شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
مستر بين في غزة... عن العرض الأخير في سينما النصر

مستر بين في غزة... عن العرض الأخير في سينما النصر

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الأربعاء 28 سبتمبر 202204:00 م

لم تعد السينما جزءاً من الحياة اليومية لسكّان قطاع غزّة منذ أواخر ثمانينيات القرن الماضي، إذ تعطّلت جميع دور السينما في القطاع بعد انتفاضة عام 1987، لأسباب عديدة، أهمّها نموّ تيار ديني مناهض للحب والسينما التي رأى أنها تعرض ما لا يجب أن يعرض، لتنزل غزّة أكثر من 43 خطوة/عاماً عن سلّم الفن، مغلقةً أبواب عشر دور سينما ازدهرت في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي. لتتحوّل هذه الدّور لصالات أفراح وبيوت سكنية ومراكز دينية، بالإضافة إلى تحوّل عدد منها لسينمات صغيرة للحشرات التي باتت تعرض أفلاماً عن أناس كانوا هنا ثمّ تحولوا لفقاقيع سوداء على الجدران.

ولعلّ واجهة سينما النّصر وسط غزّة التي لم يزل يعتليها اللون الأسود، تعتبر دليلاً على ما حدث من تحولات ثقافية واجتماعية خطيرة في المجتمع الفلسطيني، وتحديداً الغزّي منذ ثمانينيات القرن الماضي. حتى أنّ المياه التي رأيتها مراراً تتساقط من الملابس المنشورة على أحبال الغسيل في جهة المبنى الشرقية، ربما هي آخر دمعة نزلت من حبيبة على حبيبها في العرض الأخير لسينما النّصر الذي شاهدته في تلك السّنة.

كلّ الحكايات تبدأ من القدس

ترجع بدايات السينما الفلسطينية إلى أوائل القرن العشرين، إذ يقال إنّ دار العرض الأولى في فلسطين كانت بمدينة القدس وأطلق عليها اسم "أوراكل". وقد بدأت دور السينما بالازدهار بالتزامن مع إصدار الاحتلال البريطاني عام 1927 لقانون خاص بالأشرطة السينمائية، يفرض من خلاله الرقابة على عروض السينما والدعاية الخاصّة بها. رغم ذلك، شهدت فترة الثلاثينيات انتشاراً لدور السينما في مختلف المدن الفلسطينية الكبرى، وقد قامت هذه الدّور بعرض الأفلام العربية والأجنبية.

 سينما النّصر وسط غزّة التي لم يزل يعتليها اللون الأسود، تعتبر دليلاً على ما حدث من تحولات ثقافية واجتماعية خطيرة في المجتمع الفلسطيني، وتحديداً الغزّي منذ ثمانينيات القرن الماضي

أما قطاع غزّة، فقد كانت فترة الأربعينيات بدايةً لظهور دور السينما في محافظاته، وقد تمثّل هذا في سينما السامر التي أفتتحت في العام 1944، ثمّ شهدت العقود الثلاثة التالية انتشاراً واسعاً لدور العرض، حتى وصل عددها إلى عشر مع أواخر سبعينيات القرن الماضي. ومن أهم هذه الدّور: سينما السامر، سينما النصر، سينما عامر، سينما السلام، سينما الحرية في خانيونس، سينما صابرين، سينما النهضة، سينما الحرية في رفح، سينما الشاطئ، سينما الجلاء.

استبدال القبل بالذقون الطويلة

اشتهرت سينما النّصر بعرضها للأفلام الرومانسية، بينما اشتهرت سينما السامر بعرضها للأفلام القديمة، في الوقت الذي واظبت فيه سينما الجلاء على عرض الأفلام الفنتازية والعنيفة. وقد شهدت هذه العروض إقبالاً كبيراً من الناس في قطاع غزّة، حيث شكّلت هذه السينما نافذةً على زمن مواز غير موجود، يمكن من خلالها رؤية الحياة الطبيعية البعيدة عن تعقيدات الحياة اليومية التي لا تخلو من الدّم سواء السائل من فم مذيع الراديو، أو السائل من أجساد الشباب على الأرض.

