شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
عن معهد سينما في بلاد لا ينتج سينما بل ركام

عن معهد سينما في بلاد لا ينتج سينما بل ركام

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الخميس 6 يناير 202212:30 م

وأخيراً بعد عقود من الدراسة والتفكير واللجان المنبثقة عن آلاف اللجان، وبعد أطنان من الحبر المسال على صفحات الجرائد والمجلات، وملايين الكلمات التي انطلقت في الفضاء للحديث عن أهمية وجود جهة أكاديمية لعلوم السينما في أقدم عواصم الدنيا، دمشق، صدر القرار وافتُتح المعهد، بل وأُعلن عن قبول الدفعة الأولى المكونة من ثلاثين طالباً خلال العام الحالي 2021.

دخول متأخر إلى السينما

كان من المفترض أن أكتب هذا المقال منذ عام 2019، عندما بدأ الحديث عن اقتراب افتتاح المعهد، لكنني تريثت لعلمي أن أحاديث النظام السوري حول مشاريعه لا تنتهي، والكلام هو أرخص ما في سوريا اليوم بعد الإنسان، لكنني أعترف أمامكم يا أصدقائي أنني ذهلت عندما أصدر الأسد القانون رقم 6، بعد أن مُرّر إليه من البرلمان في أعقاب "التعديلات من اللجان العلمية".

وهذا لعمري ضرب من الجنون! أي لجنة علمية سينمائية في سوريا تلك التي ستقترح تعديلات علمية خاصة بمعهد للسينما في بلد لا ينتج السينما؟ المهم، افتُتح المعهد ونُشرت أسماء المقبولين، علماً أن المعهد يتكون من قسمين فقط، "الإخراج السينمائي" و"السيناريو والنقد السينمائي".

بعد أطنان من الحبر المسال على صفحات الجرائد والمجلات، وملايين الكلمات التي انطلقت في الفضاء للحديث عن أهمية وجود جهة أكاديمية لعلوم السينما في أقدم عواصم الدنيا، دمشق، صدر القرار وافتُتح المعهد وأُعلن عن قبول الدفعة الأولى المكونة من ثلاثين طالباً خلال العام الحالي 2021

المشكلة ليست في افتتاح معهد للسينما في بلد لا ينتج سينما، بل لا يملك صالات سينمائية على مستوى إنساني على الأقل. لنأخذ العاصمة دمشق التي يسكنها ما يفوق الثلاثة ملايين نسمة، كم صالة سينما جيدة فيها؟ ربما واحدة أو اثنتين أو حتى خمسة، الحال نفسه في حلب وحمص وحماة ودرعا والسويداء، علماً أن هذا الواقع موجود قبل عام 2011 أصلاً.

المهم افتتح المعهد في بلد لا يملك صالات ولا ينتج سينما، الإنتاج محصور بالمؤسسة العامة للسينما والتي بدورها تنتج بين العملين وحتى عشرة أعمال سينمائية كحد أقصى، ومن يخرج هذه الأفلام أسماء محددة (الحديث هنا تحديداً عن الأفلام الروائية الطويلة لكيلا يظن القارئ أن غرضي تثبيط الهمم لا سمح الله) والأسماء نفسها تتكرر وكأنها تعاقدت بشكل حصري مع المؤسسة.

إذاً نحن أمام حدث هام وهو افتتاح معهد للفنون السينمائية في بلد لا ينتج سينما، ولا يملك صالات سينمائية إنسانية (دعونا نعتمد مصطلح إنساني لأن فكرة الجودة مستحيلة في سوريا هذه الأيام) ولا يوجد لديه إنتاج سينمائي حقيقي ولا طبقة متوسطة لتذهب إلى دور السينما (وفق أرقام الأمم المتحدة، حوالي 90% من السوريين في سوريا يعيشون تحت خط الفقر)، ولا يملك الحد الأدنى من الحرية، لا السياسية ولا الدينية ولا المجتمعية التي تحتاجها السينما للحياة، ولا قدرة اقتصادية على الدخول في دورة إنتاج تسهم في الاقتصاد المحلي.

المشكلة ليست في افتتاح معهد للسينما في بلد لا ينتج سينما، بل المشكلة في افتتاحه في بلد لا يملك صالات سينمائية على مستوى إنساني على الأقل

أعلم أن عشرات البلاد على سطح هذا الكوكب الحزين لا تملك شعوبها حريتها لكن أنظمتها لم ترمِ بعد البراميل على سكان المدن، وهذا لا يجعلها أفضل من النظام السوري بطبيعة الحال.

