شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
فقط هنا يباع البحر ويورّث... رحلة إلى جزر قرقنة التونسية

فقط هنا يباع البحر ويورّث... رحلة إلى جزر قرقنة التونسية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رود تريب

السبت 14 يناير 202301:31 م

يروي محدثنا الذي بالكاد بلغ الثلاثين من عمره أن حلول الساعة الثامنة من مساء كل يوم تعني قدوم موعد روتيني مجازي يتمثل في القيام بإنزال العلم التونسي من فوق أسطح الدوائر الرسمية بالجزيرة، أمر قد يكون صادماً لمن لا يدرك كنه قصة العزلة القسرية التي تنطلق في هذا الموعد، تحديداً بتوقف السفرات باستعمال العبّارات البحرية (اللود بالتسمية المحلية) خصوصاً في فصل الشتاء حيث يتحتم على كل مريض أن يؤجل مرضه أو أن يضبطه على ساعة الرحلات. وهو  أمر ينسحب على الحالات الطارئة والمؤكدة التي وجب أن تنضبط أيضاً لهذا التوقيت. يمعن محدثنا الشاب في وضع الملح على الجرح بمنتهى العفوية قائلاً إنه طوال سنوات حياته لم يحظَ بفرصة زيارة العاصمة "تونس" سوى مرة واحدة فقط كانت حين قرر رفقة بعض أصدقائه الهجرة بشكل سري نحو السواحل " الإيطالية " انطلاقاً من الجزيرة قبل أن يضبطهم حرس الحدود البحري ويعيدهم إلى ديارهم ولكن مروراً بالعاصمة قصد استكمال بعض الإجراءات الإدارية والأمنية.


 وكانت تلك هي المرة الأولى التي قدّر له فيها أن يرى تونس العاصمة بأم عينه ليسترسل في سرد ذكرياته المحافظة على نفس الإيقاع إذ حين شدّه الحنين مرة أخرى لرؤية العاصمة أعاد خوض تجربة الهجرة السرية مرة أخرى.

في حال استفقتم صباحاً ولم تجدوا البحر

إن تزامن وصولك إلى جزر قرقنة ليلاً بعدما كنتم قد اخترتم أن تكون إقامتكم في نزل أو في بيت معد للزائرين، مطلّ على البحر في الحالتين، وفتحتم النافذة صباحاً ولم تجدوا البحر، فلا تجزعوا، فلم يقم المسوغ أو شركة السياحة بخداعكم ولكن ذلك هو واحد من قوانين الطبيعة هناك، حيث حركة الجزّر حادة، لكنكم حين تحركون بصركم ستلاحظون حتماً أن مساحات من البحر المتعري لتوّه موزعة على مقاسم متفاوتة المساحة يحددها جريد النخل المغروس بعناية في رمل البحر.


 هذه المرة لم يخدعكم بصركم وما رأيتموه هو حقيقة، فالبحر هناك يقسّم ويوزع على ملكيّات، بل يورّث ويباع تماماً كما تباع الأراضي على اليابسة، وهو أمر تنفرد به الجزيرة ربما في الكوكب بأسره. ينضبط الأمر في جزر قرقنة للعرف وفق نظام مخصوص يحدد طرق البيع وآليات التوريث، لكنه يدخل أيضاً تحت طائلة القانون التونسي الذي يسمح به ويبت في النزاعات التي تحدث داخله.

إن تزامن وصولكم إلى جزر قرقنة الليلَ بعدما كنتم قد اخترتم أن تكون إقامتكم في نزل أو في بيت معد للزائرين، مطلّ على البحر في الحالتين، وفتحتم النافذة صباحاً ولم تجدوا البحر، لا تجزعوا، فلم يقم المسوغ أو شركة السياحة بخداعكم

في تلك المقاسم يضع الملّاك من البحارة فخاخاً مصنوعة من سعف النخل يطلق عليها محلياً تسمية "الدرينة" وهي طريقة صيد تقليدية يقع تطبيقها بعد قياس مستوى ارتفاع الماء ومكان توجه التيار المائي المعروف في التسمية المحلية بالـ"الكرينتي" حين تنخدع الأسماك بالدخول إلى الفخ بطريقة لا يمكنها مغادرته وهذه الطريقة صديقة للبيئة من حيث نظافتها وخصوصاً لكونها تسمح لصغار الأسماك ذات الحجم المتوسط والصغير بالمغادرة من الثقوب الموجودة في الفخ، وهو أمر يساهم بشكل كبير في المحافظة على التوازن البيئي.

وفي حال استفقتم صباحاً ولم تجدوا السكان

على المستوى الوطني ووفقاً للإحصائيات المنشورة رسمياً، فإن جزر قرقنة هي واحدة من أهم المناطق في تونس على مستوى التحرك الديمغرافي وذلك بتسجيل تحول سنوي بين الموسم الصيفي ونظيره الشتوي (لاختفاء بقية الفصول في تونس منذ سنوات وتلك قصة أخرى نعود عليها مرة أخرى) بفارق سكاني يفوق المائة وخمسين ألف ساكن تقريباً حيث تعد الجزيرة ملاذاً سياحياً في مواسم الصيف سواء بعودة السكان الذين دفعتهم أشغالهم والتزاماتهم إلى هجرها طوال السنة أو الوافدين من تونس وخارجها والذين يحملون بدورهم قصصاً مختلفة عن سحر المرور بتلك القطعة المركبة بقطع جمال الطبيعة ولذة مطبخها وسلامها النفسي.

