجاب أولاً انصياعاً لأمر ديني، وثانياً خضوعاً لتقاليد اجتماعية توارثها أهل قريتي، لكنني مع الوقت أحببته وارتبطت به، ليس لأنه يحجب العيون عني، كما تقول جارتي في المقعد بحديقة النادي الرياضي، والتي راحت تواصل درسها الديني كما لو أنها تقف على منبر مسجد تخطب في العامة.

لكنني وقعت في غرام حجابي بلا سبب، فالحب المرتبط بسبب يزول بزوال السبب، كما قال أحدهم، لذلك لم أتعب نفسي في البحث عن أسباب. يكفي اقتناعي بأنه أمر ربي، وهذا وحده يكفيني.

في الجامعة، وبابتعادي عن قريتي ضيقة الفكر والمساحة؛ تصوّرت أنني سوف أتعامل مع بشر مختلفين، يقدّرون المرأة ويحترمون حريتها، محجّبة كانت أو لا. بشر يؤمنون بأن المرأة كائن حر مستقل بذاته، كامل الأهلية، قادر أن يقرّر القبول أو الرفض، القرب أو البعد، إعلان الحب أو الحرب. لكن للأسف لم أجد ما تصورته، فالغالبية ينظرون للمرأة على أنها جسد وملامح، لا عقل ولا روح.

فحجابي وثيابي الفضفاضة لم تمنع أحدهم من الالتصاق بي في وسيلة مواصلات عامة، متعلّلاً بشدة الزحام. لم تمنع يد أحدهم من التسلّل لمؤخرتي فجأة بينما أقف في طابور العيش أنتظر دوري لأفوز ببعض أرغفة. لم تمنع آخر من التربّص بي في طرقات مترو الأنفاق ذات صباح وفي وضح النهار، ليريني فجأة عضوه دون سابق إنذار، لأموت رعباً في لحظة أكرهها، لكنني لم استطع حتى الآن أن أمحيها من ذاكرتي.

أتذكر فجأة المذيع الشهير الذي حاورته يوماً بكل جدية عن قضايا مهمة، ليفاجئني أنه سيضع بين يدي مستندات ستفجّر قضية كبرى مكافأة لي على حواري المميز معه، لكن في شقته في إحدى المدن الجديدة

لم تمنع القراءة والثقافة والاطلاع والالتزام زميلي في الجامعة من محاولة إقناعي بالزواج العرفي لأنه يريدني، ولكنه غير مؤهل للزواج الرسمي. أردت حينها أن ألقنه درساً قاسياً وأن أضربه ضرباً مبرحاً عقاباً له على نظرته المهينة لي، والتي غلّفها بالحب الكاذب، لكني لم أفعل، واكتفيت بإنزال الستار على قصة حب تصوّرت أنها سوف تعيش أبداً، لأعلّق بعدها على قلبي لافتة "ممنوع الاقتراب" لسنوات طويلة خوفاً من إهانة جديدة.

لم يحمني حجابي والتزامي في التعاملات اليومية التي كانت سبباً لسخرية الكثير من الزملاء، حتي وصفني أحدهم ذات يوم بأنني "زي القطر ما بتقفش لحد وبتاخد في وشها اللي يقرب منها".

أنهت طفلتي تمرينها وقبضت على يدها وتركت المكان دون الالتفات لجارتي في المقعد، وأنا أجزم أن ملامحها التي حجبها عني نقابها قد اعترتها الدهشة بسبب صمتي الطويل. تركتها وأنا أواصل -رغماً عني- كرّ شريط حياتي في وطن قاس على نسائه.

أتذكر فجأة المذيع الشهير الذي حاورته يوماً بكل جدية عن قضايا إعلامية قومية مهمة، وهو يتصل بي بعدها ليشكرني ويشيد بأسلوبي، فأشكره على مجاملته بأدب وخجل. ليفاجئني أنه سيضع بين يدي مستندات ستفجّر قضية كبرى مكافأة لي على حواري المميز معه، والذي حقّق صدى واسعاً، فأتهلل فرحاً وأساله بسذاجة عن الموعد المناسب لألتقيه في مقرّ عمله لأحصل على المستندات، فيبادرني أنه يريد مقابلتي بشقته في إحدى المدن الجديدة حتى يضمن سرية الموقف. حينها تمنيت أن أصفعه على وجه صفعةً تليق بقذارته، لكنني أنهيت المكالمة فجأة من صدمتي، وقد توالت الأسئلة على ذهني: ما الذي بدر مني ليفكر بي هكذا؟ وهل أنا السبب؟ لماذا لا يكون هو حقير بطبعه رغم مظهره الخارجي المحترم؟ لماذا أضع نفسي في محل تقصير أو اتهام بينما أنا الضحية؟!

هل هو العقل الجمعي الذي نصح أمي بأن تجعلني أرتدي الحجاب مبكراً حتى تحميني من همجية أحدهم؟ هل أصبحت، دون أدرك، أحمّل نفسي الخطأ كما حمّلوني من قبل؟ هل أوجه اللوم لذاتي هكذا بسهولة لأنهم فعلوا ذلك معي في السابق دون أن يكلفوا خاطرهم حتى بتوبيخ العجوز المتحرّش؟

أدركت حينها لماذا اخترت لها دون وعي مني رياضة الكاراتيه لتتعلمها قبل أن أحدثها عن الحجاب وفضيلته. أنا لست المخطئة ولست المقصرة. هم من يخبئون بداخلهم نفوساً مريضة وعقولاً خاوية.

فابنتي لن تكون مسؤولة يوماً عن جرائم أحدهم. لن تدفع ثمناً من حريتها وأمنها لأن أحدهم يخشى على نفسه من الفتنة. سوف ترتدي الحجاب في الوقت الذي يختاره الله لها، ولن ترتديه إلا إذا أحبته وارتبطت به، لن ترتديه لتختبئ خلفه من أعين نهمة سوف تنهشها حتى لو ارتدت خيمة.

لذلك علّمت ابنتي الدفاع عن نفسها منذ نعومة أظافرها، أردت أن أحميها من ألم العجز الذي شعرت به عشرات المرات أمام كل متحرّش قرّر فجأة أن يعترض طريقي أو يلمس جسدي رغماً عني. قرّرت ألا تتذوق مرارة الضعف ووجع الحيرة والانجراف في دوامة أسئلة لا تنتهي. قرّرت ألا تصبح ابنتي ضحية لشهوات غيرها، وألا تدفع ثمناً لضعف غيرها، وألا تقبل تعدّي أحد على جسدها، وإن فعل في غفلة منه، لقنته درساً قاسياً لا ينساه أبداً.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ثورتنا على الموروث القديم

الإعلام التقليديّ محكومٌ بالعادات الرثّة والأعراف الاجتماعيّة القامعة للحريّات، لكنّ اطمئنّ/ ي، فنحن في رصيف22 نقف مع كلّ إنسانٍ حتى يتمتع بحقوقه كاملةً.

Website by WhiteBeard
Popup Image