تاريخ مجيد لكنه قصير

لمن لا يعلم، كان لسوريا نصيب في المعهد العالي للسينما في مصر، والذي افتتح في عام 1960، إبان الوحدة بين سوريا ومصر (بين عامي 1958 و1960)، لشهور قليلة كان يمكن للسوريين أن يدرسوا السينما بشكل أكاديمي في بلدهم قبل أن يختفي هذا الحلم لعقود طويلة.

هل يمكن إجراء مقارنة بين المعهدين اليوم في سوريا ومصر؟ المقارنة خاسرة حكماً وليست في صالح معهد دمشق، فالأول افتتح في ذروة الإنتاج السينمائي في القاهرة، ومع وجود مئات الخبرات من الفنانين، سواء كانوا ممثلين أم مخرجين أم مديري تصوير أو مهندسي الصوت، أي أن عاملين مهمين اجتمعا معاً (كم الإنتاج والمسؤولين عن الإنتاج).

وأنتج خريجو المعهد وفنانوه أفلاماً تحدت الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في الستينيات، أفلام رفضتها الرقابة بدعوى أنها تهاجم هرم السلطة الذي أجازها بعد مشاهدتها، وأتحدث هنا عن مرحلة من أقسى مراحل القمع في تاريخ مصر الحديث. تخيل أن يجرؤ أحد طلاب المعهد المساكين غداً فيلما يُشك بعدم تقديسه للأسد، رحلة إلى ما وراء الشمس بكل حب ستنتظره!

ربما ينجح المعهد بتخريج طلاب على سوية علمية سينمائية عالية تساهم في نشوء صناعة سينما حقيقية في سوريا، ولكن هل يمكن أن نصدق أن أي جهة علمية في سوريا، وبغض النظر عن الجهة المسيطرة على الأرض، قادرة في ظل الظروف الحياتية الحالية أن تكون على مستوى عال؟ لا نظن

ثم ومع مرحلة التي سميت بمرحلة "الانفتاح" أيام الرئيس الراحل أنور السادات، حملت السينما المصرية أفلاماً هامة وامتلكت جزءاً من حريتها وتحدثت عن الفساد والقمع وكبت الحريات، وصنف بعض هذه الأفلام ضمن أفضل 100 فيلم عربي وفق قائمة مهرجان دبي 2003.

يطول الحديث عن المعهد العالي للسينما في مصر، الذي تشرّفت بالدراسة فيه، أنا وغيري من الطلبة السوريين هناك في مختلف الأقسام، ولا أقول إن المعهد في القاهرة مثالي، بل في تلك الأيام كان الحديث عن مشاكله يدور علناً بين الطلاب والقائمين عليه، ويكفي أن فيلماً لم يُمنع لأي طالب من طلابه لأسباب سياسية أو اجتماعية، بل ساعد دائماً في إنتاجها، وخاصةً مشاريع السنة الرابعة (سنة التخرج)، والحديث هنا حتى نهاية عام 2013، إذ لا أعرف عن المعهد اليوم ومشاريع تخرجه سوى بعض الصور التي ينشرها الأصدقاء أو الأخبار الواردة عن افتتاح المبنى الجديد.

طبعاً لم أتحدث عن مستوى الكادر التدريسي الذي كانت بعض أسمائه علامات في السينما العربية، كالأستاذ الراحل سمير سيف والأستاذ الراحل محمد لطفي والدكتورة منى الصبان، صاحبة مشروع المدرسة العربية للسينما، والدكتور علي بدرخان أطال الله في عمره وغيرهم الكثيرون.

المحصلة ربما ينجح المعهد بتخريج طلاب على سوية علمية سينمائية عالية تساهم في نشوء صناعة سينما حقيقية في سوريا، هناك أحلام تنتظر هؤلاء الشباب لتحقيقها، ولكن هل يمكن أن نصدق أن أي جهة علمية في سوريا، وبغض النظر عن الجهة المسيطرة على الأرض، قادرة في ظل الظروف الحياتية الحالية أن تكون على مستوى عال؟ لا أظن، وأكاد أجزم أن أي نجاح سيحققه هؤلاء الشباب سيكون بجهودهم الشخصية البحتة.

لا تتفاءلوا بالغد، فمصدر التفاؤل جربناه على مدى عقود، عقود لم تكن سوى للخيبة والخذلان والألم ونتيجتها ما نراه اليوم وسنراه غداً.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image