رغم ذلك، تم إغلاق سينما النّصر كما تم إغلاق غيرها من دور العرض، وعلى الرّغم من إرجاع أسباب ذلك لأحداث الانتفاضة الأولى وتهديدات الإحتلال المستمرة، إلا أنّ السبب الحقيقي وراء ذلك ظهر بعدما قامت السلطة الفلسطينية بإعادة افتتاح سينما النصر في عام 1994 إذ قامت مجموعة من الإسلاميين المتشددين بحرق سينما النّصر وغيرها من السينمات الموجودة في غزة، بعد عام واحد على إعادة العرض فيها، في تصرّف يدلّ على تحوّل اجتماعي خطير على الواقع الفلسطيني يمكن رؤية تأثيره وتأمّله في الواقع المعاش اليوم.

البحث عن القبلة الأخيرة

لم يعرف تحديداً متى كانت المرة الأخيرة التي رأى فيها الجمهور القبلة الأخيرة تعرض على شاشة سينما النّصر، ولكن فيما يشبه البحث عن قبلة ضائعة وسط صحراء من السنوات، استمرّ عرض الأفلام في قطاع غزّة منتقلاً من القاعات السينمائية الكبيرة، إلى القاعات الصغيرة التي تشبه الفقاقيع الصابونية، إذ شهد القطاع عرضاً للأفلام داخل المراكز الثقافية والأندية الأدبية المتواضعة وبحضور محدود من الجمهور الذي كان يتم اختياره في كل مرة بعناية شديدة بعيداً عن ذقون الطويلة.

تم إغلاق سينما النّصر كما تم إغلاق غيرها من دور العرض، وعلى الرّغم من إرجاع أسباب ذلك لأحداث الانتفاضة الأولى وتهديدات الإحتلال المستمرة، إلا أنّ السبب الحقيقي وراء ذلك ظهر بعدما قامت السلطة الفلسطينية بإعادة افتتاح سينما النصر في عام 1994 إذ قامت مجموعة من الإسلاميين المتشددين بحرق سينما النّصر وغيرها من السينمات الموجودة في غزة

استبْدلتْ القبل الطويلة والحكايات الممتدة بأفلام قصيرة تعرض خلال الأسابيع السينمائية التي لم تخلُ مرةً من المضايقات، سواء كانت هذه المضايقات على شكل إلغاء أو قطع للكهرباء. وقد كان مركز رشاد الشّوا وجمعية الهلال الأحمر من الأماكن التي يعرض فيها أفلام من وقت إلى آخر، وبالتأكيد لم تكن هذه الأفلام يوماً رومانسية ولا يوجد فيها حتّى تلميح لقبلة، بل اقتصرت على الأفلام الخاصة برفع الحس الوطني، والأفلام التي تسجّل الحياة اليومية للفلسطينيين على الحواجز وأثناء ليالي الحرب الطويلة. وقد تم تعويض أشرطة الفيديو التي راقبها الاحتلال البريطاني يوماً في دليل على أهمّيتها وتأثيرها على الواقع الفلسطيني، بسيديهات دي في دي لم تتمكن من عرض معلومة واحدة عن القبلة الأخيرة في سينما النّصر.

الدموع التي لم تتوقف عن الانهمار

بعيداً عن الأثر الاجتماعي الملموس الذي خلّفه إغلاق سينما النّصر وغيرها من دور السينما في قطاع غزّة على سلوك الناس، هناك أثر خفي لا يمكن تجاهله، على الرغم من عدم الانتباه إليه في غالب الأحيان، وهو الأثر المتعلّق بالخيال. فإنّ غياب السينما أثّر على خيال السّكان بشكل ملحوظ لكل من يتأمّل هذا، وربما يظهر هذا بشكل حقيقي في كتابات الشعراء والأدباء، وفي لوحات الرسامين التي غابت مفردة السينما عنها سواء بشكلها المتخيّل أو شكلها الحقيقي، مما أدى إلى محدودية الأفق في الكتابات المنشورة، وفي اللوحات المرصوصة في المعارض.