البحر في جزر قرقنة يقسّم ويوزع على ملكيّات بل يورّث ويباع تماماً كما تباع الأراضي على اليابسة، وهو أمر تنفرد به الجزيرة

سلام نفسي لا ينتهي بانتهاء الفصل الصيفي بل هو ينطلق مع الموسم الشتوي في رواية أخرى تهم الباحثين عن الهدوء وعن الانقطاع عن بقية العالم بهدف العودة مجدداً بنشاط أكبر ودماغ صاف.

وفي حال دخلتم إلى حفل عرس ولم تكونوا مدعوين

للحظة واحدة هل يمكنكم أن تتخيلوا أن يجلس مدرب غير برازيلي على دكة احتياط فريق راقصي السامبا؟ إذا كان الأمر كذلك فإنكم ربما لا تعرفون كرة القدم أو على الأقل لا تعرفون كواليسها ودقائق أمورها المخفية.

أمر إن صادف واعتمدتموه في خيالكم فسيكون بوسعكم أيضاً التفكير في أن حفل عرس في جزر قرقنة يمكن أن يقام دون حضور طبال قرقنة أو الفرق الموسيقية ذات اللباس الأبيض والأحمر المميز والتي تصنع فرادتها من خلال موسيقاها الخاصة لحناً وإيقاعاً، وخصوصاً من خلال الكلمات التي تتغنى في مجملها بجمال الجزيرة وكرم أهلها وعدد من الملاحم والشخصيات الذين كانوا مؤثرين في الذاكرة المحلية والوطنية والإنسانية والذين ينتسبون للجزيرة.


المنتسبون للجزيرة والمرتبطون بها إدارياً وعاطفياً حتى وإن أجبرتهم الحياة على مغادرتها فإن موسيقاهم تتبعهم أنّى كانوا خصوصاً في حفلات الأعراس حيث يحرصون على حضور طبال قرقنة بكل تفاصيله، كأنهم في الجزيرة ولم يبارحوها. تلك الموسيقى باتت اليوم تحظى بانتشار واسع جعل حضورها في حفلات الاعراس في الكثير من المناطق التونسية أمراً لا غنى عنه.

إذا صودف ودخلتم عرساً في جزر قرقنة فلن تجدوا أحداً يسألكم عن بطاقة الدعوة، بل ستكونون محلَّ كرم وحفاوة بالغين، هذا علاوة على ما ستخرجون به من مشهدية غير تقليدية تشبه عملاً مسرحياً

إذا وصودف ودخلت عرساً في "جزر قرقنة" فلن تجد أحداً يسألك عن بطاقة الدعوة أو عن حضورك مع أهل العريس أو مع أهل عروسه بل ستكون محل كرم وحفاوة بالغين، هذا علاوة على ما ستخرج به من مشهدية غير تقليدية تهم مراحل العرس المتتالية والتي تشبه عملاً مسرحياً متكاملاً.

وفي حال شعرت بالعطش

يحدث أن تجلسوا بعد تعب السير على القدمين خصوصاً إذا كانت رحلتكم إلى جزر قرقنة دون دليل يرشدكم لتختاروا المكوث تحت جذع نخلة لتلاحظوا أن بعض أشجار النخل الموزعة أمامكم قد فقدت نضارتها أو ربما ماتت واقفة. لا يتعلق الأمر بجدب أو بوباء بل لأن ذلك يعود إلى عادة "حجامة النخل" المنتشرة في الجزيرة تماماً كما في بعض المناطق الأخرى في الجنوب التونسي تحديدا.

الحجامة هدفها استخراج النسغ المستقر في جذع شجرة النخل بعد قص جزئها العلوي وتثبيت "القلال" الفخارية التي يتجمع فيها السائل تدريجياً. عصير تختلف تسمياته في تونس من  السحنت إلى القيشم إلى الكيلاو إلى اللاقوم.  ولكنه في جزر قرقنة يحتفظ بتسمية "اللاقمي"، وللشارب فيه أن يختار بين أمرين، فإما أن يشربه "حياً" وهو في ذلك عصير بريء يشرب على موائد الإفطار في رمضان وفي غيره من أوقات السنة أو أن يشربه "ميتاً" وهو في ذلك شراب مسّكر بعد أن يكون قد تلقى بعض الإضافات الكيمياوية.

وفي حال شعرت بالجوع

يعتمد المطبخ "القرقني" كلياً ما يجود به البحر على امتداد السنة، وللسكان هناك طرق ووصفات خاصة في إعداد الأكلات تميزهم عن باقي المطابخ محلياً حتى وإن تطابقت المواد والمنتجات المستعملة. ففي تونس قاطبة يمكن أن نتحدث عن "الكسكسي بالقرنيط (الاخطبوط)" الذي نتذوقه في المدن الساحلية. وللحديث عن ذلك الكسكسي وجب علينا الاستيقاظ باكراً لأن ذلك في حيواتنا القصيرة قد يعد تجربة قد لا تكرر كثيراً.

اعتبارات قد تهم طزاجة المنتجات البحرية وجودتها العالية ودقة صنعة الطبخ وتطويع المواد المستعملة بشكل متوارث لأجيال كثيرة ومتعاقبة لكنها أيضاً تتعلق بذلك الجو العام من الراحة والسلام النفسيين اللذين ينزلان إلى القلب مباشرة تماماً كما تنزل تلك الجرعات من الهواء النقي إلى الرئتين المستغربتين من ذلك، هذا على اعتبار أن جزر قرقنة تبقى ملاذاً رئيسياً للهاربين من التلوثين الصناعي والبصري حتى أن مغادرتها بعد هذه الجولة القصيرة تبقى قاسية تماماً بمقدار قساوة خبزها الذي تشتهر به، خبز الصيادين المسمى محلياً بخبز "القليط" الذي بوسعه أن يقاوم الطبيعة أشهراً طويلة دون أن يتعفن أو أن يصيبه سوء.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image