كما أنّ محدودية الخيال هذه كان لها أثر جلي على الحالة الثقافية التي تحوّلت جلساتها من جلسات تبحث في الإنسان، إلى جلسات تبحث عن الإنسان. فلو كانت سينما النصر على الأقل ما زالت موجودة، لكان الناس أكثر قدرة على إظهار الحب، وأكثر قدرة على الدخول إلى عوالم جديدة تُشيّد في الخيال. إذ إنّ غياب السينما لم يكن وحيداً، بل رافقه غياب للمسرح الذي ما عاد يذكر حتى على سبيل التّذكر في جلسات المثقفين الذين باتوا يبحثون عن دموع الحب الذي غاب عنهم.

العرض الأخير في سينما النصر

لم يكن العرض الأخير فيلماً رومانسياً، فلا قُبل فيه، ولا مشاهد حبّ بين بطل وبطلة، ولكن عندما دخلت السينما لأوّل مرة في حياتي عام 2018، تحوّلت فجأة الواجهة الأمامية لقاعة السينما في مارينا مول بأبو ظبي إلى واجهة سينما النّصر التي مشيت كثيراً من أمامها متأملاً آثار الحرق على جدرانها، ولم أمتلك في أيّ مرة أن أتلمّس هذه الجدران. لم يكن الفيلم المعروض هو فيلم "لحن السعادة" الذي عرض الأفيش الخاص به على واجهة سينما النّصر سنة 1960، ولكنّه كان فيلم Johnny English Strikes Agian بطولة Rowan Atkinson المشهور بـ "مستر بين".

لم يكن الفيلم رومانسياً، ما جعلني أدخل التراجيديا من بابها الواسع، فبعد ثلاث وعشرين سنة من عدم رؤية أي قاعة سينما مفتوحة ولا حتى أفيش فيلم معلّق على جدار، رأيت نفسي أدخل السينما لأحضر فيلماً كوميدياً. وليكتمل المشهد تراجيدية كانت مقاعد صالة العرض فارغة، تماماً كمقاعد سينما النّصر التي ما زالت فارغة ومنسيّة منذ 27 عاماً، لذلك لم أر مشهداً رومانسياً واحداً، ولم يكن هناك عاشقان في المقاعد الخلفية يتبادلان الأحاديث والقبل كما كان يحدث في الأفلام المصرية القديمة.

كنت ألتهم الفشار حبّةً تلو أخرى، مبتعداً عن الفيلم الذي يعرض أمامي. تحوّلت الجدران حولي إلى اللون الأسود، رأيتني أدخل سينما النّصر مثلما حدث وتخيلت ذلك كثيراً. مستر بين يقف في منتصف الحائط، بملامحه الغضّة الغريبة والمثيرة للدهشة، لا كلمات تخرج منه في المشاهد المتتالية ولا قبل. أشياء كانت تسقط من سقف السينما.وأشياء تشبه الأحلام أو اليأس. عندما كان مستر بين يزور غزّة للمرة الأولى، ولم يكن الفيلم هو عرض لفيلم كوميدي في سينما بالإمارات، بل كان فيلماً رومانسياً أشاهده في العرض الأخيرة لسينما النصر. وكانت شاشة الهاتف تعرض العام 1995.

بعد ثلاث وعشرين سنة من عدم رؤية أي قاعة سينما مفتوحة ولا حتى أفيش فيلم معلّق على جدار، رأيت نفسي أدخل السينما لأحضر فيلماً كوميدياً. وليكتمل المشهد تراجيدية كانت مقاعد صالة العرض فارغة، تماماً كمقاعد سينما النّصر التي ما زالت فارغة ومنسيّة منذ 27 عاماً

يظلّ غياب السينما في قطاع غزة بمثابة الباب الذي يفتح على أماكن أخرى بعيدة عن الحب والخيال، مما يشكّل حالة تأزّم حقيقية ودائمة التطوّر في خيالات الكتّاب، وقد كنت دائماً واحداً منهم قبل الخروج من القوقعة. أما الآن فيمكنني رؤية السينما على الأرصفة وفي المواصلات وفي أحاديث الأصدقاء الكتّاب، الذين لم يتوقفوا عن تخيّل العرض الأخير في سينما النصر، حتى صار لكلّ منهم عرضه الخاص الذي يداريه -لا إرادياً- عن آذان الآخرين. 

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard